ثم نعود بعد هذا الاستطراد إلى صلب القصة وإلى صلب السياق . إن السياق لا يثبت أن الملك وافق . فكأنما يقول : إن الطلب تضمن الموافقة ! زيادة في تكريم يوسف ، وإظهار مكانته عند الملك . فيكفي أن يقول ليجاب ، بل ليكون قوله هو الجواب . . ومن ثم يحذف رد الملك ، ويدع القاريء يفهم أنه أصبح في المكان الذي طلبه .
ويؤيد هذا الذي نقوله تعقيب السياق :
( وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء . ولا نضيع أجر المحسنين . . ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون ) . .
فعلى هذا النحو من إظهار براءة يوسف ، ومن إعجاب الملك به ، ومن الاستجابة له فيما طلب . . على هذا النحو مكنا ليوسف في الأرض ، وثبتنا قدميه ، وجعلنا له فيها مكانا ملحوظا . والأرض هي مصر . أو هي هذه الأرض كلها باعتبار أن مصر يومذاك أعظم ممالكها .
يتخذ منها المنزل الذي يريد ، والمكان الذي يريد ، والمكانة التي يريد . في مقابل الجب وما فيه من مخاوف ، والسجن وما فيه من قيود .
فنبدله من العسر يسرا ، ومن الضيق فرجا ، ومن الخوف أمنا ، ومن القيد حرية ، ومن الهوان على الناس عزا ومقاما عليا .
الذين يحسنون الإيمان بالله ، والتوكل عليه ، والاتجاه إليه ، ويحسنون السلوك والعمل والتصرف مع الناس . . هذا في الدنيا .
وقوله تعالى : { وكذلك مكنا ليوسف } الآية ، الإشارة بذلك إلى ما تقدم من جميل صنع الله به كهذه الفعال المنصوصة ، درجناه في الرتب ونقلناه فمكنا له في الأرض .
قال القاضي أبو محمد : فروي أن العزيز مات في تلك الليالي ، وقال ابن إسحاق : بل عزله الملك ثم مات أطفير ، فولاه الملك مكانه وزوجه زوجته ، فلما دخلت عليه عروساً قال لها : أليس هذا خيراً مما كنت أردت ؟ فقالت له : أيها الصديق كنت في غاية الجمال ، وكنت شابة عذراء ، وكان زوجي لا يطأ ، فغلبتني نفسي في حبك ، فدخل يوسف بها فوجدها بكراً ، وولدت له ولدين . وروي أن الملك عزل العزيز ، وولاه موضعه ، ثم عظم ملك يوسف وتغلب على حال الملك أجمع ، قال مجاهد : وأسلم الملك آخر أمره ، ودرس أمر العزيز وذهبت دنياه ، ومات وافتقرت زوجته ، وزمنت وشاخت ، فلما كان في بعض الأيام . لقيت يوسف في طريق ، والجنود حوله ووراءه ، وعلى رأسه بنود عليها مكتوب { هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ، وسبحان الله ، وما أنا من المشركين }{[6734]} [ يوسف : 108 ] فصاحت به وقالت : سبحان من أعز العبيد بالطاعة ، وأذل الأرباب بالمعصية ، فعرفها ، وقالت له : تعطف عليَّ وارزقني شيئاً فدعاها وكلمها ، وأشفق لحالها ، ودعا الله تعالى ، فرد عليها جمالها وتزوجها .
قال القاضي أبو محمد : وروي في نحو هذا من القصص ما لا يوقف على صحته ، ويطول الكلام بسوقه . وقرأ الجمهور : { حيث يشاء } على الإخبار عن يوسف ؛ وقرأ ابن كثير وحده { حيث نشاء } بالنون على ضمير المتكلم . أي حيث يشاء الله من تصرف يوسف على اختلاف تصرفه ، وحكى أبو حاتم هذه القراءة عن الحسن وشيبة ونافع وأبي جعفر بخلاف عن الثلاثة المدنيين ؛ وقال أبو علي : إما أن يكون تقدير هذه القراءة : حيث يشاء من المحاريب والمتعبدات وأحوال الطاعات ، فهي قرب يريدها الله ويشاؤها ؛ وإما أن يكون معناها : حيث يشاء يوسف ، لكن أضاف الله عز وجل المشيئة التي ليوسف إليه من حيث هو عبد من عبيده ، وكانت مشيئته بقدرة الله تعالى وقوته كما قال : { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى }{[6735]} [ الأنفال : 17 ] .
قال القاضي أبو محمد : وهذا كله من أبي علي نزعة اعتزالية ، وتحفظ من أن أفعال العباد من فاعلين ، فتأمله .
واللام في قوله : { مكنا ليوسف } يجوز أن تكون على حد التي في قوله { ردف لكم }{[6736]} [ النمل : 72 ] و { للرؤيا تعبرون }{[6737]} [ يوسف : 43 ] . وقوله : { يتبوأ } في موضع نصب على الحال ، و { حيث يشاء } نصب على الظرف أو على المفعول به ، كما قال الشماخ : حيث تكوى النواحز{[6738]} . وباقي الآية بين .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وكذلك مكنا ليوسف}، يعني وهكذا مكنا ليوسف الملك {في الأرض}، في أرض مصر، ل {يتبوأ}، يقول: ينزل {منها حيث يشاء نصيب برحمتنا}، يعني سعتنا {من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين}، يعني: نوفيه جزاءه، فجزاه الله بالصبر على البلاء، والصبر على المعصية بأن ملكه على مصر.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وهكذا وطأنا ليوسف في الأرض، يعني أرض مصر. {يَتَبَوّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ} يقول: يتخذ من أرض مصر منزلاً حيث يشاء بعد الحبس والضيق. {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ} من خلقنا، كما أصبنا يوسف بها، فمكنّا له في الأرض بعد العبودة والإسار وبعد الإلقاء في الجبّ. {وَلا نُضِيعُ أجْرَ المُحْسِنِينَ} يقول: ولا نُبطل جزاء عمل من أحسن فأطاع ربه وعمل بما أمره وانتهى عما نهاه عنه، كما لم نبطل جزاء عمل يوسف إذ أحسن فأطاع الله... عن السديّ: {وكذلكَ مَكّنا ليُوسُفَ فِي الأرْضِ يَتَبَوّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ} قال: استعمله الملك على مصر، وكان صاحب أمرها، وكان يلي البيع والتجارة وأمرها كله، فذلك قوله: {وكذلكَ مَكنّا لِيُوسُفَ فِي الأرْضِ يَتَبَوّأُ مِنْها حَيْثُ يشاءُ}...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ} يقول، والله أعلم: كما برأنا يوسف مما قرف به وأظهرنا براءته منه، مكنا له في الأرض حتى احتاج أهل نواحي مصر وأهل الآفاق إليه. أو أن يقال: كما حفظناه وأنجيناه مما قصده به إخوته من الهلاك، مكنا له في الأرض..
{نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ} يحتمل قوله: {برحمتنا} سعة الدنيا ونعيمها كقوله: {ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها} [فاطر]...
واعلم أن قوله: {يتبوأ منها حيث يشاء} يدل على أنه صار في الملك بحيث لا يدافعه أحد، ولا ينازعه منازع بل صار مستقلا بكل ما شاء وأراد...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
و لما سأل ما تقدم، قال معلماً بأنه أجيب بتسخير الله له: {وكذلك} أي و مثل ما مكنا ليوسف في قلب الملك من المودة والاعتقاد الصالح وفي قلوب جميع الناس، ومثل ما سأل من التمكين {مكنا} أي بما لنا من العظمة {ليوسف في الأرض} أي مطلقاً لا سيما أرض مصر بتولية ملكها إياه عليها {يتبوأ} أي يتخذ منزلاً يرجع إليه، من باء -إذا رجع، {منها حيث يشاء} بإنجاح جميع مقاصده، لدخولها كلها تحت سلطانه. لتبقى أنفس أهل المملكة وما ولاها على يده، فيجوز الأجر وجميل الذكر مع ما يزيد يه من علو الشأن وفخامة القدر، فكأنه قيل: لم كان هذا؟ فقال: لأمرين: أحدهما أن لنا الأمر كله {نصيب} على وجه الاختصاص {برحمتنا} بما لنا من العظمة {من نشاء} من مستحق فيما ترون وغيره، لا نسأل عما نفعل، وقد شئنا إصابة يوسف بهذا، والثاني أنه محسن يعبد الله فانياً عن جميع الأغيار {و} نحن {لا نضيع} بوجه {أجر المحسنين} أي العريقين في تلك الصفة وإن كان لنا أن نفعل غير ذلك؛ ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
... إن السياق لا يثبت أن الملك وافق. فكأنما يقول: إن الطلب تضمن الموافقة! زيادة في تكريم يوسف، وإظهار مكانته عند الملك. فيكفي أن يقول ليجاب، بل ليكون قوله هو الجواب.. ومن ثم يحذف رد الملك، ويدع القارئ يفهم أنه أصبح في المكان الذي طلبه. ويؤيد هذا الذي نقوله تعقيب السياق: (وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء. ولا نضيع أجر المحسنين.. ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون).. فعلى هذا النحو من إظهار براءة يوسف، ومن إعجاب الملك به، ومن الاستجابة له فيما طلب.. على هذا النحو مكنا ليوسف في الأرض، وثبتنا قدميه، وجعلنا له فيها مكانا ملحوظا. والأرض هي مصر. أو هي هذه الأرض كلها باعتبار أن مصر يومذاك أعظم ممالكها. (يتبوأ منها حيث يشاء).. يتخذ منها المنزل الذي يريد، والمكان الذي يريد، والمكانة التي يريد. في مقابل الجب وما فيه من مخاوف، والسجن وما فيه من قيود. (نصيب برحمتنا من نشاء).. فنبدله من العسر يسرا، ومن الضيق فرجا، ومن الخوف أمنا، ومن القيد حرية، ومن الهوان على الناس عزا ومقاما عليا. (ولا نضيع أجر المحسنين).. الذين يحسنون الإيمان بالله، والتوكل عليه، والاتجاه إليه، ويحسنون السلوك والعمل والتصرف مع الناس.. هذا في الدنيا...
وهكذا كان تمكين الله ليوسف عليه السلام في الأرض، بحيث أدار شؤون مصر بصورة حازمة؛ عادلة؛ فلما جاء الجدب؛ لم يأتها وحدها؛ بل عم البلاد التي حولها. بدليل أن هناك أناسا من بلاد أخرى لجأوا يطلبون رزقهم منها؛ والمثل: إخوة يوسف الذين جاءوا من الشام يطلبون طعاما لهم ولمن ينتظرهم في بلادهم، فهذا دليل على أن رقعة الشدة كانت شاسعة. وقول الحق سبحانه: {وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء}... يعني: شيوع العناية بالخدمات لكل الذين يسكنون في هذا البلد؛ فلا تأخذ الأمر على أنه ترف وشرف، بل خذ هذا القول على أنه تكليف سينتفع به المحيطون، سواء كانوا مقصودين به أو غير مقصودين. وتلك لقطة توضح أن التبوؤ حيث يشاء ليس رحمة به فقط؛ ولكنه رحمة بالناس أيضا. ولذلك يقول الحق سبحانه في نفس الآية: {نصيب برحمتنا من نشاء}... وينهي الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله: {ولا نضيع أجر المحسنين} والمحسن هو الذي يصنع شيئا فوق ما طلب منه... وسبحانه يجازي المحسنين بكمال وتمام الأجر، وقد كافأ يوسف عليه السلام بالتمكين مع محبة من تولى أمرهم.