لهذا أدرك أبوه يعقوب بحسه وبصيرته أن وراء هذه الرؤيا شأنا عظيما لهذا الغلام . لم يفصح هو عنه ، ولم يفصح عنه سياق القصة كذلك . ولا تظهر بوادره إلا بعد حلقتين منها . أما تمامه فلا يظهر إلا في نهاية القصة بعد انكشاف الغيب المحجوب . ولهذا نصحه بألا يقص رؤياه على إخوته ، خشية أن يستشعروا ما وراءها لأخيهم الصغير - غير الشقيق - فيجد الشيطان من هذا ثغرة في نفوسهم ، فتمتليء نفوسهم بالحقد ، فيدبروا له أمرا يسوؤه :
( قال : يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا ) . .
( إن الشيطان للإنسان عدو مبين ) . .
ومن ثم فهو يوغر صدور الناس بعضهم على بعض ، ويزين لهم الخطيئة والشر .
يقول تعالى مخبرًا عن قول يعقوب لابنه يوسف حين قَصّ عليه ما رأى من هذه الرؤيا ، التي تعبيرها خضوع إخوته له وتعظيمهم إياه تعظيما زائدًا ، بحيث يخرون له ساجدين إجلالا وإكراما واحتراما{[15062]} فخشي يعقوب ، عليه السلام ، أن يحدث بهذا المنام أحدا من إخوته فيحسدوه{[15063]} على ذلك ، فيبغوا له الغوائل ، حسدا منهم له ؛ ولهذا قال له : { لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا } أي : يحتالوا لك حيلةً يُرْدُونَك فيها . ولهذا ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا رأى أحدكم ما يحب فليحدث به ، وإذا رأى ما يكره فليتحوَّل إلى جنبه الآخر وليتفل عن يساره ثلاثا ، وليستعذ بالله من شرها ، ولا يحدث بها أحدًا ، فإنها لن تضره " {[15064]} . وفي الحديث الآخر الذي رواه الإمام أحمد ، وبعض أهل السنن ، من رواية معاوية بن حيدة القشيري أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الرؤيا على رجل طائر ما لم تُعَبر ، فإذا عُبرت وقعت " {[15065]} ومن هذا يؤخذ الأمر بكتمان النعمة حتى توجد وتظهر ، كما ورد في حديث : " استعينوا على قضاء الحوائج بكتمانها ، فإن كل ذي نعمة محسود " {[15066]}
تقتضي هذه الآية أن يعقوب عليه السلام كان يحس من بنيه حسد يوسف وبغضته ، فنهاه عن قصص الرؤيا عليهم خوف أن يشعل بذلك غل صدورهم ، فيعملوا الحيلة على هلاكه ، ومن هنا ومن فعلهم بيوسف - الذي يأتي ذكره - يظهر أنهم لم يكونوا أنبياء في ذلك الوقت . ووقع في كتاب الطبري لابن زيد : أنهم كانوا أنبياء ؛ وهذا يرده القطع بعصمة الأنبياء عن الحسد الدنياوي وعن عقوق الآباء وتعريض مؤمن للهلاك والتوافر في قتله .
ثم أعلمه : { إن الشيطان للإنسان عدو مبين } أي هو يدخلهم في ذلك ويحضهم عليه .
وأمال الكسائي { رؤياك } ، والرؤيا حيث وقعت وروي عنه : أنه لم يمل : { رؤياك } في هذه السورة وأمال الرؤيا حيث وقعت ، وقرأ «روياك » بغير همز - وهي لغة أهل الحجاز - ولم يملها الباقون حيث وقعت .
و «الرؤيا » مصدر كثر وقوعه على هذا المتخيل في النوم حتى جرى مجرى الأسماء كما فعلوا في الدر في قولهم : لله درك فخرجا من حكم عمل المصادر وكسروها رؤى بمنزلة ظلم ، والمصادر في أكثر الأمر لا تكسر{[6562]} .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك}، فيحسدوك،إضمار، {فيكيدوا لك كيدا}، فيعملوا بك شرا، {إن الشيطان للإنسان عدو مبين}، يعني: بين.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول جلّ ذكره: قالَ يعقوب لابنه يوسف: {يا بُنَيّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ}، هذه، {عَلى إخْوَتِكَ}، فيحسدوك، {فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدا}، يقول: فيبغوك الغوائل، ويناصبوك العداوة، ويطيعوا فيك الشيطان. {إنّ الشّيْطانَ للإِنْسانِ عَدُوّ مُبِينٌ}، يقول: إن الشيطان لآدم وبنيه عدوّ، وقد أبان لهم عداوته وأظهرها. يقول: فاحذر الشيطان أن يغري إخوتك بك بالحسد منهم لك إن أنت قصصت عليهم رؤياك. وإنما قال يعقوب ذلك، لأنه قد كان تبين له من إخوته قبل ذلك حسده...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
إذا جاء القضاءُ لا ينفع الوعظ والحذر؛ فإن النصيحة والحذر لا يزيدان على ما نصح يعقوب ليوسف عليهما السلام، ولكن لمَّا سبق التقديرُ في أمر يوسف -عليه السلام- حصل ما حصل.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
عرف يعقوب عليه السلام دلالة الرؤيا على أن يوسف يبلغه الله مبلغاً من الحكمة، ويصطفيه للنبوّة، وينعم عليه بشرف الدارين، كما فعل بآبائه، فخاف عليه حسد الإخوة وبغيهم،...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
تقتضي هذه الآية أن يعقوب عليه السلام كان يحس من بنيه حسد يوسف وبغضته، فنهاه عن قصص الرؤيا عليهم خوف أن يشعل بذلك غل صدورهم، فيعملوا الحيلة على هلاكه، ومن هنا ومن فعلهم بيوسف -الذي يأتي ذكره- يظهر أنهم لم يكونوا أنبياء في ذلك الوقت...
... إن يعقوب عليه السلام كان شديد الحب ليوسف وأخيه فحسده إخوته لهذا السبب وظهر ذلك المعنى ليعقوب عليه السلام بالأمارات الكثيرة فلما ذكر يوسف عليه السلام هذه الرؤيا وكان تأويلها أن إخوته وأبويه يخضعون له فقال لا تخبرهم برؤياك فإنهم يعرفون تأويلها فيكيدوا لك كيدا...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
فكأنه قيل: ماذا قال له أبوه؟ فقيل: {قال} عالماً بأن إخوته سيحسدونه على ما تدل عليه هذه الرؤيا إن سمعوها {يابني} فبين شفقته عليه، وأكد النهي بإظهار الإدغام فقال: {لا تقصص رؤياك} أي هذه {على إخوتك} ثم سبب عن النهي قوله: {فيكيدوا} أي فيوقعوا {لك كيداً} أي يخصك، فاللام للاختصاص. وفي الآية دليل على أنه لا نهي عن الغيبة للنصيحة، بل هي مما يندب إليه...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك} يا بني تصغير لكلمة ابن في نداء العطف والتحبب، وقص الرؤيا على فلان كقص القصة معناه أخبره بها على وجه الدقة والإحاطة كما تقدم آنفا، وقد يفهم منه المعبر البصير المعنى المناسب للرائي القاص أو المعنى الذي تؤول إليه في المستقبل إذا كانت رؤيا حق كما يقع للأنبياء عليهم السلام قبل وحي التكليم ومقدماته، وقد فهم هذا يعقوب واعتقد أن يوسف سيكون نبيا عظيما ذا ظهور وسلطان يسود به أهله حتى أباه وأمه وإخوته، وخاف أن يسمع إخوته ما سمعه ويفهموا ما فهمه فيحسدوه ويكيدوا لإهلاكه فنهاه أن يقص رؤياه عليهم وعلله بقوله: {فيكيدوا لك كيدا} أي إن تقصصها عليهم يحسدوك فيدبروا ويحتالوا للإيقاع بك تدبيرا شيطانيا يحكمونه بالتفكير والروية، كما يفعل الأعداء في المكايد الحربية، يقال كاده إذا وجه إليه الكيد مباشرة، وكاد له إذا دبر الكيد لأجله سواء كان لمضرته وهو المراد هنا، أو لمنفعته ومنه قوله تعالى في تدبير يوسف لإبقاء أخيه عنده {كذلك كدنا ليوسف} [يوسف: 76] وسيأتي بيان هذه المقابلة.
{إن الشيطان للإنسان عدو مبين} ظاهر العداوة بينها لا تفوته فرصة لها فيضيعها. هذا بيان مستأنف للسبب النفسي لهذا الكيد وهو أنه من وسوسة الشيطان في النزغ بين الناس عندما تعرض له داعية من هوى النفس وشرها الحسد الغريزي في الإنسان، كما عبر عنه يوسف بعد وقوعه وسوء تأثيره وحسن عاقبته بقوله {من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي} [يوسف: 100]...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وقد علم يعقوب عليه السّلام أن إخوة يوسف عليه السّلام العشرة كانوا يغارون منه لفرط فضله عليهم خَلقا وخلقا، وعلم أنّهم يعبرون الرؤيا إجمالاً وتفصيلاً، وعلم أن تلك الرؤيا تؤذن برفعة ينالها يوسف عليه السّلام على إخوته الذين هم أحدَ عَشَرَ فخشي إن قصّها يوسف عليه السلام عليهم أن تشتد بهم الغيرة إلى حدّ الحسد، وأن يعبّروها على وجهها فينشأ فيهم شرّ الحاسد إذا حسد، فيكيدوا له كيداً ليسلموا من تفوقّه عليهم وفضله فيهم...