ومن الأنعام والأشجار والثمار والنحل والعسل إلى لمسة أقرب إلى أعماق النفس البشرية ، لأنها في صميم ذواتهم : في أعمارهم وأرزاقهم وأزواجهم وبنيهم وأحفادهم . فهم أشد حساسية بها ، وأعمق تأثرا واستجابة لها :
( والله خلقكم ثم يتوفاكم ، ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا ، إن الله عليم قدير ) .
( والله فضل بعضكم على بعض في الرزق ، فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء . أفبنعمة الله يجحدون )?
( والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا ، وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ، ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون ؟ ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا ولا يستطيعون ؟ ) . .
واللمسة الأولى في الحياة والوفاة ، وهي متصلة بكل فرد وبكل نفس ؛ والحياة حبيبة ، والتفكر في أمرها قد يرد القلب الصلد إلى شيء من اللين ، وإلى شيء من الحساسية بيد الله ونعمته وقدرته . والخوف عليها قد يستجيش وجدان التقوى والحذر والالتجاء إلى واهب الحياة . وصورة الشيخوخة حين يرد الإنسان إلى أرذل العمر ، فينسى ما كان قد تعلم ، ويرتد إلى مثل الطفولة من العجز والنسيان والسذاجة . هذه الصورة قد ترد النفس إلى شيء من التأمل في أطوار الحياة ، وقد تغض من كبرياء المرء واعتزازه بقوته وعلمه ومقدرته . ويجيء التعقيب : ( إن الله عليم قدير )ليرد النفس إلى هذه الحقيقة الكبيرة . أن العلم الشامل الأزلي الدائم لله ، وأن القدرة الكاملة التي لا تتأثر بالزمن هي قدرة الله . وأن علم الإنسان إلى حين ، وقدرته إلى أجل ، وهما بعد جزئيان ناقصان محدودان .
هذا تنبيه على الاعتبار في إيجادنا بعد العدم وإماتتنا بعد ذلك ، ثم اعترض بمن ينكث من الناس ؛ لأنهم موضع عبرة{[7365]} ، و { أرذل العمر } ، آخرُه الذي تفسد فيه الحواس ويخْتل النطق ، وخص ذلك بالرذيلة ، وإن كانت حال الطفولية كذلك ، من حيث كانت هذه لأرجاء معها ، والطفولية إنما هي بدأة ، والرجاء معها متمكن ، وقال بعض الناس : أول أرذل العمر خمسة وسبعون سنة ، روي ذلك عن علي رضي الله عنه .
قال القاضي أبو محمد : وهذا في الأغلب ، وهذا لا ينحصر إلى مدة معينة وإنما هو بحسب إنسان إنسان ، والمعْنى : منكم من يرد إلى أرذل عمره ، ورب من يكون ابن خمسين سنة وهو في أرذل عمره ، ورب ابن مائة وتسعين ليس في أرذل عمره ، واللام في { لكي } يشبه أن يكون لام صيرورة ، وليس ببين ، والمعنى : ليصير أمره بعد العلم بالأشياء إلى أن لا يعلم شيئاً ، وهذه عبارة عن قلة علمه ، لا أنه لا يعلم شيئاً البتة ، ولم تحل { لا } بين «كي » ومعمولها لتصرفها ، وأنها قد تكون زائدة ، ثم قرر تعالى علمه وقدرته التي لا تتبدل ولا تحملها الحوادث ولا تتغير .
انتقال من الاستدلال بدقائق صنع الله على وحدانيته إلى الاستدلال بتصرّفه في الخلق التصرّفَ الغالب لهم الذي لا يستطيعون دفعهُ ، على انفراده بربوبيّتهم ، وعلى عظيم قدرته . كما دلّ عليه تذييلها بجملة { إن الله عليم قدير } فهو خَلقهم بدون اختيار منهم ثم يتوفّاهم كَرهاً عليهم أو يردّهم إلى حالة يكرهونها فلا يستطيعون ردّاً لذلك ولا خلاصاً منه ، وبذلك يتحقّق معنى العبودية بأوضح مظهر .
وابتدئت الجملة باسم الجلالة للغرض الذي شرحناه عند قوله تعالى : { والله أنزل من السماء ماء } [ سورة النحل : 65 ] . وأما إعادة اسم الجلالة هنا دون الإضمار فلأن مقام الاستدلال يقتضي تكرير اسمَ المستدلّ بفتح الدال على إثبات صفاته تصريحاً واضحاً .
وجيء بالمسند فعلياً لإفادة تخصيص المسند إليه بالمسند الفعلي في الإثبات ، نحو : أنا سعيت في حاجتك . وقد تقدم نظيره في قوله تعالى : { والله أنزل من السماء ماء } . فهذه عبرة وهي أيضاً منّة ، لأن الخلق وهو الإيجاد نعمة لشرف الوجود والإنسانية ، وفي التوفّي أيضاً نعم على المتوفّى لأن به تندفع آلام الهَرم ، ونعم على نوعه إذ به ينتظم حال أفراد النوع الباقين بعد ذهاب من قبلهم ، هذا كلّه بحسب الغالب فرداً ونوعاً ، والله يخصّ بنعمته وبمقدارها من يشاء .
ولما قوبل « ثم توفّاكم » بقوله تعالى : { ومنكم من يرد إلى أرذل العمر } علم أن المعنى ثم يتوفّاكم في إبان الوفاة ، وهو السنّ المعتادة الغالبة لأن الوصول إلى أرذل العمر نادر .
والأرذل : تفضيل في الرذالة ، وهي الرداءة في صفات الاستياء .
و { العمر } : مدة البقاء في الحياة ، لأنه مشتقّ من العَمْر ، وهو شغل المكان ، أي عَمر الأرض ، قال تعالى : { وأثاروا الأرض وعمروها } [ سورة الروم : 9 ] . فإضافة { أرذل } إلى { العمر } التي هي من إضافة الصّفة إلى الموصوف على طريقة المجاز العقلي ، لأن الموصوف بالأرذل حقيقة هو حال الإنسان في عمره لا نفسُ العُمر . فأرذل العمر هو حال هرم البدن وضعف العقل ، وهو حال في مدة العمر . وأما نفس مدّة العمر فهي هي لا توصف برذالة ولا شرف .
والهرم لا ينضبط حصوله بعدد من السنين ، لأنه يختلف باختلاف الأبدان والبلدان والصحة والاعتلال على تفاوت الأمزجة المعتدلة ، وهذه الرذالة رذالة في الصحّة لا تعلّق لها بحالة النفس ، فهي مما يعرض للمسلم والكافر فتسمّى أرذل العمر فيهما ، وقد استعاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يردّ إلى أرذل العمر .
ولام التعليل الداخلة على ( كي ) المصدرية مستعملة في معنى الصيرورة والعاقبة تشبيهاً للصيرورة بالعلّة استعارة تشير إلى أنه لا غاية للمرء في ذلك التعمير تعريضاً بالناس ، إذ يرغبون في طول الحياة ؛ وتنبيهاً على وجوب الإقصار من تلك الرغبة ، كأنه قيل : منكم من يردّ إلى أرذل العمر ليصير غير قابل لعلم ما لم يعلمه لأنه يبطىء قبولُه للعلم .
وربّما لم يتصوّر ما يتلقاه ثم يسْرع إليه النسيان . والإنسان يكره حالة انحطاط علمه لأنه يصير شبيهاً بالعجماوات .
واستعارة حرف العلّة إلى معنى العاقبة مستعملة في الكلام البليغ في مقام التوبيخ أو التخطئة أو نحو ذلك . وتقدم عند قوله تعالى : { إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً } في سورة آل عمران : ( 178 ) . وقد تقدّم القول قريباً في ذلك عند قوله تعالى : { إذا فريق منكم بربّهم يشركون ليكفروا بما ءاتيناهم } في هذه السورة ( 55 ) .
وتنكير { علم } تنكير الجنس . والمعنى : لكيلا يعلم شيئاً بعد أن كان له علم ، أي ليزول منه قبول العلم .
وجملة { إن الله عليم قدير } تذييل تنبيهاً على أن المقصود من الجملة الدلالة على عظم قدرة الله وعظم علمه . وقدم وصف العليم لأن القدرة تتعلّق على وفق العلم ، وبمقدار سعة العلم يكون عظم القدرة ، فضعيف القدرة يناله تعب من قوة علمه لأن همّته تدعوه إلى ما ليس بالنائل ، كما قال أبو الطيّب :
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.