وبعد هذا الافتتاح الذي يقرر كلمة الفصل في موضوع العذاب ، ووقوعه ، ومستحقيه ، ومصدره ، وعلو هذا المصدر ورفعته ، مما يجعل قضاءه أمرا علويا نافذا لا مرد له ولا دافع . . بعد هذا أخذ في وصف ذلك اليوم الذي سيقع فيه هذا العذاب ، والذي يستعجلون به وهو منهم قريب . ولكن تقدير الله غير تقدير البشر ، ومقاييسه غير مقاييسهم :
( تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، فاصبر صبرا جميلا ، إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا ) . .
والأرجح أن اليوم المشار إليه هنا هو يوم القيامة ، لأن السياق يكاد يعين هذا المعنى . وفي هذا اليوم تصعد الملائكة والروح إلى الله . والروح : الأرجح أنه جبريل عليه السلام ، كما سمي بهذا الاسم في مواضع أخرى . وإنما أفرد بالذكر بعد الملائكة لما له من شأن خاص . وعروج الملائكة والروح في هذا اليوم يفرد كذلك بالذكر ، إيحاء بأهميته في هذا اليوم وخصوصيته ، وهم يعرجون في شؤون هذا اليوم ومهامه . ولا ندري نحن - ولم نكلف أن ندري - طبيعة هذه المهام ، ولا كيف يصعد الملائكة ، ولا إلى أين يصعدون . فهذه كلها تفصيلات في شأن الغيب لا تزيد شيئا من حكمة النص ، وليس لنا إليها من سبيل ، وليس لنا عليها من دليل . فحسبنا أن نشعر من خلال هذا المشهد بأهمية ذلك اليوم ، الذي ينشغل فيه الملائكة والروح بتحركات تتعلق بمهام ذلك اليوم العظيم .
وأما ( كان مقداره خمسين ألف سنة ) . . فقد تكون كناية عن طول هذا اليوم كما هو مألوف في التعبير العربي . وقد تعني حقيقة معينة ، ويكون مقدار هذا اليوم خمسين ألف سنة من سني أهل الأرض فعلا وهو يوم واحد ! وتصور هذه الحقيقة قريب جدا الآن . فإن يومنا الأرضي هو مقياس مستمد من دورة الأرض حول نفسها في أربع وعشرين ساعة . وهناك نجوم دورتها حول نفسها تستغرق ما يعادل يومنا هذا آلاف المرات . . ولا يعني هذا أنه المقصود بالخمسين ألف سنة هنا . ولكننا نذكر هذه الحقيقة لتقرب إلى الذهن تصور اختلاف المقاييس بين يوم ويوم !
وقوله : { تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ } قال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن قتادة : { تَعْرُجُ } تصعد .
وأما الروح فقال أبو صالح : هم خلق من خلق الله . يشبهون الناس ، وليسوا أناسا .
قلت : ويحتمل أن يكون المراد به جبريل ، ويكون من باب عطف الخاص على العام . ويحتمل أن يكون اسم جنس لأرواح بني آدم ، فإنها إذا قبضت يُصعد بها إلى السماء ، كما دل عليه حديث البراء . وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، من حديث المِنْهَال ، عن زاذان ، عن البراء مرفوعًا - الحديث بطوله في قبض الروح الطيبة - قال فيه : " فلا يزال يصعد بها من سماء إلى سماء حتى ينتهي بها إلى السماء{[29309]} السابعة " . والله أعلم بصحته ، فقد تُكلم في بعض رواته ، ولكنه مشهور ، وله شاهد في حديث أبي هريرة فيما تقدم من رواية الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة ، من طريق ابن أبي ذئب ، عن محمد بن عمرو بن عطاء ، عن سعيد بن يسار ، عنه وهذا إسناد رجاله على شرط الجماعة ، وقد بسطنا لفظه عند قوله تعالى : { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ } [ إبراهيم : 27 ] .
وقوله : { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } فيه أربعة أقوال :
أحدهما : أن المراد بذلك مسافة ما بين العرش العظيم إلى أسفل السافلين ، وهو قرار الأرض السابعة ، وذلك مسيرة خمسين ألف سنة ، هذا ارتفاع العرش عن المركز الذي في وسط الأرض السابعة . وذلك اتساع العرش من قطر إلى قطر مسيرة خمسين ألف سنة ، وأنه من ياقوتة حمراء ، كما ذكره ابن أبي شيبة في كتاب صفة العرش . وقد قال ابن أبي حاتم عند هذه الآية :
حدثنا أحمد بن سلمة ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، أخبرنا حَكَّام ، عن عُمَر بن معروف ، عن ليث ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قوله : { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } قال : منتهى أمره من أسفل الأرضين إلى منتهى أمره من فوق السموات مقدار خمسين ألف سنة ويوم كان مقداره ألف سنة . يعني بذلك : تَنزل الأمر من السماء إلى الأرض ، ومن الأرض إلى السماء في يوم واحد فذلك مقداره ألف سنة ؛ لأن ما بين السماء والأرض مقدار مسيرة خمسمائة سنة .
وقد رواه ابن جرير عن ابن حميد ، عن حَكَّام بن سلم ، عن عُمَر بن معروف ، عن ليث ، عن مجاهد قوله ، لم يذكر ابن عباس{[29310]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن محمد الطُّنافِسيّ ، حدثنا إسحاق بن منصور ، حدثنا نوح المؤدب ، عن عبد الوهاب بن مجاهد ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : غلظ كل أرض خمسمائة عام ، وبين كل أرض إلى أرض خمسمائة عام ، فذلك سبعة آلاف عام . وغلظ كل سماء خمسمائة عام ، وبين السماء إلى السماء خمسمائة عام ، فذلك أربعة عشر ألف عام ، وبين السماء السابعة وبين العرش مسيرة ستة وثلاثين ألف عام ، فذلك قوله : { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ }
القول الثاني : أن المراد بذلك مدة بقاء الدنيا منذ خلق الله هذا العالم إلى قيام الساعة ، قال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبو زُرْعَة ، أخبرنا إبراهيم بن موسى ، أخبرنا ابن أبي زائدة ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } قال : الدنيا عمرها خمسون ألف سنة . وذلك عمرها يوم سماها الله تعالى يوم ، { تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ } قال : اليوم : الدنيا .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد - وعن الحكم بن أبان ، عن عكرمة : { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } قال : الدنيا من أولها إلى آخرها مقدار خمسين ألف سنة ، لا يدري أحدٌ كم مضى ، ولا كم بقي إلا الله ، عز وجل{[29311]} .
القول الثالث : أنه اليوم الفاصل بين الدنيا والآخرة ، وهو قول غريب جدًّا . قال ابن أبي حاتم :
حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطان ، حدثنا بُهلول بن المورق{[29312]} حدثنا موسى بن عبيدة ، أخبرني محمد بن كعب : { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } قال : هو يوم الفصل بين الدنيا والآخرة .
القول الرابع : أن المراد بذلك يوم القيامة ، قال ابن أبي حاتم :
حدثنا أحمد بن سنان الواسطي ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن إسرائيل ، عن سِمَاك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } قال : يوم القيامة . هذا وإسناده صحيح . ورواه الثوري عن سماك بن حرب ، عن عكرمة { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } يوم القيامة . وكذا قال الضحاك ، وابن زيد .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } قال : فهذا يوم القيامة ، جعله الله تعالى على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة .
وقد وردت أحاديث في معنى ذلك ، قال الإمام أحمد :
حدثنا الحسن بن موسى ، حدثنا ابن لَهِيعة ، حدثنا دَرّاج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد قال : قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } ما أطول هذا اليوم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده ، إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أخفّ عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا " .
ورواه ابن جرير ، عن يونس ، عن ابن وهب ، عن عمرو بن الحارث ، عن دراج ، به{[29313]} إلا أن دَرّاجا وشيخه ضعيفان ، والله أعلم .
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن أبي عمرو الغُداني قال : كنت عند أبي هُرَيرة فمر رجل من بني عامر بن صعصعة ، فقيل له : هذا أكثر عامري مالا . فقال أبو هريرة : ردوه{[29314]} فقال : نبئت أنك ذو مال كثير ؟ فقال العامري : أي والله ، إن لي لمائة حُمْرًا و مائة أدمًا ، حتى عد من ألوان الإبل ، وأفنان الرقيق ، ورباط الخيل فقال أبو هريرة : إياك وأخفاف الإبل وأظلافَ النعم{[29315]} - يُرَدّد ذلك عليه ، حتى جعل لونُ العامري يتغير - فقال : ما ذاك يا أبا هُرَيرة ؟ قال : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من كانت له إبلٌ لا يعطي حقها في نجدتها ورِسْلها - قلنا يا رسول الله : ما نجدتُها ورِسْلُها ؟ قال : " في عُسرها ويسرها - " فإنها تأتي يوم القيامة كأغذّ ما كانت وأكثره وأسمنه وآشره ، حتى يبطح لها بقاع قَرقَر ، فتطؤه بأخفافها ، فإذا جاوزته أخراها أعيدت عليه أولاها ، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، حتى يقضى بين الناس فيرى سبيله ، وإذا كانت له بقر لا يعطي حقها في نجدتها ورسلها ، فإنها تأتي يوم القيامة كأغذ ما كانت وأكثره وأسمنه وآشره ثم يبطح لها بقاع قَرقَر فتطؤه كل ذات ظلف بظلفها ، وتنطحه كل ذات قرن بقرنها ، إذا جاوزته أخراها أعيدت عليه أولاها ، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين الناس فيرى سبيله . وإذا كانت له غنم لا يعطي حقها في نجدتها ورسلها ، فإنها تأتي يوم القيامة كأغذ ما كانت وأسمنه وآشره ، حتى يبطح لها بقاع قَرقَر ، فتطؤه كل ذات ظلف بظلفها وتنطحه كل ذات قرن بقرنها ، ليس فيها عَقصاء ولا عضباء ، إذا جاوزته أخراها أعيدت عليه أولاها ، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، حتى يقضى بين الناس ، فيرى سبيله " . قال العامري : وما حق الإبل يا أبا هريرة ؟ قال : أن تعطي الكريمة ، وتمنح الغَزيرَة ، وتفقر الظهر ، وتَسقيَ اللبن{[29316]} وتُطرقَ الفحل .
وقد رواه أبو داود من حديث شعبة ، والنسائي من حديث سعيد بن أبي عَرُوبة ، كلاهما عن قتادة ، به{[29317]} .
طريق أخرى لهذا الحديث : قال الإمام أحمد : حدثنا أبو كامل ، عن سُهَيل{[29318]} بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من صاحب كنز لا يؤدي حقه إلا جعل صفائح يحمى عليها في نار جهنم ، فتكوى بها بجهته وجنبه وظهره ، حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون ، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار " . وذكر بقية الحديث في الغنم والإبل كما تقدم ، وفيه : " الخيل الثلاثة ؛ لرجل أجر ، ولرجل ستر ، وعلى رجل وزر " إلى آخره{[29319]} .
ورواه مسلم في صحيحه بتمامه منفردًا به دون البخاري ، من حديث سُهَيل{[29320]} عن أبيه ، عن أبي هُرَيرة{[29321]} وموضع استقصاء طرقه وألفاظه في كتاب الزكاة في " الأحكام " ، والغرض من إيراده هاهنا قوله : " حتى يحكم الله بين عباده ، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة " .
وقد روى ابن جرير عن يعقوب{[29322]} عن ابن عُلَيَّة وعبد الوهاب ، عن أيوب ، عن ابن أبي مُلَيْكة قال : سأل رجل ابن عباس عن قوله : { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } قال : فاتهمه ، فقيل له فيه ، فقال : ما يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ؟ فقال : إنما سألتك لتحدثني . قال : هما يومان ذكرهما الله ، الله أعلم بهما ، وأكره أن أقول في كتاب الله بما لا أعلم{[29323]} .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{تعرج} يعني تصعد {الملائكة} من سماء إلى سماء العرش {والروح} يعني جبريل، عليه السلام، {إليه} في الدنيا برزق السماوات السبع.
ثم أخبر الله عز وجل عن ذلك العذاب متى يقع بها فقال: {في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
تصعد الملائكة والروح، وهو جبريل عليه السلام إليه، يعني إلى الله جلّ وعزّ، والهاء في قوله: "إلَيْهِ " عائدة على اسم الله.
"في يَوْمٍ كانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ": كان مقدار صعودهم ذلك في يوم لغيرهم من الخلق خمسين ألف سنة، وذلك أنها تصعد من منتهى أمره من أسفل الأرض السابعة إلى منتهى أمره من فوق السموات السبع.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: تعرج الملائكة والروح إليه في يوم يفرغ فيه من القضاء بين خلقه، كان قدر ذلك اليوم الذي فرغ فيه من القضاء بينهم قدر خمسين ألف سنة.
عن ابن عباس، في قوله:"تَعْرُجُ المَلائِكَةُ وَالرّوحُ إلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ" فهذا يوم القيامة، جعله الله على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة...
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث أن درّاجا حدّثه عن أبي الهيثم عن سعيد، أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ" ما أطول هذا ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وَالّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إنّهُ لَيُخَفّفُ عَلى المُؤْمِنِ حتى يَكُونَ أخَفّ عَلَيْهِ مِنَ الصّلاةِ المَكْتُوبَةِ يُصَلّيها فِي الدّنْيا»...
وقد رُوي عن ابن عباس في ذلك غير القول الذي ذكرنا عنه، وذلك ما: حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة، أن رجلاً سأل ابن عباس عن يوم كان مقداره ألف سنة، فقال: ما يوم كان مقداره خمسين ألف سنة؟ قال: إنما سألتك لتخبرني، قال: هما يومان ذكرهما الله في القرآن، الله أعلم بهما، فكره أن يقول في كتاب الله ما لا يعلم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ومن قدر على أن يخلق في خلق من خلائقه من القوة ما يقطع هذه المسافة في يوم واحد، لا يحتمل أن يعجزه شيء. فيكون في ذكر هذا تحقيق كون ما به هولوا من القيامة والبعث. وجائز أن يكون قوله: {في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة} راجعا إلى يوم القيامة، فذكر في موضع: {في يوم كان مقدراه ألف سنة} [السجدة: 5] وذكر ههنا: {في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة}. فالأصل أن ذلك اليوم ليس بذي حد، ولا له غاية، ينتهي إليه، يخبر فيه عن الحد، فهو يخرج مخرج تعظيم ذلك اليوم ليقع به التهويل والتفزيع، فأي شيء يعظم ذكره في القلوب يذكر بالخلود، وهو قوله عز وجل: {ذلك يوم الخلود} [ق: 34] ومرة قال: {لابثين فيها أحقابا} [النبأ: 23] ومرة قال: {خمسين ألف سنة} [المعارج: 4] ومرة قال: {ألف سنة} [السجدة: 5] إذ هذه الأشياء مما تعظم في القلوب، وكذلك الألف، هي عظيمة القلوب. فإذا كانت هذه الأشياء يعظم ذكرها في القلوب فذكر الشيء الواحد من الجملة، أو ذكر الأشياء يقتضي معنى واحدا. ومنهم من يصرف الألف إلى تقدير عروج الخلائق إلى السماء في ذلك اليوم، ويصرف قوله: {خمسين ألف سنة} إلى تقدير المقام للحساب قبل أن يدخلوا النار. وجائز أن يكون تأويله على ما ذكره بعض أهل التفسير، وهو أن الله تعالى لو جعل حساب الخلق يومئذ إلى الخلق، فتكلفوا أن يفرغوا من حسابهم لن يفرغوا منه إلا في مقدار خمسين ألف سنة. لكن الله تعالى بلطفه يحاسبهم حسابا، يفرغ منه في أدنى وقت حتى يصير أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار على ما جاء في الأخبار.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقال ابن عباس وأبو سعيد الخدري: بل قدره في هوله وشدته ورزاياه للكفار قدر {خمسين ألف سنة}. وهذا كما تقول في اليوم العصيب، إنه كسنة.
اعلم أن عادة الله تعالى في القرآن أنه متى ذكر الملائكة في معرض التهويل والتخويف أفرد الروح بعدهم بالذكر، كما في هذه الآية، وكما في قوله: {يوم يقوم الروح والملائكة صفا} وهذا يقتضي أن الروح أعظم من الملائكة قدرا، ثم هاهنا دقيقة وهي أنه تعالى ذكر عند العروج الملائكة أولا والروح ثانيا، كما في هذه الآية، وذكر عند القيام الروح أولا والملائكة ثانيا، كما في قوله: {يوم يقوم الروح والملائكة صفا} وهذا يقتضي كون الروح أولا في درجة النزول وآخرا في درجة الصعود.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطان، حدثنا بُهلول بن المورق حدثنا موسى بن عبيدة، أخبرني [عن] محمد بن كعب: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} قال: هو يوم الفصل بين الدنيا والآخرة.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن أبي عمرو الغُداني قال: كنت عند أبي هُرَيرة فمر رجل من بني عامر بن صعصعة، فقيل له: هذا أكثر عامري مالا. فقال أبو هريرة: ردوه، فقال: نبئت أنك ذو مال كثير؟ فقال العامري: أي والله، إن لي لمائة حُمْرًا و مائة أدمًا، حتى عد من ألوان الإبل، وأفنان الرقيق، ورباط الخيل، فقال أبو هريرة: إياك وأخفاف الإبل وأظلافَ النعم -يُرَدّد ذلك عليه، حتى جعل لونُ العامري يتغير- فقال: ما ذاك يا أبا هُرَيرة؟ قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من كانت له إبلٌ لا يعطي حقها في نجدتها ورِسْلها -قلنا يا رسول الله: ما نجدتُها ورِسْلُها؟ قال: " في عُسرها ويسرها- " فإنها تأتي يوم القيامة كأغذّ ما كانت وأكثره وأسمنه وآشره، حتى يبطح لها بقاع قَرقَر، فتطؤه بأخفافها، فإذا جاوزته أخراها أعيدت عليه أولاها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين الناس فيرى سبيله، وإذا كانت له بقر لا يعطي حقها في نجدتها ورسلها، فإنها تأتي يوم القيامة كأغذ ما كانت وأكثره وأسمنه وآشره ثم يبطح لها بقاع قَرقَر فتطؤه كل ذات ظلف بظلفها، وتنطحه كل ذات قرن بقرنها، إذا جاوزته أخراها أعيدت عليه أولاها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين الناس فيرى سبيله. وإذا كانت له غنم لا يعطي حقها في نجدتها ورسلها، فإنها تأتي يوم القيامة كأغذ ما كانت وأسمنه وآشره، حتى يبطح لها بقاع قَرقَر، فتطؤه كل ذات ظلف بظلفها وتنطحه كل ذات قرن بقرنها، ليس فيها عَقصاء ولا عضباء، إذا جاوزته أخراها أعيدت عليه أولاها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين الناس، فيرى سبيله". قال العامري: وما حق الإبل يا أبا هريرة؟ قال: أن تعطي الكريمة، وتمنح الغَزيرَة، وتفقر الظهر، وتَسقيَ اللبن وتُطرقَ الفحل.
وقد رواه أبو داود من حديث شعبة، والنسائي من حديث سعيد بن أبي عَرُوبة، كلاهما عن قتادة، به...
والغرض من إيراده هاهنا قوله: " حتى يحكم الله بين عباده، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة".
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ودل على ما دلت عليه الكثرة مع الدلالة على عجيب القدرة في تخفيفها على الملائكة بقوله: {تعرج الملائكة} أي وهم أشد الخلق وأقدره على اختراق الطباق، والإسراع في النفوذ حتى يكونوا أعظم من لمح البرق الخفاق {والروح} أي جبريل عليه السلام، خصه تعظيماً له، أو هو خلق هو أعظم من الملائكة، وقيل: روح العبد المؤمن إذا قبض {إليه} أي محل مناجاته ومنتهى ما يمكن من العلو لمخلوقاته، وعلق بالعروج أو بواقع قوله: {في يوم} أي من أيامكم، وبين عظمته بقوله (كان) أي كونا هو في غاية الثبات (مقداره) أي لو كان الصاعد فيه آدمياً {خمسين ألف} وبين المشقة في صعوده أو الكون فيه إن أريد القيامة بأن قال: {سنة} ولم يقل: عاماً -مثلاً.
ويجوز أن يكون هذا اليوم ظرفاً للعذاب فيكون المراد به يوم القيامة، وأن يكون طوله على الكافر باعتبار ما يلحقه من الغم لشدة المخاوف عليه لأنه ورد أنه يخفف على المؤمن حتى يكون بمقدار صلاة واحدة -
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وبعد هذا الافتتاح الذي يقرر كلمة الفصل في موضوع العذاب، ووقوعه، ومستحقيه، ومصدره، وعلو هذا المصدر ورفعته، مما يجعل قضاءه أمرا علويا نافذا لا مرد له ولا دافع.. بعد هذا أخذ في وصف ذلك اليوم الذي سيقع فيه هذا العذاب، والذي يستعجلون به وهو منهم قريب. ولكن تقدير الله غير تقدير البشر، ومقاييسه غير مقاييسهم: من الآية 4 الى الآية 5 (تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، فاصبر صبرا جميلا، إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا).. والأرجح أن اليوم المشار إليه هنا هو يوم القيامة، لأن السياق يكاد يعين هذا المعنى. وفي هذا اليوم تصعد الملائكة والروح إلى الله. والروح: الأرجح أنه جبريل عليه السلام، كما سمي بهذا الاسم في مواضع أخرى. وإنما أفرد بالذكر بعد الملائكة لما له من شأن خاص. وعروج الملائكة والروح في هذا اليوم يفرد كذلك بالذكر، إيحاء بأهميته في هذا اليوم وخصوصيته، وهم يعرجون في شؤون هذا اليوم ومهامه. ولا ندري نحن -ولم نكلف أن ندري- طبيعة هذه المهام، ولا كيف يصعد الملائكة، ولا إلى أين يصعدون. فهذه كلها تفصيلات في شأن الغيب لا تزيد شيئا من حكمة النص، وليس لنا إليها من سبيل، وليس لنا عليها من دليل. فحسبنا أن نشعر من خلال هذا المشهد بأهمية ذلك اليوم، الذي ينشغل فيه الملائكة والروح بتحركات تتعلق بمهام ذلك اليوم العظيم. وأما (كان مقداره خمسين ألف سنة).. فقد تكون كناية عن طول هذا اليوم كما هو مألوف في التعبير العربي. وقد تعني حقيقة معينة، ويكون مقدار هذا اليوم خمسين ألف سنة من سني أهل الأرض فعلا وهو يوم واحد! وتصور هذه الحقيقة قريب جدا الآن. فإن يومنا الأرضي هو مقياس مستمد من دورة الأرض حول نفسها في أربع وعشرين ساعة. وهناك نجوم دورتها حول نفسها تستغرق ما يعادل يومنا هذا آلاف المرات.. ولا يعني هذا أنه المقصود بالخمسين ألف سنة هنا. ولكننا نذكر هذه الحقيقة لتقرب إلى الذهن تصور اختلاف المقاييس بين يوم ويوم!