( وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة ، فمستقر ومستودع . قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون )
إنها اللمسة المباشرة في هذه المرة . . اللمسة في ذات النفس البشرية . النفس البشرية الواحدة الموحدة الكنة والحقيقة في الذكر والأنثى . تبدأ الحياة فيها خطوتها الأولى للتكاثر بالخلية الملقحة . فنفس هي مستودع لهذه الخلية في صلب الرجل ، ونفس هي مستقر لها في رحم الأنثى . . ثم تأخذ الحياة في النمو والانتشار . فإذا أجناس وألوان ؛ وإذا شيات ولغات ؛ وإذا شعوب وقبائل ؛ وإذا النماذج التي لا تحصى ، والأنماط التي ما تزال تتنوع ما دامت الحياة .
( قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون ) . .
فالفقة هنا ضروري لإدراك صنع الله في هذه النفس الواحدة ، التي تنبثق منها النماذج والأنماط . ولإدراك الموافقات العجيبة الكامنة وراء اتخاذ التلاقح وسيلة للإكثار وتوفير الأعداد المناسبة دائما من الذكور والإناث - في عالم الإنسان - لتتم عملية التزاوج التي قدر الله أن تكون هي وسيلة الإخصاب والإكثار . ووسيلة تنشئة الأطفال في ظروف تحفظ " إنسانيتهم " وتجعلهم أكفاء للحياة " الإنسانية " !
ولا نملك هنا في الظلال أن نبعد في عرض هذه المسألة بكل تفصيلاتها لجلاء هذه الموافقات - فهي في حاجةإلى بحث متخصص - ولكننا نذكر فقط كيفية نشأة النطفة ذكرا أو أنثى وكيف يتم عن طريق التوزيع الغيبي الرباني إنتاج القدر الكافي من الذكور ومن الأنات دائما لكي تتوافر الأعداد المناسبة لبقاء الحياة وامتدادها . .
ولقد ذكرنا من قبل عند تفسير قوله تعالى : ( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ) . . أن الذي يقرر صيرورة البويضة الملقحة ذكرا أو أنثى ، هو أن يجري قدر الله بأن يكون عدد كروموسومات الحيوان المنوي الذي يلتحم بالبويضة يرجح كروموسومات التذكير على كروموسومات التأنيث أو العكس ، وأن جريان القدر بهذا أو ذاك غيب من غيب الله . لا سلطان لأحد عليه إلا الله . .
هذا القدر الذي يجريه الله في كل مرة ، فيهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور ، يحافظ على توازن دائم في الأرض كلها بين عدد من يجري بهم ليكونوا إناثا ، وعدد من يجري بهم ليكونوا ذكورا . فلا يقع اختلال - على مستوى البشرية كلها - في هذا التوازن . الذي عن طريقة يتم الإخصاب والإكثار ، وتتم به حياة زوجية مستقرة في الوقت ذاته . . ذلك أن الأخصاب والإكثار وحده قد يتم بأقل عدد من الذكور . . ولكن الله قدر في الحياة الإنسانية أن هذا ليس هو غاية الالتقاء بين الذكر والأنثى ؛ إنما الغاية - التي تميز الإنسان من الحيوان - هي استقرار الحياة الزوجية بين ذكر وأنثى . . لما وراء هذا الاستقرار من أهداف لا تتم إلا به . وأهمها استقرار الذرية في كنف أبوين في محيط أسرة ، ليتم إعداد هذه الذرية لدورها " الإنساني " الخاص - فوق إعدادها لتحصيل القوت وحماية النفس كالحيوان - والدور " الإنساني " الخاص يحتاج إلى الاستقرار بين أبوين في أسرة فترة أطول جدا مما تحتاج إليه طفولة الحيوان !
وهذه الموازنة الدائمة تكفي وحدها لتكون آية على تدبير الخالق وحكمته وتقديره . . ولكن لقوم يفقهون : ( قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون ) . .
أما المطموسون المحجوبون . . وفي أولهم أصحاب " العلمية " الذين يسخرون من " الغيبية " . فإنهم يمرون على هذه الآيات كلها مطموسين محجوبين : " وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها " .
يقول تعالى : { وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } يعني : آدم عليه السلام ، كما قال : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً } [ النساء : 1 ] .
وقوله : { فَمُسْتَقَرٌ } اختلفوا في معنى ذلك ، فعن ابن مسعود ، وابن عباس ، وأبي عبد الرحمن السلمي ، وقيس بن أبي حازم ومجاهد ، وعطاء ، وإبراهيم النخعي ، والضحاك وقتادة والسُّدِّي ، وعطاء الخراساني : { فَمُسْتَقَرٌ } أي : في الأرحام قالوا - أو : أكثرهم - : { وَمُسْتَوْدَعٌ } أي : في الأصلاب .
وعن ابن مسعود وطائفة عكس ذلك . وعن ابن مسعود أيضا وطائفة : فمستقر في الدنيا ، ومستودع حيث يموت . وقال سعيد بن جُبَيْر : { فَمُسْتَقَرٌ } في الأرحام وعلى ظهر الأرض ، وحيث يموت . وقال الحسن البصري : المستقر الذي [ قد ]{[10987]} مات فاستقر به عمله . وعن ابن مسعود : ومستودع في الدار الآخرة .
والقول الأول هو الأظهر ، والله أعلم .
وقوله : { قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ } أي : يفهمون ويَعُون كلام الله ومعناه .
هذا تذكير بخلق الإنسان وكيف نشأ هذا العدد العظيم من نفْس واحدة كما هو معلوم لهم ، فالّذي أنشأ النّاس وخلقهم هو الحقيق بعبادتهم دون غيره ممّا أشركوا به ، والنّظر في خلقة الإنسان من الاستدلال بأعظم الآيات . قال تعالى : { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } [ الذاريات : 21 ] .
والقصر الحاصل من تعريف المسند إليه والمسند تعريض بالمشركين ، إذ أشركوا في عبادتهم مع خالقهم غيرَ من خلقهم على نحو ما قررتُه في الآية قبل هذه .
والإنشاء : الإحداث والإيجاد . والضّمير المنصوب مراد به البشر كلّهم . والنّفس الواحدة هي آدم عليه السّلام .
وقوله : { فمستقرّ } الفاء للتّفريع عن { أنشأكم } ، وهو تفريع المشتَمَل عليه المقارن على المشتمِل .
وقرأه الجمهور { مستقَر } بفتح القاف وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو ، وروح عن يعقوب « بكسر القاف » . فعلى قراءة فتح القاف يكون مصدراً ميمياً ، و { مستَودَع } كذلك ، ورفعهما على أنّه مبتدأ حُذف خبره ، تقديره : لكم أو منكم ، أو على أنّه خبر لمبتدأ محذوف تقديره : فأنتم مُستقرّ ومستودَع . والوصف بالمصدر للمبالغة في الحاصل به ، أي فتفرّع عن إنشائكم استقرار واستيداع ، أي لكم .
وعلى قراءة كسر القاف يكون المستقرّ اسم فاعل . والمستودَع اسم مفعول من استودعَه بمعنى أودعه ، أي فمستقِرّ منكم أقررناه فهو مستقرّ ، ومستودَع منكم ودّعناه فهو مستودَع . والاستقرار هو القرار ، فالسّين والتّاء فيه للتّأكيد مثل استجاب . يقال : استقرّ في المكان بمعنى قرّ . وتقدّم عند قوله تعالى : { لكلّ نبأ مستقرّ } في هذه السورة [ 67 ] .
والاستيداع : طلب التّرك ، وأصله مشتقّ من الوَدْع ، وهو التّرك على أن يُسترجع المستوْدَعُ . يقال : استودعه مالاً إذا جعله عنده وديعة ، فالاستيداع مؤذن بوضع موقّت ، والاستقرار مؤذن بوضع دائم أو طويل .
وقد اختلف المفسّرون في المراد بالاستقرار والاستيداع في هذه الآية مع اتّفاقهم على أنّهما متقابلان . فعَن ابن مسعود : المستقَرّ الكون فوق الأرض ، والمستودَع الكون في القبْر . وعلى هذا الوجه يكون الكلام تنبيهاً لهم بأنّ حياة النّاس في الدّنيا يعقبها الوضع في القبور وأنّ ذلك الوضع استيداع موقّت إلى البعث الّذي هو الحياة الأولى ردّاً على الّذين أنكروا البعث .
وعن ابن عبّاس : المستقرّ في الرّحم والمستودَع في صلب الرجل ، ونقل هذا عن ابن مسعود أيضاً ، وقاله مجاهد والضحْاك وعطاء وإبراهيم النخعي ، وفسّر به الزجّاج . قال الفخر : وممّا يدلّ على قوّة هذا القول أنّ النّطفة الواحدة لا تبقى في صلب الأب زماناً طويلاً والجنين يبقى في رَحم الأمّ زماناً طويلاً . وعن غير هؤلاء تفسيرات أخرى لا يثلج لها الصّدر أعرضنا عن التّطويل بها . وقال الطّبري إنّ الله لم يخصّص معنى دون غيره ، ولا شكّ أنّ من بني آدم مستقرّاً في الرّحم ومستودَعاً في الصلب ، ومنهم من هو مستقرّ على ظهر الأرض أو بطنها ومستودَع في أصلاب الرّجال ، ومنهم مستقرّ في القبر مستودَع على ظهر الأرض ، فكلّ مستقِرّ أو مستودع بمعنى من هذه المعاني داخل في عموم قوله : فمستقَرّ ومستودع } اه .
وقال ابن عطيّة : الّذي يقتضيه النّظر أنّ ابن آدم هو مستودَع في ظهر أبيه وليس بمستقرّ فيه لأنّه ينتقل لا محالة ثمّ ينتقل إلى الرّحم ثمّ ينتقل إلى الدّنيا ثمّ ينتقل إلى القبر ثمّ ينتقل إلى الحشر ثمّ ينتقل إلى الجنّة أو النّار . وهو في كلّ رتبة بين هذين الظرفين مستقِرّ بالإضافة إلى الّتي قبلها ومستودَع بالإضافة إلى الّتي بعدها اه .
والأظهر أن لا يقيّد الاستيداع بالقبور بل هو استيداع من وقت الإنشاء ، لأنّ المقصود التّذكير بالحياة الثّانية ، ولأنّ الأظهر أنّ الواو ليست للتّقسيم بل الأحسن أن تكون للجمع ، أي أنشأكم فشأنكم استقرار واستيداع فأنتم في حال استقراركم في الأرض ودائع فيها ومرجعكم إلى خالقكم كما ترجع الوديعة إلى مودِعها . وإيثار التّعبير بهذين المصدرين ما كان إلاّ لإرادة توفير هذه الجملة .
وعلى قراءة كسر القاف هو اسم فاعل . { ومستودع } اسم مفعول ، والمعنى هو هو .
وقوله : { قد فصّلنا الآيات لقوم يفقهون } تقرير لنظيره المتقدّم مقصود به التّذكير والإعذار .
وعدل عن ( يعلمون ) إلى { يفقهون } لأنّ دلالة إنشائهم على هذه الأطوار من الاستقرار والاستيداع وما فيهما من الحكمة دلالة دقيقة تحتاج إلى تدبّر ، فإنّ المخاطبين كانوا معرضين عنها فعبّر عن علمها بأنّه فِقه ، بخلاف دلالة النّجوم على حكمة الاهتداء بها فهي دلالة متكرّرة ، وتعريضاً بأنّ المشركين لا يعلمون ولا يفقهون ، فإنّ العلم هو المعرفة الموافقة للحقيقة ، والفقه هو إدراك الأشياء الدّقيقة . فحصل تفصيل الآيات للمؤمنين وانتفى الانتفاع به للمشركين ، ولذلك قال بعدَ هذا { إنّ في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون } [ الأنعام : 99 ] .