26- وتذكروا - أيها المؤمنون في حال قوتكم - وقت أن كنتم عدداً قليلاً ، وضعفاء يستغل أعداؤكم ضعفكم ، وقد استولى عليكم الخوف من أن يتخطفكم أعداؤكم ، فهاجرتم بأمر الله وجعل من يثرب مأوى لكم ، وكان لكم النصر بتأييده وتوفيقه ، ورزقكم الغنائم الطيبة رجاء أن تشكروا هذه النعم ، فتسيروا في طريق الجهاد لإعلاء كلمة الحق .
ولما كانت مقاومة الظلم تكلف الناس التكاليف في الأنفس والأموال ؛ فقد عاد القرآن يذكر العصبة المسلمة - التي كانت تخاطب بهذا القرآن أول مرة - بما كان من ضعفها وقلة عددها ، وبما كان من الأذى الذي ينالها ، والخوف الذي يظللها . . وكيف آواها الله بدينه هذا وأعزها ورزقها رزقا طيبا . . فلا تقعد إذن عن الحياة التي يدعوها إليها رسول الله . ولا عن تكاليف هذه الحياة ، التي أعزها بها الله ، وأعطاها وحماها :
( واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض ، تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم ، وأيدكم بنصره ، ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون ) . .
اذكروا هذا لتستيقنوا أن الرسول يدعوكم لما يحييكم ؛ واذكروه كي لا تقعدوا عن مكافحة الظلم في كل صوره وأشكاله . . اذكروا أيام الضعف والخوف ، قبل أن يوجهكم الله إلى قتال المشركين ، وقبل أن يدعوكم الرسول إلى الطائفة ذات الشوكة وأنتم كارهون . . ثم انظروا كيف صرتم بعد الدعوة المحيية التي انقلبتم بها أعزاء منصورين مأجورين مرزوقين . يرزقكم الله من الطيبات ليؤهلكم لشكره فتؤجروا على شكركم لفضله !
ويرسم التعبير مشهدا حيا للقلة والضعف والقلق والخوف :
( تخافون أن يتخطفكم الناس ) . .
وهو مشهد التربص الوجِل ، والترقب الفزع ، حتى لتكاد العين تبصر بالسمات الخائفة ، والحركات المفزَّعة ، والعيون الزائغة . . والأيدي تمتد للتخطف ؛ والقلة المسلمة في ارتقاب وتوجس !
ومن هذا المشهد المفزع إلى الأمن والقوة والنصر والرزق الطيب والمتاع الكريم ، في ظل الله الذي آواهم إلى حماه :
( فآواكم ، وأيدكم بنصره ، ورزقكم من الطيبات ) . .
وفي ظل توجيه الله لهم ليشكروا فيؤجروا :
فمن ذا الذي يتأمل هذه النقلة البعيدة ، ثم لا يستجيب لصوت الحياة الآمنة القوية الغنية . صوت الرسول الأمين الكريم . . ثم من ذا الذي لا يشكر الله على إيوائه ونصره وآلائه ، وهذا المشهد وذلك معروضان عليه ، ولكل منهما إيقاعه وإيحاؤه ?
على أن القوم إنما كانوا يعيشون هذا المشهد وذاك . . كانوا يذكرون بما يعرفون من حالهم في ماضيهموحاضرهم . . ومن ثم كان لهذا القرآن في حسهم ذلك المذاق . .
والعصبة المسلمة التي تجاهد اليوم لإعادة إنشاء هذا الدين في واقع الأرض وفي حياة الناس ؛ قد لا تكون قد مرت بالمرحلتين ، ولا تذوقت المذاقين . . ولكن هذا القرآن يهتف لها بهذه الحقيقة كذلك . ولئن كانت اليوم إنما تعيش في قوله تعالى :
( إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس ) . .
فأولى لها أن تستجيب لدعوة الحياة التي يدعوها إليها رسول الله ؛ وأن تترقب في يقين وثقة ، موعود الله للعصبة المسلمة ، موعوده الذي حققه للعصبة الأولى ، ووعد بتحقيقه لكل عصبة تستقيم على طريقه ، وتصبر على تكاليفه . . وأن تنتظر قوله تعالى :
( فآواكم وأيدكم بنصره ، ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون ) .
وهي إنما تتعامل مع وعد الله الصادق - لا مع ظواهر الواقع الخادع - ووعد الله هو واقع العصبة المسلمة الذي يرجح كل واقع !
ينبه تعالى عباده المؤمنين على نعمه عليهم وإحسانه إليهم ، حيث كانوا قليلين فكثَّرهم ، ومستضعفين خائفين فقوَّاهم ونصرهم ، وفقراء عالة فرزقهم من الطيبات ، واستشكرهم{[12842]} فأطاعوه ، وامتثلوا جميع ما أمرهم . وهذا{[12843]} كان حال المؤمنين حال مقامهم بمكة قليلين مستخفين مضطرين{[12844]} يخافون أن يتخطفهم الناس من سائر بلاد الله ، من مشرك ومجوسي ورومي ، كلهم أعداء لهم{[12845]} لقلتهم وعدم قوتهم ، فلم يزل ذلك دأبهم حتى أذن الله لهم في الهجرة إلى المدينة ، فآواهم إليها ، وقَيَّض لهم أهلها ، آووا ونصروا يوم بدر وغيره وآسَوا بأموالهم ، وبذلوا مُهَجهم في طاعة الله وطاعة رسوله .
قال قتادة بن دِعَامة السَّدوسي ، رحمه الله ، في قوله تعالى : { وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأرْضِ } قال : كان هذا الحي من العرب أذل الناس ذُلا وأشقاه عَيْشًا ، وأجوعه بطونًا ، وأعراه جلودا ، وأبينه ضلالا مكعومين على رأس حجر ، بين الأسدين فارس والروم ، ولا والله ما في بلادهم يومئذ من شيء يحسدون عليه ، من عاش منهم عاش شقيًّا ، ومن مات منهم رُدِّيَ في النار ، يؤكلون ولا يأكلون ، والله ما نعلم قَبِيلا من حاضر أهل الأرض يومئذ كانوا أشر منزلا منهم ، حتى جاء الله بالإسلام فمكن به في البلاد ، ووسع به في الرزق ، وجعلهم به ملوكا على رقاب الناس . وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم ، فاشكروا لله نعمه ، فإن ربكم مُنْعِم يحب الشكر ، وأهل الشكر في مزيد من الله [ تعالى ]{[12846]} {[12847]}
{ واذكروا إذ أنتم قليل مُستضعفون في الأرض } أرض مكة يستضعفكم قريش ، والخطاب للمهاجرين . وقيل للعرب كافة فإنهم كانوا أذلاء في أيدي فارس والروم { تخافون أن يتخطّفكم الناس } كفار قريش أو من عداهم فإنهم كانوا جميعا معادين لهم مضادين لهم . { فآواكم } إلى المدينة ، أو جعل لكم مأوى تتحصنون به عن أعاديكم . { وأيّدكم بنصره } على الكفار أم بمظاهرة الأنصار ، أو بإمداد الملائكة يوم بدر . { ورزقكم من الطيبات } من الغنائم . { لعلكم تشكرون } هذه النعم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.