فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{تَعۡرُجُ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ وَٱلرُّوحُ إِلَيۡهِ فِي يَوۡمٖ كَانَ مِقۡدَارُهُۥ خَمۡسِينَ أَلۡفَ سَنَةٖ} (4)

{ تَعْرُجُ الملائكة والروح إِلَيْهِ } أي تصعد في تلك المعارج التي جعلها الله لهم ، وقرأ الجمهور : { تَعْرِجُ } بالفوقية . وقرأ ابن مسعود وأصحابه والكسائي والسلمي بالتحتية ، والروح جبريل ، أفرد بالذكر بعد الملائكة لشرفه ، ويؤيد هذا قوله : { نَزَلَ بِهِ الروح الأمين } [ الشعراء : 193 ] ، وقيل : الروح هنا ملك آخر عظيم غير جبريل . وقال أبو صالح : إنه خلق من خلق الله سبحانه كهيئة الناس ، وليسوا من الناس . وقال قبيصة بن ذؤيب : إنه روح الميت حين تقبض ، والأوّل أولى . ومعنى { إِلَيْهِ } : أي إلى المكان الذي ينتهون إليه . وقيل : إلى عرشه . وقيل : هو كقول إبراهيم : { إِنّي ذَاهِبٌ إلى رَبّى } [ الصافات : 99 ] أي إلى حيث أمرني ربي { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } قال ابن إسحاق والكلبي ووهب بن منبه : أي عرج الملائكة إلى المكان الذي هو محلها في وقت كان مقداره على غيرهم لو صعد خمسين ألف سنة ، وبه قال مجاهد . وقال عكرمة : وروي عن مجاهد أن مدة عمر الدنيا هذا المقدار لا يدري أحدٌ كم مضى ، ولا كم بقي ، ولا يعلم ذلك إلاّ الله . وقال قتادة والكلبي ومحمد بن كعب : إن المراد يوم القيامة ، يعني : أن مقدار الأمر فيه لو تولاه غيره سبحانه خمسون ألف سنة ، وهو سبحانه يفرغ منه في ساعة ، وقيل : إن مدّة موقف العباد للحساب هي هذا المقدار ، ثم يستقرّ بعد ذلك أهل الجنة في الجنة ، وأهل النار في النار . وقيل : إن مقدار يوم القيامة على الكافرين خمسون ألف سنة ، وعلى المؤمنين مقدار ما بين الظهر والعصر ، وقيل : ذكر هذا المقدار لمجرد التمثيل والتخييل لغاية ارتفاع تلك المعارج وبعد مداها ، أو لطول يوم القيامة باعتبار ما فيه من الشدائد والمكاره ، كما تصف العرب أيام الشدّة بالطول وأيام الفرح بالقصر ، ويشبهون اليوم القصير بإبهام القطاة والطويل بظل الرمح ، ومنه قول الشاعر :

ويوم كظل الرمح قصر طوله *** دم الزق عنا واصطفاف المزاهر

وقيل : في الكلام تقديم وتأخير : أي ليس له دافع من الله ذي المعارج في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة تعرج الملائكة والروح إليه ، وقد قدّمنا الجمع بين هذه الآية وبين قوله في سورة السجدة { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ } [ السجدة : 5 ] فارجع إليه . وقد قيل في الجمع : إن من أسفل العالم إلى العرش خمسين ألف سنة ، ومن أعلى سماء الدنيا إلى الأرض ألف سنة ، لأن غلظ كل سماء خمسمائة عام ، وما بين أسفل السماء إلى قرار الأرض خمسمائة عام ، فالمعنى : أن الملائكة إذا عرجت من أسفل العالم إلى العرش كان مسافة ذلك خمسين ألف سنة ، وإن عرجوا من هذه الأرض التي نحن فيها إلى باطن هذه السماء التي هي سماء الدنيا كان مسافة ذلك ألف سنة ، وسيأتي في آخر البحث ما يؤيد هذا عن ابن عباس .

/خ18