49- وأمرناك - أيها الرسول - بأن تحكم بينهم بما أنزل الله ، ولا تتبع رغباتهم في الحكم ، واحذرهم أن يصرفوك عن بعض ما أنزله الله إليك . فإن أعرضوا عن حكم الله وأرادوا غيره ، فاعلم أن الله إنما يريد أن يصيبهم بفساد أمورهم ، لفساد نفوسهم ، بسبب ذنوبهم التي ارتكبوها من مخالفة أحكامه وشريعته ، ثم يجازيهم عن كل أعمالهم في الآخرة{[55]} ، وإن كثيراً من الناس لمتمردون على أحكام الشريعة .
ويعود السياق فيؤكد هذه الحقيقة ، ويزيدها وضوحا . فالنص الأول : ( فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق ) . . قد يعني النهي عن ترك شريعة الله كلها إلى أهوائهم ! فالآن يحذره من فتنتهم له عن بعض ما أنزل الله إليه :
( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ، ولا تتبع أهواءهم ، واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك ) . .
فالتحذير هنا أشد وأدق ؛ وهو تصوير للأمر على حقيقته . . فهي فتنة يجب أن تحذر . . والأمر في هذا المجال لا يعدو أن يكون حكما بما أنزل الله كاملا ؛ أو أن يكون اتباعا للهوى وفتنة يحذر الله منها .
ثم يستمر السياق في تتبع الهواجس والخواطر ؛ فيهون على رسول الله [ ص ] أمرهم إذا لم يعجبهم هذا الاستمساك الكامل بالصغيرة قبل الكبيرة في هذه الشريعة ، وإذا هم تولوا فلم يختاروا الإسلام دينا ؛ أو تولوا عن الاحتكام إلى شريعة الله [ في ذلك الأوان حيث كان هناك تخيير قبل أن يصبح هذا حتما في دار الإسلام ] :
( فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم . وإن كثيرا من الناس لفاسقون )
فإن تولوا فلا عليك منهم ؛ ولا يفتنك هذا عن الاستمساك الكامل بحكم الله وشريعته . ولا تجعل إعراضهم يفت في عضدك أو يحولك عن موقفك . . فإنهم إنما يتولون ويعرضون لأن الله يريد أن يجزيهم على بعض ذنوبهم . فهم الذين سيصيبهم السوء بهذا الإعراض : لا أنت ولا شريعة الله ودينه ؛ ولا الصف المسلم المستمسك بدينه . . ثم إنها طبيعة البشر : ( وإن كثيرا من الناس لفاسقون ) فهم يخرجون وينحرفون . لأنهم هكذا ؛ ولا حيلة لك في هذا الأمر ، ولا ذنب للشريعة ! ولا سبيل لاستقامتهم على الطريق !
وبذلك يغلق كل منافذ الشيطان ومداخله إلى النفس المؤمنة ؛ ويأخذ الطريق على كل حجة وكل ذريعة لترك شيء من أحكام هذه الشريعة ؛ لغرض من الأغراض ؛ في ظرف من الظروف . .
وقوله : { وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ } تأكيد لما تقدم من الأمر بذلك ، والنهي عن خلافه .
ثم قال [ تعالى ]{[9934]} { وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزلَ اللَّهُ إِلَيْكَ } أي : احذر أعداءك اليهود أن يدلسوا عليك الحق فيما يُنْهُونه إليك من الأمور ، فلا تغتر بهم ، فإنهم كَذبة كَفَرة خونة . { فَإِنْ تَوَلَّوْا } أي : عما تحكم به بينهم من الحق ، وخالفوا شرع الله { فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ } أي : فاعلم أن ذلك كائن عن قَدر الله وحكمته فيهم أن يصرفهم عن الهدى لما عليهم من الذنوب السالفة التي اقتضت إضلالهم ونكالهم . { وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ } أي : أكثر الناس خارجون عن طاعة ربهم ، مخالفون للحق ناؤون عنه ، كما قال تعالى : { وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } [ يوسف : 103 ] . وقال تعالى : { وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } [ الآية ]{[9935]} [ الأنعام : 116 ] .
وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال كعب بن أسد ، وابن صلوبا ، وعبد الله بن صوريا ، وشاس بن قيس ، بعضهم لبعض : اذهبوا بنا إلى محمد ، لعلنا نفتنه عن دينه ! فأتوه ، فقالوا : يا محمد ، إنك قد عرفت أنا أحبار يهود وأشرافهم وساداتهم ، وإنا إن اتبعناك اتبعنا يهود ولم يخالفونا ، وإن بيننا وبين قومنا خصومة{[9936]} فنحاكمهم إليك ، فتقضي لنا عليهم ، ونؤمن لك ، {[9937]} ونصدقك ! فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله ، عز وجل ، فيهم : { وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزلَ اللَّهُ إِلَيْكَ } إلى قوله : { لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } رواه ابن جرير ، وابن أبي حاتم .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني تعالى ذكره بقوله:"وأن احكم بينهم بما أنزل الله": وأنزلنا إليك يا محمد الكتاب، مصدّقا لما بين يديه من الكتاب، "وأن احكم بينهم". "بِمَا أنْزَلَ اللّهُ": بحكم الله الذي أنزله إليك في كتابه.
"وَلا تَتّبِعْ أهْوَاءَهُمْ": نهي من الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يتبع أهواء اليهود الذين احتكموا إليه في قتيلهم وفاجِرَيْهم، وأمْرٌ منه له بلزوم العمل بكتابه الذي أنزله إليه. "وَاحْذَرْهُمْ أنْ يفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أنْزَلَ اللّهُ إلَيْكَ": واحذر يا محمد هؤلاء اليهود الذين جاءوك محتكمين إليك أن يفتنوك، فيصدّوك عن بعض ما أنزل الله إليك من حكم كتابه، فيحملوك على ترك العمل به واتباع أهوائهم.
"فإنْ تَوَلّوْا فاعْلَمْ أنّمَا يُرِيدُ الله أنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهمْ": فإن تولى هؤلاء اليهود الذين اختصموا إليك عنك، فتركوا العمل بما حكمت به عليهم، وقضيت فيهم، "فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم": فاعلم أنهم لم يتولوا عن الرضا بحكمك وقد قضيت بالحقّ إلا من أجل أن الله يريد أن يتعجل عقوبتهم في عاجل الدنيا ببعض ما قد سلف من ذنوبهم.
"وَإنّ كَثيرا مِنَ النّاسِ لفَاسِقُونَ": وإن كثيرا من اليهود لفاسقون، يقول: لتاركو العمل بكتاب الله، ولخارجون عن طاعته إلى معصيته.
عن ابن عباس، قال: قال كعب بن أسد وابن صوريا وشأس بن قيس بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه فأتوه فقالوا: يا محمد إنك قد عرفت أنا أحبار يهود وأشرافهم وساداتهم، وأنا إن اتبعناك اتبعَنا يهود ولم يخالفونا، وإنّ بيننا وبين قومنا خصومة، فنحاكمهم إليك، فتقضيَ لنا عليهم ونؤمِن لك ونصدّقك فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله فيهم: "وأنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ وَلا تَتّبِعْ أهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أنْزَلَ اللّهُ إلَيْكَ... إلى قوله: لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ".
{فَإنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} ذكر البَعْضَ والمرادُ الجميع، كما يذكر لفظ العموم والمراد الخصوص، وكما قال: {يا أيها النبي} والمراد جميع المسلمين بقوله: {إذا طلقتم النساء} [الطلاق: 1]. وفيه أن المراد الإخبار عن تغليظ العقاب في أن بعض ما يستحقونه به يهلكهم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{لفَاَسِقُونَ} لمتمرّدون في الكفر معتدون فيه، يعني أنّ التولي عن حكم الله من التمرّد العظيم والاعتداء في الكفر.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم نهاه تعالى عن اتباع أهواء بني إسرائيل إذ هي مضلة، والهوى في الأغلب إنما يجيء عبارة عما لا خير فيه، وقد يجيء أحياناً مقيداً بما فيه خير، وخصص تعالى إصابتهم ببعض الذنوب دون كلها لأن هذا الوعيد إنما هو في الدنيا وذنوبهم فيها نوعان: نوع يخصهم كشرب الخمر ورباهم ورشاهم ونحو ذلك، ونوع يتعدى إلى النبي والمؤمنين كمعاملاتهم للكفار وأقوالهم في الدين، فهذا النوع هو الذي يوجد إليهم السبيل وبه هلكوا وبه توعدهم الله في الدنيا، فلذلك خصص البعض دون الكل، وإنما يعذبون بالكل في الآخرة.
وقوله تعالى: {وإن كثيراً من الناس لفاسقون} إشارة إليهم، لكن جاءت العبارة تعمهم وغيره ليتنبه سواهم ممن كان على فسق ونفاق وتولٍّ عن النبي عليه السلام فيرى أنه تحت الوعيد.
المسألة الثانية: قالوا: هذه الآية ناسخة للتخيير في قوله {فاحكم بينهم أو أعرض عنهم}.
المسألة الثالثة: أعيد ذكر الأمر بالحكم بعد ذكره في الآية الأولى إما للتأكيد، وإما لأنهما حكمان أمر بهما جميعا، لأنهم احتكموا إليه في زنا المحصن، ثم احتكموا في قتيل كان فيهم.
ثم قال تعالى: {واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك}.
قال ابن عباس: يريد به يردوك إلى أهوائهم، فإن كل من صرف من الحق إلى الباطل فقد فتن، ومنه قوله {وإن كادوا ليفتنونك} والفتنة هاهنا في كلامهم التي تميل عن الحق وتلقى في الباطل وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «أعوذ بك من فتنة المحيا» قال هو أن يعدل عن الطريق. قال أهل العلم: هذه الآية تدل على أن الخطأ والنسيان جائزان على الرسول، لأن الله تعالى قال: {واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك} والتعمد في مثل هذا غير جائز على الرسول، فلم يبق إلا الخطأ والنسيان.
ثم قال تعالى: {فإن تولوا} أي فإن لم يقبلوا حكمك {فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم}
المسألة الأولى: المراد يبتليهم بجزاء بعض ذنوبهم في الدنيا، وهو أن يسلطك عليهم، ويعذبهم في الدنيا بالقتل والجلاء، وإنما خص الله تعالى بعض الذنوب لأن القوم جوزوا في الدنيا ببعض ذنوبهم، وكان مجازاتهم بالبعض كافيا في إهلاكهم والتدمير عليهم، والله أعلم.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ} أي أنزلنا إليك الكتاب فيه حكم الله، وأنزلنا إليك فيه أن أحكم بينهم بما أنزل الله فيه، ولا تتبع أهواءهم بالاستماع لبعضهم وقبول كلامه ولو لمصلحة في ذلك وراء الحكم، كتأليف قلوبهم وجذبهم إلى الإسلام، فإن الحق لا يتوسل إليه بالباطل. واحذرهم أن يفتنوك أي يستزلوك باختبارهم إياك وينزلوك عن بعض ما أنزل الله إليك لتحكم بغيره، أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: قال كعب بن أسد وعبد الله بن صوريا وشاس بن قيس (من اليهود): اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه. فأتوه فقالوا: يا محمد إنك عرفت أنا أحبار يهود وأشرافهم وسادتهم، وإنا إن اتبعناك اتبعنا يهود ولم يخالفونا، وأن بيننا وبين قومنا خصومة فنحاكمهم إليك فتقضي لنا عليهم ونؤمن لك ونصدقك. فأبى ذلك: وأنزل الله عز وجل فيهم (وأن أحكم بينهم بما أنزل الله – إلى قوله – لقوم يوقنون) اه.
يعني أن الحكمة في إنزال هذه الآية إقرار النبي صلى الله عليه وسلم على ما فعل من عدم الحكم لهم وأمره بالثبات والدوام على ما جرى عليه من التزام حكم الله وعدم الانخداع لليهود، وتسجيل هذه العبرة في كتاب الله.
{فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} أي فإن تولوا عن حكمك بعد تحاكمهم إليك فاعلم أن حكمة ذلك هي أن الله تعالى يريد أن يعذبهم ببعض ذنوبهم في هذه الحياة الدنيا قبل الآخرة، فاضطرابهم في دينهم واستثقالهم لأحكام التوراة وتحاكمهم إليك رجاء أن تتبع أهواءهم، وإعراضهم عن حكمك بالحق، ومحاولتهم لمخادعتك وفتنتك عن بعض ما أنزل الله إليك – كل هذه مقدمات من فساد الأخلاق وروابط الاجتماع لا بد أن تنتج وقوع عذاب بهم. قيل إن المراد بالعذاب هنا ما حل بيهود المدينة وما حولها بغدرهم، وإنما يصح هذا إذا كان نزول الآية قبل ذلك، وعلى هذا يكون نزول هذا السياق كله قبل نزول السورة في حجة الوداع. ثبت أنه لم يصبهم عذاب في عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد نزولها فلا يبعد أن يكون المراد بالعذاب إجلاء عمر من أجلاهم منهم في خلافته. وقيل المراد عذاب الآخرة. وإنما ذكر بعض الذنوب لبيان أن بعضها يوبقهم ويهلكهم، فكيف يكون العقاب على جميعها؟ وهو كما ترى.
ثم قال: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} أي لا يرعك أيها الرسول ما تراه من فسوقهم من دينهم، وعدم اهتدائهم إلى دينك، فإن كثيرا من الناس قد صار الفسوق والعصيان والتمرد من صفاتهم الثابتة التي لا تنفك عنهم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويعود السياق فيؤكد هذه الحقيقة، ويزيدها وضوحا. فالنص الأول: (فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق).. قد يعني النهي عن ترك شريعة الله كلها إلى أهوائهم! فالآن يحذره من فتنتهم له عن بعض ما أنزل الله إليه: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتبع أهواءهم، واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك)..
فالتحذير هنا أشد وأدق؛ وهو تصوير للأمر على حقيقته.. فهي فتنة يجب أن تحذر.. والأمر في هذا المجال لا يعدو أن يكون حكما بما أنزل الله كاملا؛ أو أن يكون اتباعا للهوى وفتنة يحذر الله منها.
ثم يستمر السياق في تتبع الهواجس والخواطر؛ فيهون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم إذا لم يعجبهم هذا الاستمساك الكامل بالصغيرة قبل الكبيرة في هذه الشريعة، وإذا هم تولوا فلم يختاروا الإسلام دينا؛ أو تولوا عن الاحتكام إلى شريعة الله [في ذلك الأوان حيث كان هناك تخيير قبل أن يصبح هذا حتما في دار الإسلام]:
(فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم. وإن كثيرا من الناس لفاسقون)
فإن تولوا فلا عليك منهم؛ ولا يفتنك هذا عن الاستمساك الكامل بحكم الله وشريعته. ولا تجعل إعراضهم يفت في عضدك أو يحولك عن موقفك.. فإنهم إنما يتولون ويعرضون لأن الله يريد أن يجزيهم على بعض ذنوبهم. فهم الذين سيصيبهم السوء بهذا الإعراض: لا أنت ولا شريعة الله ودينه؛ ولا الصف المسلم المستمسك بدينه.. ثم إنها طبيعة البشر: (وإن كثيرا من الناس لفاسقون) فهم يخرجون وينحرفون. لأنهم هكذا؛ ولا حيلة لك في هذا الأمر، ولا ذنب للشريعة! ولا سبيل لاستقامتهم على الطريق!
وبذلك يغلق كل منافذ الشيطان ومداخله إلى النفس المؤمنة؛ ويأخذ الطريق على كل حجة وكل ذريعة لترك شيء من أحكام هذه الشريعة؛ لغرض من الأغراض؛ في ظرف من الظروف..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... قولُه: {واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك} المقصود منه افتضاح مكرهم وتأييسهم ممّا أمَّلوه، لأنّ حذر النّبيء صلى الله عليه وسلم من ذلك لا يحتاج فيه إلى الأمر لعصمته من أن يخالف حكم الله.
ويجوز أن يكون المقصود منه دحض ما يتراءى من المصلحة في الحكم بين المتحاكمين إليه من اليهود بعوائدهم إن صحّ ما روي من أنّ بعض أحبارهم وعدوا النّبيء بأنّه إن حكم لهم بذلك آمنوا به واتّبعتهم اليهود اقتداء بهم، فأراه الله أنّ مصلحة حرمة أحكام الدين ولو بينَ غير أتباعه مقدّمة على مصلحة إيمان فريق من اليهود، لأجل ذلك فإنّ شأن الإيمان أن لا يقاوِل النّاس على اتّباعه كما قدّمناه آنفاً.
والمقصود مع ذلك تحذير المسلمين من توهّم ذلك.
{فإن تولّوا}، أي فإن حكمت بينهم بما أنزل الله ولم تتّبع أهواءهم وتولّوا فاعلم، أي فتلك أمارة أنّ الله أراد بهم الشّقاء والعذاب ببعض ذنوبهم وليس عليك في تولّيهم حرج. وأراد ببعض الذنوب بعضاً غيرَ معين، أي أنّ بعض ذنوبهم كافية في إصابتهم وأنّ تولّيهم عن حكمك أمارة خذلان الله إيّاهم.
وقد ذيّله بقوله: {وإنّ كثيراً من النّاس لفاسقون} ليَهُونَ عنده بقاؤهم على ضلالهم إذ هو شنشنة أكثر النّاس، أي وهؤلاء منهم فالكلام كناية عن كونهم فاسقين.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
في الآيات السابقة ذكر سبحانه الأحكام في الكتب السماوية وأن اتباعها واجب لمن أرسلت إليهم وقد أشار إلى أحكام خالدة، ومنها شريعة القصاص، لأنها شريعة العدل والمساواة إذ فيها أن العقوبة كفاء الجريمة وأن العقوبة من جنس الجريمة فمن أجرم فإن فعله يطوي في ثناياه استحقاقه للعقوبة على ما ارتكب، وله المثلات فيما ارتكب. ثم ذكر سبحانه أن التوراة لأهل التوراة وأن الإنجيل لأهل الإنجيل، ولكل شرعة ومنهاج أما القرآن فهو المهيمن على الجميع ويجب أن يسود حكمه الجميع بلا استثناء ولو كان لكل شريعة ومنهاج وقد أمر بالحكم به بين اليهود وبين جميع الناس، لا فرق بين يهود وغيره ولا بين أبيض وأسود، ولقد كرر سبحانه وتعالى الأمر بالحكم بالكتاب، فقال تعالت كلماته: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم} {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم} وكان تكرار الأمر بالحكم لتأكيده في مقام يستدعي التأكيد، لأنه جاء في الكلام ما ربما يوهم أن لكل قوم شريعة خاصة بهم، وأن حكم القرآن وما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم ليس له صفة العموم فكان ذكر الأمر بالحكم مرة أخرى نفيا لهذا الوهم، وتأكيدا لمعنى عموم شريعة القرآن، وأن منهاج القرآن الكريم هو منهاجهم وأنهم قوم محمد عليه الصلاة والسلام وأن شريعة موسى وعيسى قد انتهت بنزول القرآن، يبقى منها ما يبقى ويشتمل عليه، ويبين ما انتهى حكمه بنزول القرآن الحكيم، وأنه لو كان موسى حيا ما وسعه إلا أن يتبع النبي صلى الله عليه وسلم. وهنا بحث لفظي فيه تقريب لمعنى النص الكريم، ذلك هو بيان المعطوف عليه في قوله تعالى: {وأن احكم} فلذلك عدة تخريجات كلها تتلاقى في تأكيد الأمر بالحكم بما أنزل الله تعالى. أول هذه التخريجات أن تكون "وأن احكم "معطوفة على الكتاب، وتفسير الكلام على هذا التخريج أن يكون المعنى فيه وأنزلنا إليك الكتاب، وقولنا أن احكم أي أنزلنا الكتاب، وقد اقترن به الأمر بأن تحكم بين الناس به، وبما أنزلناه عليك من وحي أوحي به إليك. ثاني هذه التخريجات أن تكون "أن" مصدرية، وقد جوز الزمخشري دخول "أن" على أي فعل، ويكون المعنى: وأنزلنا إليك مع الكتاب والحكم بما أنزل الله تعالى، فما كان كتابا معطلا لمجرد التلاوة، بل كان شرعا معلوما متبعا مأمورا بإتباعه، وكان دخول "أن" المصدرية على الفعل الأمر، للدلالة مع المصدرية على الطلب وتأكيد معناه، وهي معطوفة على: "بالحق". ثالث هذه التخريجات هو أن تكون "أن" هي المخففة من الثقيلة وضمير الشأن اسمها محذوف أي الحال والشأن أن تحكم به بينهم، وتكون معطوفة على الكتاب، و"أنزلناه" بمعنى أعلمناك، لأن العلم هو الغاية. وقد كان النهي عن إتباع أهوائهم فيه إشارة إلى أن الحكم إما أن يكون بما أنزل الله تعالى وأعلمه بحكمته وهدايته، وإما أن يكون إتباعا لأهواء الناس ورغباتهم، وذلك لأن القوانين البشرية تتبع الأعراف الاجتماعية للناس، وما تواطئوا عليه وما ارتضوه لذات أنفسهم، وقد يكون ظلما طبقيا، وقد يكون هضما لحقوق ذوي الحقوق التي اكتسبوها بما ينمي ثروة الجماعة ويزيد خيراتها، وشرع الله تعالى مخالف لحكم الهوى والشهوة وهو الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال. {واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك} هذا أمر موجه للنبي صلى الله عليه وسلم وهو موجه إلى الأمة الإسلامية، ولعل توجيه الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم الذي يوحى إليه، ليكون تحذيرا لغيره، إذ غيره أولى أن يغره الغرور وتفتنه الفتن، من شهوات مسيطرة وأهواء متحكمة وبذلك يكون الخطاب لجميع المخاطبين بالقرآن الكريم في كل العصور، ومختلف الدهور لأنه إذا كان النبي عليه السلام يجب أن يحذر من أن يفتن فلا ينفذ أحكام الإسلام في الحكم بين الناس، فغيره الحذر عليه أوجب وأشد إلزاما. والفتنة هنا معناها وقوع البلاء والشدة بعدم الحكم بما أنزل الله، ولقد قال في معنى هذا النص وما يشبهه الأصفهاني في مفرداته: "وقال تعالى: {واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن} أي يوقعونك في بلية وشدة في صرفهم إياك عما أوحي إليك". فالفتنة المراد بها هنا النتيجة المترتبة عن ترك الحكم بما أنزل الله تعالى، وأنه ليسبق تلك النتيجة إغراء من جانب الذين يتبعون أهواءهم ويحاولون أن يكون الحق تبعا لما يهوون، لا أن يكون هواهم تبعا للحق، وكان إغرائهم من الفتنة لأنه يؤدي إلى وقوع الشدائد، ولأن الإغراء كيفما كانت صورته فيه اختبار للنفوس، فالهداية البالغة أقصى الحكمة ترد الإغراء كيفما كانت صورته، وضعفاء النفوس أو العقول يفترون فيقعون في البلية والشدة وفي التفسير المأثور أن بعض أحبار اليهود، قال بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه فأتوه، فقالوا: يا محمد، إنك عرفت أنا أحبار يهود وأشرافهم وسادتهم وإنا إن اتبعناك اتبعنا يهود، ولم يخالفونا، وإن بيننا وبين قومنا خصومة، فنحاكمهم إليك، فتقضي لنا عليهم، ونؤمن ونصدقك، فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل {وأن احكم بينهم بما أنزل الله}. وإننا نرى في عصرنا بعضا من هذا الصنف، فلا تزال تطلع على طائفة منهم يقولون: إن التشدد في الأخذ بأحكام القرآن وما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام ينفر الناس من الإسلام، ويبعدهم منه، وإنا لنسمع كلام هؤلاء ليسوا من غير المسلمين بل المسلمون تتلوا بذلك ألسنتهم، فمنهم من ينفر من تحريم الإسلام للربا، لأنه ضد الاقتصاد، ومنهم من يمنع إقامة حدود الله ويقولون: إن ذلك يتنافى مع الحضارة وينفر الناس من الإسلام... يرددون ذلك في مجالسهم ويقولونه وهم على الأرائك متكئون، ويغمزون في القول لمن يتشدد، وجاراهم مع الأسى بعض من يتكلمون باسم العلم الإسلامي، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وقد حذر الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم، وبالأولى المؤمنين من أن يفتنوا عن بعض ما أنزل الله تعالى، وتشديد التحذير من الفتنة في البعض، يتضمن التحذير من الفتنة في كل ما أنزل الله تعالى، إذ الفتنة في الكل أشد إيجابا للتحذير من الفتنة في البعض، هذا وإن الفتنة في بعض ما أنزل الله تعالى تؤدي إلى الفتنة في كل ما أنزل الله سبحانه، لأن ما أنزل الله سبحانه وتعالى وأوجب الأخذ به مرتبط الأجزاء متماسك، فإذا حلت عروة منه انحل سائره، كالبنيان المرصوص، وإذا تهدم جزء منه تداعت لبناته وانهار البنيان، وصار أجزاء منثورة لا تربطها رابطة.