37- فليس هناك أظلم من الذين يفترون الكذب على الله ، بنسبة الشريك والولد إليه ، وادِّعاء التحليل والتحريم وغيرهما من غير حُجة ، أو يكذبون بآيات الله الموحى بها في كتبه الموجودة في كونه ، أولئك ينالون في الدنيا نصيباً مما كتب الله لهم من الرزق أو الحياة أو العذاب ، حتى إذا جاءتهم ملائكة الموت ليقبضوا أرواحهم ، قالوا لهم موبخين : أين الآلهة التي كنتم تعبدونها من دون الله لتدرأ عنكم الموت ؟ فيجيبون : تبرأوا منا ، وتركونا وغابوا عنا ، وشهدوا على أنفسهم مقرين بأنهم كانوا كافرين .
ها نحن أولاء أمام مشهد الاحتضار . احتضار الذين افتروا على الله الكذب ، فزعموا أن ما ورثوه عن آبائهم من التصورات والشعائر ، وما شرعوه هم لأنفسهم من التقاليد والأحكام ، أمرهم به الله ، والذين كذبوا بآيات الله التي جاءهم بها الرسل - وهي شرع الله المستيقن - وآثروا الظن والحرص على اليقين والعلم . وقد نالوا نصيبهم من متاع الدنيا الذي كتب لهم ، ومن فترة الابتلاء التي قدرها الله ، كما نالوا نصيبهم من آيات الله التي أرسل بها رسله وأبلغهم الرسل نصيبهم من الكتاب :
( فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياتنا ؟ أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ، حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم ، قالوا : أين ما كنتم تدعون من دون الله ؟ قالوا : ضلوا عنا ، وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ) . .
ها نحن أولاء أمام مشهد هؤلاء الذين افتروا على الله كذباً أو كذبوا بآياته ؛ وقد جاءتهم رسل ربهم من الملائكة يتوفونهم ، ويقبضون أرواحهم . فدار بين هؤلاء وهؤلاء حوار :
( قالوا : أين ما كنتم تدعون من دون الله ؟ ) . .
أين دعاويكم التي افتريتم على الله ؟ وأين آلهتكم التي توليتم في الدنيا ، وفتنتم بها عما جاءكم من الله على لسان الرسل ؟ أين هي الآن في اللحظة الحاسمة التي تسلب منكم فيها الحياة ؛ فلا تجدون لكم عاصماً من الموت يؤخركم ساعة عن الميقات الذي أجله الله ؟
ويكون الجواب هو الجواب الوحيد ، الذي لا معدى عنه ، ولا مغالطة فيه :
غابوا عنا وتاهوا ! فلا نحن نعرف لهم مقراً ، ولا هم يسلكون إلينا طريقاً ! . . فما أضيع عباداً لا تهتدي إليهم آلهتهم ، ولا تسعفهم في مثل هذه اللحظة الحاسمة ! وما أخيب آلهة لا تهتدي إلى عبادها . في مثل هذا الأوان !
( وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ) . .
وكذلك شهدناهم من قبل في سياق السورة عندما جاءهم بأس الله في الدنيا : ( فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا : إنا كنا ظالمين ) !
يقول [ تعالى ]{[11703]} { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ } أي : لا أحد أظلم ممن افترى الكذب على الله ، أو كذب بآيات الله المنزلة .
{ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ } اختلف المفسرون في معناه ، فقال العَوْفي عن ابن عباس : ينالهم ما كتب عليهم ، وكتب لمن يفترى على الله أن وجهه مسود .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس يقول : نصيبهم من الأعمال ، من عَمِل خيرًا جُزِي به ، ومن عمل شرًا جُزِي به .
وقال مجاهد : ما وعدوا فيه من خير وشر .
وكذا قال قتادة ، والضحاك ، وغير واحد . واختاره ابن جرير .
وقال محمد بن كعب القرظي : { أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ } قال : عمله ورزقه وعمره .
وكذا قال الربيع بن أنس ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم . وهذا القول قوي في المعنى ، والسياق يدل عليه ، وهو قوله : { حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ } ويصير المعنى في هذه الآية كما في قوله [ تعالى ]{[11704]} { إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ } [ يونس : 69 ، 70 ] وقوله { وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا [ ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ ] }{[11705]} [ لقمان : 23 ، 24 ] .
وقوله [ تعالى ]{[11706]} { حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ [ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ] }{[11707]} الآية : يخبر تعالى أن الملائكة إذا توفت المشركين تفزعهم{[11708]} عند الموت وقَبْض أرواحهم إلى النار ، يقولون لهم{[11709]} أين الذين كنتم تشركون بهم في الحياة الدنيا وتدعونهم وتعبدونهم من دون الله ؟ ادعوهم يخلصوكم{[11710]} مما أنتم فيه . قالوا : { ضَلُّوا عَنَّا } أي : ذهبوا عنا فلا نرجو نفعهم ، ولا خيرهم . { وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ } أي : أقروا واعترفوا على أنفسهم { أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ } .
هذه آية وعيد واستفهام على جهة التقرير ، أي لا أحد أظلم منه ، و { افترى } معناه اختلق ، وهذه وإن كانت متصلة بما قبلها أي كيف يجعلون الرسل مفترين ولا أحد أظلم ممن افترى ولا حظ للرسل إلا أن يرحم من اهتدى ويعذب من كفر ، فهي أيضاً مشيرة بالمعنى إلى كل مفترق إلى من تقدم ذكره من الذين قالوا { والله أمرنا بها } وقوله : { أو كذب بآياته } إشارة إلى جميع الكفرة ، وقوله : { من الكتاب } قال الحسن والسدي وأبو صالح معناه من المقرر في اللوح المحفوظ ، فالكتاب عبارة عن اللوح المحفوظ ، وقد تقرر في الشرع أن حظهم فيه العذاب والسخط ، وقال ابن عباس وابن جبير ومجاهد : قوله : { من الكتاب } يريد من الشقاء والسعادة التي كتبت له وعليه .
قال القاضي أبو محمد : ويؤيد هذا القول الحديث المشهور الذي يتضمن أن الملك يأتي إذا خلق الجنين في الرحم فيكتب رزقه وأجله وشقي أو سعيد ، وقال ابن عباس أيضاً ومجاهد وقتادة والضحاك { الكتاب } يراد به الذي تكتبه الملائكة من أعمال الخليقة من خير وشر فينال هؤلاء نصيبهم من ذلك وهو الكفر والمعاصي ، وقال ابن عباس أيضاً ومجاهد والضحاك { من الكتاب } يراد به : من القرآن ، وحظهم فيه أن وجوههم تسود القيامة ، وقال الربيع بن أنس ومحمد بن كعب وابن زيد المعنى بالنصيب ما سبق لهم في أم الكتاب من رزق وعمر وخير وشر في الدنيا ، ورجح الطبري هذا واحتج له بقوله بعد ذلك { حتى إذا جاءتهم رسلنا } أي عند انقضاء ذلك فكان معنى الآية على هذا التأويل أولئك يتمتعون ويتصرفون من الدنيا بقدر ما كتب لهم حتى إذا جاءتهم رسلنا لموتهم ، وهذا تأويل جماعة من مجيء الرسل للتوفي ، وعلى هذا يترتب ترجيح الطبري الذي تقدم ، وقالت فرقة { رسلنا } يريد بهم ملائكة العذاب يوم القيامة ، و { يتوفونهم } معناه يستوفونهم عدداً في السوق إلى جهنم .
قال القاضي أبو محمد : ويترتب هذا التأويل مع التأويلات المتقدمة في قوله : { نصيبهم من الكتاب } لأن «النصيب » على تلك التأويلات إنما ينالهم في الآخرة ، وقد قضى مجيء رسل الموت ، وقوله حكاية عن الرسل { أين ما كنتم تدعون } استفهام تقرير وتوبيخ وتوقيف على خزى وهو إشارة إلى الأصنام والأوثان وكل ما عبد من دون الله و { تدعون } معناه تعبدون وتؤملون ، وقولهم { ضلوا } معناه هلكوا وتلفوا وفقدوا . ثم ابتدأ الخبر عن المشركين بقوله : { وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين } وهذه الآية وما شاكلها تعارض في الظاهر قوله تعالى حكاية عنهم { والله ربنا ما كنا مشركين } واجتماعهما إما أن يكون في طوائف مختلفة أو في أوقات مختلفة يقولون في حال كذا وحال كذا .