اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{تَعۡرُجُ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ وَٱلرُّوحُ إِلَيۡهِ فِي يَوۡمٖ كَانَ مِقۡدَارُهُۥ خَمۡسِينَ أَلۡفَ سَنَةٖ} (4)

قوله : { تَعْرُجُ } . العامة : بالتاء من فوق .

وقرأ ابن مسعود{[57863]} ، وأصحابه ، والسلمي ، والكسائي : بالياء من تحت .

وهما كقراءتي : «فَنَادَاهُ المَلائِكَةُ ونَادَتْهُ » [ آل عمران : 39 ] ، «تَوَفَّاهُ وَتَوَفَّتْهُ » [ الأنعام : 61 ] .

وأدغم أبو{[57864]} عمرو : الجيم في التاء .

واستضعفها بعضهم من حيث إن مخرج الجيم بعيد من مخرج التاء .

وأجيب عن ذلك بأنها قريبة من الشين ؛ لأن النقص الذي في الشين يقرِّبها من مخرج التاء ، والجيم تدغم في الشين لما بينهما من التقارب ، في المخرج والصفة ، كما تقدم في { أَخْرَجَ شَطْئهُ }[ الفتح : 29 ] فحُمِلَ الإدغام في التاء ، على الإدغام في الشين ، لما بين الشين والتاء من التقارب .

وأجيب أيضاً : بأنَّ الإدغام يكون لمجرد الصفات ، وإنْ لم يتقاربا في المخرج ، والجيم تشارك التاء في الاستفال والانفتاح والشّدة .

والجملة من «تعرج » مستأنفة .

قوله : «والرُّوحُ » من باب عطف الخاص على العام ، إن أريد بالروح جبريل ، أو ملك آخر من جنسهم ، وأخر هنا وقدم في قوله : { يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً }[ النبأ : 38 ] ؛ لأن المقامَ هنا يقتضي تقدم الجمع على الواحد ، من حيثُ إنه مقامُ تخويفٍ ، وتهويل .

فصل في تحرير معنى الآية

{ تَعْرُجُ الملائكة والروح إِلَيْهِ } ، أي : تصعد في المعارج التي جعلها الله لهم .

قال ابن عبَّاسِ : الروح : جبريلُ - عليه السلام - لقوله تعالى : { نَزَلَ بِهِ الروح الأمين } {[57865]} .

وقيل : هو ملكٌ آخر ، عظيمُ الخلقةِ .

وقال أبو صالح : إنه خلق من خلق الله ، كهيئة الناس وليس بالناس .

وقال قبيصة بن ذؤيب : إنه روح الميت حين تقبض .

قوله : «إليه » ، أي : إلى المكان الذي هو محلهم ، وهو في السماء ؛ لأنه محلُّ برِّه وكرامته وقيل : هو كقول إبراهيم { إِنِّي ذَاهِبٌ إلى رَبِّي }[ الصافات : 99 ] ، أي : إلى الموضع الذي أمرني به .

وقيل : «إليه » إلى عرشه .

قال شهاب الدين{[57866]} : الضمير في «إليْهِ » ، الظاهر عوده على الله تعالى .

وقيل : يعود على المكان لدلالة الحال والسياق عليه .

قوله : «في يوم » ، فيه وجهان :

أظهرهما : تعلقه ب «تَعْرجُ » .

والثاني : أنه يتعلق ب «دافع » .

وعلى هذا فالجملة من قوله : «تعرجُ الملائكةُ » معترضة ، و «كَانَ مقداره » صفةٌ ل «يوم » .

قال ابن الخطيب{[57867]} : الأكثرون على أنَّ قوله : «فِي يَوْمٍ » صلة قوله : «تَعْرُجُ » ، أي : يحصل العروج في مثل هذا اليوم .

وقال مقاتل : بل هذا من صلة قوله : «بعَذابٍ واقع » [ وعلى هذا القول يكون في الآية تقديم وتأخير ، والتقدير : سأل سائل بعذاب واقع ]{[57868]} ، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة .

وعلى التقدير الأول ، فذلك اليوم ، إما أن يكون في الآخرة ، أو في الدنيا . وعلى تقدير أن يكون في الآخرة ، فذلك الطول إما أن يكون واقعاً ، وإما أن يكون مقدراً ، فإن كان معنى الآية : إن ذلك العُروجَ يقع في يوم من أيام الآخرة طوله خمسون ألف سنةٍ ، وهو يوم القيامة ، وهذا قول الحسن ، قال : وليس يعني أن مقدار طوله هذا فقط ؛ إذ لو كان كذلك لحصلت له غاية ، ولنفيت الجنة والنار عند انتهاء تلك الغاية ، وهذا غير جائز ، بل المراد : أن موقفهم للحساب حين يفصل بين الناس خمسون ألف سنة من سني الدُّنيا بعد ذلك يستقر أهل النار في النار ، نعوذ بالله منها .

فصل في الاحتجاج لهذا القول

قال القرطبي{[57869]} : واستدل النحاس على صحة هذا القول بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «مَا مِنْ رجُلٍ لَمْ يُؤدِّ زكَاةَ مالِه إلاَّ جعلَ لَهُ شُجَاعاً مِنْ نَارٍ تُكْوَى بِهِ جبْهَتُهُ وظَهْرُهُ وجَنْبَاهُ يَوْمَ القِيامَةِ في يَوْمٍ كَانَ مقْدارهُ خَمْسينَ ألْفَ سَنةٍ حتَّى يقْضِيَ الله بَيْنَ النَّاسِ »{[57870]} وهذا يدل على أنه يوم القيامةِ .

وقال إبراهيم التيمي : ما قدر ذلك اليوم على المؤمن إلا ما قدر ما بين ظهر يومنا وعصره .

وروي هذا المعنى مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «يحاسبكم الله تعالى بمقدار ما بين الصلاتين »{[57871]} ولذلك سمى نفسه { سَرِيعُ الحساب }[ المائدة : 40 ] ، و { أَسْرَعُ الحاسبين }[ الأنعام : 62 ] ، وإنما خاطبهم على قدر فهم الخلائقِ ، وإلا فلا يشغله شأن عن شأن ، وكما يرزقهم في ساعة يحاسبهم في لحظة ، قال تعالى : { مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ }[ لقمان : 28 ] .

والمعنى : لو ولي محاسبة العباد في ذلك اليوم غير الله ، لم يفرغ منه في خمسين ألف سنة .

قال البغوي : هذا معنى قول عطاء عن ابن عباس ومقاتل .

قال عطاء : ويفرغ الله منه في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا{[57872]} .

واعلم أنَّ هذا الطول ، إنَّما يكون في حق الكافرِ ، وأما في حق المؤمن فلا ، لما روى أبو سعيد الخدري أنه قال : «قِيْلَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أطولَ هذا اليوم ؟ فقال : " والذي نَفْسي بِيَدهِ إنَّهُ ليَخِفُّ على المؤمنِ حتَّى إنَّهُ يكُونُ أخفَّ من صلاةٍ مكتوبةٍ يُصلِّيهَا في الدُّنْيَا " {[57873]} .

وقال بعضهم : إنَّ ذلك ، وإن طال ، فيكون سبباً لمزيد السرورِ والراحة لأهل الجنة ، ويكون سبباً لمزيد الحزنِ والغمِّ لأهل النار .

وأجيب : بأنَّ الآخرة دارُ جزاءٍ ، فلا بد وأن يحصل للمثابين ثوابهم ، ودارُ الثوابِ هي الجنةُ لا الموقف ، فإذاً لا بد من تخصيص طول الموقف بالكفار .

وقيل : هذه المدة على سبيل التقدير لا على التحقيق ، أي : تعرج الملائكةُ في ساعة قليلة ، لو أراد أهل الدنيا العروج إليها كان مقدار مدَّتهم خمسين ألف سنةٍ .

وعن مجاهد والحسن وعكرمة : هي مدة إقامة عمر الدنيا من أول ما خلقت إلى آخر ما بقي خمسون ألف سنةٍ{[57874]} ، وهو قول أبي مسلمٍ .

فإن قيل : كيف الجمعُ بين هذه ، وبين قوله في سورة «السَّجدة » : { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ }[ السجدة : 5 ] وقد قال ابن عباس : هي أيام سمَّاها الله تعالى هو أعلم بها ، وأنا أكره أن أقول فيها ما لا أعلم{[57875]} ؟ .

فالجوابُ{[57876]} : يحتمل أن من أسفل العالم إلى أعلى العرش خمسين ألف سنةٍ ، ومن أعلى سماءِ الدنيا إلى الأرض ألف سنةٍ ؛ لأن عرض كل سماءٍ خمسمائة ، وما بين أسفل السماء إلى قرار الأرض خمسمائة ، فقوله : { في يَوْمٍ } يريد : في يوم من أيام الدنيا ، وهو مقدار ألف سنةٍ لو صعدوا فيه إلى سماء الدنيا ، ومقدار خمسين ألف سنةٍ لو صعدوا إلى أعلى العرش .


[57863]:ينظر: المحرر الوجيز 5/365، والبحر المحيط 8/327، والدر المصون 6/374.
[57864]:ينظر: الإدغام الكبير ص 121.
[57865]:ذكره الماوردي في "تفسيره" (6/90) والبغوي (4/392).
[57866]:ينظر: الدر المصون 6/374.
[57867]:الفخر الرازي 30/109.
[57868]:سقط من أ.
[57869]:الجامع لأحكام القرآن 18/184.
[57870]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (18/182).
[57871]:ذكره الماوردي في "تفسيره" (6/91).
[57872]:ذكره البغوي في "تفسيره" (4/393).
[57873]:أخرجه أحمد (3/75) وأبو يعلى (2/527) رقم (1390) وابن حبان (2577-موارد) والطبري في "تفسيره" (12/228) من حديث أبي سعيد الخدري. وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/340) وقال: رواه أحمد وأبو يعلى وإسناده حسن على ضعف في راويه. والحديث ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/417) وزاد نسبته إلى البيهقي في "البعث".
[57874]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/417)عن مجاهد وعكرمة وعزاه إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد.
[57875]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (18/184) عن ابن عباس.
[57876]:ينظر: الفخر الرازي 30/110.