13- فبسبب نقض بني إسرائيل عهودهم ، استحقوا الطرد من رحمة الله ، وصارت قلوبهم صلبة لا تلين لقبول الحق ، وأخذوا يصرفون كلام الله في التوراة عن معناه ، إلى ما يوافق أهواءهم ، وتركوا نصيباً وافياً مما أمروا به في التوراة ، وستظل أيها الرسول ترى منهم ألواناً من الغدر ونقض العهد ، إلا نفراً قليلا منهم آمنوا بك فلم يخونوا ولم يغدروا . فتجاوز أيها الرسول عما فرط من هؤلاء ، واصفح وأحسن إليهم ، إن الله يحب المحسنين .
لقد نقضوا ميثاقهم مع الله . . قتلوا أنبياءهم بغير حق ، وبيتوا القتل والصلب لعيسى عليه السلام - وهو آخر أنبيائهم - وحرفوا كتابهم - التوراة - ونسوا شرائعها فلم ينفذوها ، ووقفوا من خاتم الأنبياء - عليه الصلاة والسلام - موقفا لئيما ماكرا عنيدا ، وخانوا مواثيقهم معه . فباءوا بالطرد من هدى الله ، وقست قلوبهم فلم تعد صالحة لاستقبال هذا الهدى . .
( فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية ، يحرفون الكلم عن مواضعه ، ونسوا حظا مما ذكروا به . . . )
وصدق الله . فهذه سمات يهود التي لا تفارقهم . . لعنة تبدو على سيماهم ، إذ تنضح بها جبلتهم الملعونة المطرودة من الهداية . وقسوة تبدو في ملامحهم الناضبة من بشاشة الرحمة ، وفي تصرفاتهم الخالية من المشاعر الإنسانية ، ومهما حاولوا - مكرا - إبداء اللين في القول عند الخوف وعند المصلحة ، والنعومة في الملمس عند الكيد والوقيعة ، فإن جفاف الملامح والسمات ينضح ويشي بجفاف القلوب والأفئدة . . وطابعهم الأصيل هو تحريف الكلم عن مواضعه . تحريف كتابهم أولا عن صورته التي أنزلها الله على موسى - عليه السلام - إما بإضافة الكثير إليه مما يتضمن أهدافهم الملتوية ويبررها بنصوص من الكتاب مزورة على الله ! وإما بتفسير النصوص الأصلية الباقية وفق الهوى والمصلحة والهدف الخبيث ! ونسيان وإهمال لأوامر دينهم وشريعتهم ، وعدم تنفيذها في حياتهم ومجتمعهم ، لأن تنفيذها يكلفهم الاستقامة على منهج الله الطاهر النظيف القويم .
( ولا تزال تطلع على خائنة منهم ، إلا قليلا منهم . . . ) . .
وهو خطاب للرسول [ ص ] يصور حال يهود في المجتمع المسلم في المدينة . فهم لا يكفون عن محاولة خيانة رسول الله [ ص ] وقد كانت لهم مواقف خيانة متواترة . بل كانت هذه هي حالهم طوال إقامتهم معه في المدينة - ثم في الجزيرة كلها - وما تزال هذه حالهم في المجتمع الإسلامي على مدار التاريخ . على الرغم من أن المجتمع الإسلامي هو المجتمع الوحيد الذي آواهم ، ورفع عنهم الاضطهاد ، وعاملهم بالحسنى ، ومكن لهم من الحياة الرغيدة فيه . ولكنهم كانوا دائما - كما كانوا على عهد الرسول - عقارب وحيات وثعالب وذئابا تضمر المكر والخيانة ، ولا تني تمكر وتغدر . إن أعوزتهم القدرة على التنكيل الظاهر بالمسلمين نصبوا لهم الشباك وأقاموا لهم المصائد ، وتآمروا مع كل عدو لهم ، حتى تحين الفرصة ، فينقضوا عليهم ، قساة جفاة لا يرحمونهم ، ولا يرعون فيهم إلا ولا ذمة . أكثرهم كذلك . . كما وصفهم الله سبحانه في كتابه ، وكما أنبأنا عن جبلتهم التي أورثها إياهم نقضهم لميثاق الله من قديم .
والتعبير القرآني الخاص عن واقع حال اليهود مع رسول الله [ ص ] في المدينة ، تعبير طريف :
( ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم ) . .
الفعلة الخائنة ، والنية الخائنة ، والكلمة الخائنة ، والنظرة الخائنة . . يجملها النص بحذف الموصوف وإثبات الصفة . . ( خائنة ) . . لتبقى الخيانة وحدها مجردة ، تملأ الجو ، وتلقي ظلالها وحدها على القوم . . فهذا هو جوهر جبلتهم ، وهذا هو جوهر موقفهم ، مع الرسول [ ص ] ومع الجماعة المسلمة . .
إن هذا القرآن هو معلم هذه الأمة ومرشدها ورائدها وحادي طريقها على طول الطريق . وهو يكشف لها عن حال أعدائها معها ، وعن جبلتهم وعن تاريخهم مع هدى الله كله . ولو ظلت هذه الأمة تستشير قرآنها ؛ وتسمع توجيهاته ؛ وتقيم قواعده وتشريعاته في حياتها ، ما استطاع أعداؤها أن ينالوا منها في يوم من الأيام . . ولكنها حين نقضت ميثاقها مع ربها ؛ وحين اتخذت القرآن مهجورا - وإن كانت ما تزال تتخذ منه ترانيم مطربة ، وتعاويذ ورقى وأدعية ! - أصابها ما أصابها .
ولقد كان الله - سبحانه - يقص عليها ما وقع لبني إسرائيل من اللعن والطرد وقسوة القلب وتحريف الكلم عن مواضعه ، حين نقضوا ميثاقهم مع الله ، لتحذر أن تنقض هي ميثاقها مع الله ، فيصيبها ما يصيب كل ناكث للعهد ، ناقض للعقد . . فلما غفلت عن هذا التحذير ، وسارت في طريق غير الطريق ، نزع الله منها قيادة البشرية ؛ وتركها هكذا ذيلا في القافلة ! حتى تثوب إلى ربها ؛ وحتى تستمسك بعهدها ، وحتى توفيبعقدها . فيفي لها الله بوعده من التمكين في الأرض ومن القيادة للبشر والشهادة على الناس . . وإلا بقيت هكذا ذيلا للقافلة . . وعد الله لا يخلف الله وعده . .
ولقد كان توجيه الله لنبيه في ذلك الحين الذي نزلت فيه هذه الآية :
( فاعف عنهم واصفح ، إن الله يحب المحسنين ) . .
والعفو عن قبائحهم إحسان ، والصفح عن خيانتهم إحسان . .
ولكن جاء الوقت الذي لم يعد فيه للعفو والصفح مكان . فأمر الله نبيه [ ص ] أن يجليهم عن المدينة . ثم أن يأمر بإجلائهم عن الجزيرة كلها . وقد كان . .
ثم أخبر تعالى عما أحل بهم من العقوبة عند مخالفتهم ميثاقه ونقضهم عهده ، فقال : { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ } أي : فبسبب نقضهم الميثاقَ الذي أخذ عليهم لعناهم ، أي أبعدناهم عن الحق وطردناهم عن الهدى ، { وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً } أي : فلا يتعظون{[9431]} بموعظة لغلظها وقساوتها ، { يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ } أي : فسدت{[9432]} فُهومهم ، وساء تصرفهم في آيات الله ، وتأولوا كتابه على غير ما أنزله ، وحملوه على غير مراده ، وقالوا عليه ما لم يقل ، عياذًا بالله من ذلك ، { وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ } أي : وتركوا العمل به رغبة عنه .
قال الحسن : تركوا عُرَى دينهم ووظائف الله التي لا يقبل العمل إلا بها . وقال غيره : تركوا العمل فصاروا إلى حالة رديئة ، فلا قلوب سليمة ، ولا فطر مستقيمة ، ولا أعمال قويمة .
{ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ } يعني : مكرهم وغَدْرهم لك ولأصحابك .
وقال مجاهد وغيره : يعني بذلك تمالؤهم على الفتك بالنبي ، صلى الله عليه وسلم .
{ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ } وهذا هو عين النصر والظفر ، كما قال بعض السلف : ما عاملت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه . وبهذا يحصل لهم تأليف وجمع على الحق ، ولعل الله أن يهديهم ؛ ولهذا قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } يعني به : الصفح عمن أساء إليك .
وقال قتادة : هذه الآية { فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ } منسوخة بقوله : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِر [ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ] }{[9433]} [ التوبة : 29 ]
{ فَبِمَا نَقْضِهِم مّيثَاقَهُمْ لَعنّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ عَن مّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظّا مّمّا ذُكِرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مّنْهُمْ إِلاّ قَلِيلاً مّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ } . .
يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : يا محمد ، لا تعجبنّ من هؤلاء اليهود الذين هموا أن يبسطوا أيديهم إليك وإلى أصحابك ، ونكثوا العهد الذي بينك وبينهم ، غدرا منهم بك وأصحابك ، فإن ذلك من عاداتهم وعادات سلفهم ومن ذلك أنى أخذت ميثاق سلفهم على عهد موسى صلى الله عليه وسلم على طاعتي ، وبعثت منهم اثني عشر نقيبا وقد تُخيروا من جميعهم ليتجسسوا أخبار الجبابرة ، ووعدتهم النصر عليهم ، وأن أورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم ، بعد ما أريتهم من العبر والاَيات بإهلاك فرعون وقومه في البحر وفَلْق البحر لهم وسائر العبر ما أريتم ، فنقضوا ميثاقهم الذي واثقوني ونكثوا عهدي ، فلعنتهم بنقضهم ميثاقهم فإذا كان ذلك من فعل خيارهم مع أياديّ عندهم ، فلا تستنكروا مثله من فعل آراذلهم . وفي الكلام محذوف اكتفي بدلالة الظاهر عليه ، وذلك أن معنى الكلام : فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضلّ سواء السبيل ، فنقضوا الميثاق ، فلعنتهم ، فيما نقضهم ميثاقهم لعناهم ، فاكتفى بقوله : فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ من ذكر «فنقضوا » . ويعني بقوله جلّ ثناؤه : فبما نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ فبنقضهم ميثاقهم . كماقال قتادة .
حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنّاهُمْ يقول : فبنقضهم ميثاقهم لعناهم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : فَبما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ قال : هو ميثاق أخذه الله على أهل التوراة فنقضوه .
وقد ذكرنا معنى اللعن في غير هذا الموضع . والهاء والميم من قوله : فَبِما نَقْضِهِمْ عائدتان على ذكر بني إسرائيل قبل .
القول في تأويل قوله تعالى : وجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً .
اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة وبعض أهل مكة والبصرة والكوفة : قاسِيَةً بالألف ، على تقدير فاعلة ، من قسوة القلب ، من قول القائل : قسا قلبه ، فهو يقسو وهو قاس ، وذلك إذا غلظ واشتدّ وصار يابسا صلبا ، كما قال الراجز :
*** وَقَدْ قَسَوْتُ وَقَسَتْ لِدَاتي ***
فتأويل الكلام على هذه القراءة : فلعنا الذين نقضوا عهدي ولم يفوا بميثاقي من بني إسرائيل بنقضهم ميثاقهم الذي واثقوني ، وجعلنا قلوبهم قاسية غليظة يابسة عن الإيمان بي والتوفيق لطاعتي ، منزوعة منها الرأفة والرحمة . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفيين : «وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قَسِيةً » .
ثم اختلف الذين قرءوا ذلك كذلك في تأويله ، فقال بعضهم : معنى ذلك : معنى القسوة ، لأن فعيلة في الذمّ أبلغ من فاعلة ، فاخترنا قراءتها قسيّة على قاسية لذلك .
وقال آخرون منهم : بل معنى «قسية » غير معنى القسوة وإنما القسية في هذا الموضع القلوب التي لم يخلص إيمانها بالله ، ولكن يخالط إيمانها كفر كالدراهم القَسِية ، وهي التي يخالط فضتها غش من نحاس أو رصاص وغير ذلك ، كما قال أبو زُرَبيْد الطائي :
لَهَا صَوَاهِلُ في صُمّ السّلامِ كمَا ***صاحَ القَسِيّاتُ في أيدِي الصّيارِيفِ
يصف بذلك وقع مساحي الذين حفروا قبر عثمان على الصخور ، وهي السّلام .
وأعجب القراءتين إليّ في ذلك قراءة من قرأ : «وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قَسِيّةً » على فعلية ، لأنها أبلغ في ذمّ القوم من قاسية .
وأولى التأويلين في ذلك بالصواب تأويل من تأوّله فعيلة من القسوة ، كما قيل : نفس زكية وزاكية ، وامرأة شاهدة وشهيدة لأن الله جلّ ثناؤه وصف القوم بنقضهم ميثاقهم وكفرهم به ، ولم يصفهم بشيء من الإيمان ، فتكون قلوبهم موصوفة بأن إيمانها يخالطه كفر كالدراهم القسية التي يخالط فضتها غشّ .
القول في تأويل قوله تعالى : يُحَرّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ .
يقول عزّ ذكره : وجعلنا قلوب هؤلاء الذين نقضوا عهودنا من بني إسرائيل قسية ، منزوعا منها الخير ، مرفوعا منها التوفيق ، فلا يؤمنون ، ولا يهتدون ، فهم لنزع الله عزّ وجلّ التوفيق من قلوبهم والإيمان يحرّفون كلام ربهم الذي أنزله على نبيهم موسى صلى الله عليه وسلم ، وهو التوراة ، فيبدّلونه ويكتبون بأيديهم غير الذي أنزله الله جلّ وعزّ على نبيهم ويقولون لجهال الناس : هذا هو كلام الله الذي أنزله على نفسه موسى صلى الله عليه وسلم والتوراة التي أوحاها إليه . وهذا من صفة القرون التي كانت بعد موسى من اليهود ممن أدرك بعضهم عصر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، ولكن الله عزّ ذكره أدخلهم في عداد الذين ابتدأ الخبر عنهم ممن أدرك موسى منهم ، إذ كانوا من أبنائهم وعلى منهاجهم في الكذب على الله والفرية عليه ونقض المواثيق التي أخذها عليهم في التوراة . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : يُحَرّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ يعني : حدود الله في التوراة ، ويقولون : إن أمركم محمد بما أنتم عليه فاقبلوه ، وإن خالفكم فاحذروا .
القول في تأويل قوله تعالى : وَنَسُوا حَظّا مِمّا ذُكّرُوا بِهِ .
يني تعالى ذكره بقوله : وَنَسُوا حَظّا : وتركوا نصيبا ، وهو كقوله : نَسُوا اللّهَ فَنَسِيَهُمْ أي تركوا أمر الله فتركهم الله وقد مضى بيان ذلك بشواهده في غير هذا الموضع فأغني ذلك عن إعادته .
وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَنَسُوا حَظّا مِمّا ذُكّرُوا بِهِ يقول : تركوا نصيبا .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز قال : حدثنا مبارك بن فضالة ، عن الحسن في قوله : وَنَسُوا حَظّا مِمّا ذُكّرُوا بِهِ قال : تركوا عُرَى دينهم ووظائف الله جلّ ثناؤه التي لا تقبل الأعمال إلا بها .
القول في تأويل قوله تعالى : وَلا تَزَالُ تَطّلِعُ على خائِنَةٍ مِنْهُمْ إلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ .
يقول تبارك وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ولا تزال يا محمد تطلع من اليهود الذين أنبأتك نبأهم من نقضهم ميثاقي ، ونكثهم عهدي ، مع أياديّ عندهم ، ونعمتي عليهم ، على مثل ذلك من الغدر والخيانة ، إلا قليلاً منهم . والخائنة في هذا الموضع : الخيانة ، وهو اسم وضع موضع المصدر ، كما قيل خاطئة : للخطيئة ، وقائلة : للقيلولة .
وقوله : إلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ اسثناء من الهاء والميم اللتين في قوله : على خائِنَةٍ مِنْهُمْ .
وبنحو الذين قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : ولاَ تَزَالُ تَطّلِعُ على خائنَةٍ مِنْهُمْ قال : على خيانة وكذب وفجور .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : وَلا تَزَالُ تَطّلِعُ على خائِنَةٍ مِنْهُمْ قال : هم يهود مثل الذي همّوا به من النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم دخل حائطهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بنحوه .
حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، قال : قال ابن جريج ، قال مجاهد وعكرمة : قوله : وَلا تَزَالُ تَطّلِعُ على خائِنَةٍ مِنْهُمْ من يهود مثل الذي همّوا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم يوم دخل عليهم .
وقال بعض القائلين : معنى ذلك : ولا تزال تطلع على خائن منهم ، قال : والعرب تزيد الهاء في آخر المذكر كقولهم : هو رواية للشعر ، ورجل علامة ، وأنشد :
حَدّثْتَ نفسَكَ بالوَفاءِ ولم تكُنْ ***للغدْرِ خائنةً مُغِلّ الإصْبَعِ
فقال خائنة ، وهو يخاطب رجلاً .
والصواب من التأويل في ذلك القول الذي رويناه عن أهل التأويل ، لأن الله عنى بهذه الاَية القوم من يهود بني النضير الذين هموا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، إذ أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعينهم في دية العامريين ، فأطلعه الله عزّ ذكره على ما قد همّوا به . ثم قال جلّ ثناؤه بعد تعريفه أخبار أوائلهم وإعلامه منهج أسلافهم وأن آخرهم على منهاج أوّلهم في الغدر والخيانة ، لئلا يكبر فعلهم ذلك على نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، فقال جلّ ثناؤه : ولا تزال تطلع من اليهود على خيانة وغدر ونقض عهد . ولم يرد أنه لا يزال يطلّع على رجل منهم خائن ، وذلك أن الخبر ابتدىء به عن جماعتهم ، فقيل : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمح إذْ هَمّ قَوْمٌ أنْ يَبْسُطُوا إلَيْكُمْ أيْدِيَهُمْ ، ثم قيل : وَلا تَزَالَ تَطّلِعُ على خائِنَةٍ مِنْهُمْ ، فإذ كان الابتداء عن الجماعة فلتختم بالجماعة أولى .
القول في تأويل قوله تعالى : فاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إنّ اللّهَ يُحِبّ المُحْسِنينَ .
وهذ أمر من الله عزّ ذكره نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بالعفو عن هؤلاء القوم الذين همّوا أن يبسطوا أيديهم إليه من اليهود ، يقول الله جلّ وعزّ له : اعف يا محمد عن هؤلاء اليهود الذين همّوا بما همّوا به من بسط أيديهم إليك وإلى أصحابك بالقتل ، واصفح لهم عن جرمهم بترك التعرّض لمكروههم ، فإني أحبّ من أحسن العفو والصفح إلى من أساء إليه . وكان قتادة يقول : هذه منسوخة ، ويقول : نسختها آية براءة : قاتِلُوا الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ باللّهِ وَلا باليَوْمِ الاَخِرِ . . . الاَية .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : فاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ قال : نسختها : قاتِلُوا الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ باللّهِ وَلا باليَوْمِ الاَخِرِ وَلا يُحَرّمونَ ما حَرّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا حجاج بن المنهال ، قال : حدثنا همام ، عن قتادة : فاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إنّ اللّهَ يُحِبّ المُحْسِنِينَ ولم يؤمر يؤمئذٍ بقتالهم ، فأمره الله عزّ ذكره أن يعفو عنهم ويصفح ، ثم نسخ ذلك في براءة فقال : قاتِلُوا الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ باللّهِ وَلا باليَوْمِ الاَخِرِ وَلا يُحَرّمونَ ما حَرّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الحَقّ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ حتى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ وهم أهل الكتاب . فأمر الله جلّ ثناؤه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقاتلهم حتى يسلموا ، أو يقرّوا بالجزية .
حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا عبدة بن سليم ، قال : قرأت على ابن أبي عروبة ، عن قتادة نحوه .
والذي قاله قتادة غير مدفوع إمكانه ، غير أن الناسخ الذي لا شكّ فيه من الأمر ، هو ما كان نافيا كلّ معاني خلافه الذي كان قبله . فأما ما كان غير ناف جميعه ، فلا سبيل إلى العلم بأنه ناسخ إلا بخبر من الله جلّ وعزّ ، أو من رسوله صلى الله عليه وسلم . وليس في قوله : قاتِلُوا الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ باللّهِ وَلا باليَوْمِ الاَخِرِ دلالة على الأمر بنفي معاني الصفح والعفو عن اليهود . وإذ كان ذلك كذلك ، وكان جائزا مع إقرارهم بالصّغار وأدائهم الجزية بعد القتال ، الأمر بالعفو عنهم في غدرة هموا بها أو نكثة عزموا عليها ، ما لم ينصبوا حربا دون أداء الجزية ، ويمتنعوا من الأحكام اللازمة منهم ، لم يكن واجبا أن يحكم لقوله : قاتِلُوا الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ باللّهِ وَلا باليَوْمِ الاَخِرِ . . . الاَية ، بأنه ناسخ قوله : فاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إنّ اللّهَ يُحِبّ المُحْسِنِينَ .
يحتمل أن تكون «ما » زائدة والتقدير «فبنقضهم »{[4489]} ويحتمل أن تكون اسماً نكرة أبدل منه النقض على بدل المعرفة من النكرة ، التقدير : فبفعل هو نقضهم للميثاق ، وهذا هو المعنى في هذا التأويل ، وقد تقدم في النساء نظير هذا ، و { لعناهم } معناه بعدناهم من الخير أجمعه ، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر «قاسية » بالألف وقرأ حمزة والكسائي «قسية » دون ألف ، وزنها فعيلة فحجة الأولى قوله تعالى : { فويل للقاسية قلوبهم }{[4490]} وقوله : { ثم قست قلوبكم من بعد ذلك }{[4491]} والقسوة غلظ القلب ونبوه عن الرقة والموعظة وصلابته حتى لا ينفعل لخير ، ومن قرأ قسيه فهو من هذا المعنى فعيلة بمعنى فاعلة كشاهد وشهيد وغير ذلك من الأمثلة ، وحكى الطبري عن قوم أنهم قالوا «قسية » ليست من معنى القسوة وإنما هي كالقسي من الدراهم ، وهي التي خالطها غش وتدليس ، فكذا القلوب لم تصف للإيمان بل خالطها الكفر والفساد ومن ذلك قول أبي زبيد :
لها صواهل في صم السلام كما *** صاح القسيات في أيدي الصياريف{[4492]}
فما زوداني غير سحق عمامة *** وخمس مئىًء منها قسي وزائف{[4493]}
قال أبو علي : هذه اللفظة معربة وليست بأصل في كلام العرب ، واختلف العلماء في معنى قوله : { يحرفون الكلم } فقال قوم منهم ابن عباس ، تحريفهم هو بالتأويل ولا قدرة لهم على تبديل الألفاظ في التوراة ولا يتمكن لهم ذلك ويدل على ذلك بقاء آية الرجم واحتياجهم إلى أن يضع القارىء يده عليها ، وقالت فرقة : بل حرفوا الكلام وبدلوه أيضاً وفعلوا الأمرين جميعاً بحسب ما أمكنهم .
قال القاضي أبو محمد : وألفاظ القرآن تحتمل المعنيين فقوله تعالى : { فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم }{[4494]} يقتضي التبديل . ولا شك أنهم فعلوا الأمرين . وقرأ جمهور الناس «الكَلِم » بفتح الكاف وكسر اللام وقرأ أبو عبد الرحمن وإبراهيم النخعي «الكلام » بالألف وقرأ أبو رجاء . «الكِلْم » بكسر الكاف وسكون اللام ، وقوله تعالى : { ونسوا حظاً مما ذكروا به } نص على سوء فعلهم بأنفسهم أي قد كان لهم حظ عظيم فيما ذكروا به فنسوه وتركوه ، ثم أخبر تعالى نبيه عليه السلام أنه لا يزال في مؤتنف الزمان يطلع { على خائنة منهم } وغائلة وأمور فاسدة ، واختلف الناس في معنى { خائنة } في هذا الموضع فقالت فرقة { خائنة } مصدر كالعاقبة وكقوله تعالى : { فأهلكوا بالطاغية }{[4495]} فالمعنى على خيانة ، وقال آخرون معناه على فرقة خائنة فهي اسم فاعل صفة المؤنث ، وقال آخرون المعنى على خائن فزيدت الهاء للمبالغة كعلامة ونسابة ومنه قول الشاعر :
حدثت نفسك بالوفاء ولم تكن *** للغدر خائنة ُمغَّل الاصبع{[4496]}
وقرأ الأعمش : «على خيانة منهم » ثم استثنى تبارك وتعالى منهم القليل فيحتمل أن يكون الاستثناء في الأشخاص ، ويحتمل أن يكون في الأفعال ، وقوله تعالى : { فاعف عنهم واصفح } منسوخ بما في براءة من الأمر بقتالهم حتى يؤدوا الجزية{[4497]} وباقي الآية وعد على الإحسان .
قوله : { فبما نقضهم ميثاقهم لعنّاهم } قد تقدّم الكلام على نظيره في قوله تعالى : { فبما نقضهم ميثاقهم وكفرِهم } [ النساء : 155 ] ، وقوله : { فبظلم من الّذين هادوا حرّمنا عليهم طيّبات } في سورة النّساء ( 160 ) .
واللعن هو الإبعاد ، والمراد هنا الإبعادُ من رحمة الله تعالى ومن هديه إذ استوجبوا غضب الله لأجل نقض الميثاق .
{ وجَعلنا قلوبهم قاسية } قساوة القلب مجاز ، إذْ أصلها الصلابة والشدّة ، فاستعيرت لعدم تأثّر القلوب بالمواعظ والنذر . وقد تقدّم في قوله تعالى : { ثمّ قست قلوبكم من بعد ذلك } [ البقرة : 74 ] . وقرأ الجمهور : { قاسية } بصيغة اسم الفاعل . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف : { قَسِيَّة } فيكون بوزن فَعِيلة من قَسَا يَقْسو .
وجملة { يُحرّفون الكَلِم عن مواضعه } استئناف أو حال من ضمير { لَعنّاهم } . والتحريف : الميل بالشيء إلى الحرف ، والحرف هو الجانب . وقد كثر في كلام العرب استعارة معاني السير وما يتعلّق به إلى معاني العمل والهُدى وضدّه ؛ فمن ذلك قولهم : السلوك ، والسيرة ؛ والسعي ؛ ومن ذلك قولهم : الصراط المستقيم ، وصراطاً سوياً ، وسواء السبيل ، وجادّة الطريق ، والطريقة الواضحة ، وسواء الطريق ؛ وفي عكس ذلك قالوا : المراوغة ، والانحراف ، وقالوا : بنيَّات الطريق ، ويعْبُد الله على حرف ، ويشعِّبُ الأمور . وكذلك ما هنا ، أي يعدلون بالكلم النبويّة عن مواضعها فيسيرون بها في غير مسالكها ، وهو تبديل معاني كتبهم السماوية . وهذا التحريف يكون غالباً بسوء التأويل اتّباعاً للهوى ، ويكون بكتمان أحكام كثيرة مجاراة لأهواة العامّة ، قيل : ويكون بتبديل ألفاظ كتبهم . وعن ابن عبّاس : ما يدلّ على أنّ التحريف فساد التأويل . وقد تقدّم القول في ذلك عند قوله تعالى : { من الّذين هادوا يحرّفون الكلم عن مواضعه } في سورة النساء ( 46 ) . وجيء بالمضارع للدلالة على استمرارهم .
وجملة { ونسوا حظّاً } معطوفة على جملة { يحرّفون } . والنسيان مراد به الإهمال المفضي إلى النسيان غالباً . وعبّر عنه بالفعل الماضي لأنّ النسيان لا يتجدّد ، فإذا حصل مضى ، حتّى يُذكّره مُذكِّر . وهو وإن كان مراداً به الإهمال فإنّ في صوغه بصيغة الماضي ترشيحاً للاستعارة أو الكناية لتهاونهم بالذكرى .
والحظّ النصيب ، وتنكيره هنا للتعظيم أو التكثير بقرينة الذمّ . وما ذكّروا به هو التّوراة .
وقد جمعت الآية من الدلائل على قلّة اكتراثهم بالدّين ورقّة اتِّباعهم ثلاثة أصول من ذلك : وهي التعمّد إلى نقض ما عاهدوا عليه من الامتثال ، والغرور بسوء التأويل ، والنسيان الناشىءُ عن قلّة تعهّد الدّين وقلّة الاهتمام به .
والمقصود من هذا أن نعتبر بحالهم ونتّعظ من الوقوع في مثلها . وقد حاط علماء الإسلام رضي الله عنهم هذا الدّين من كلّ مسارب التحريف ، فميّزوا الأحكام المنصوصة والمقيسة ووضعوا ألقاباً للتمييز بينها ، ولذلك قالوا في الحكم الثابت بالقياس : يجوز أن يقال : هو دين الله ، ولا يجوز أن يُقال : قاله الله .
وقوله : { ولا تزال تطّلع على خائنة منهم } انتقال من ذكر نقضهم لعهد الله إلى خيسهم بعهدهم مع النّبيء صلى الله عليه وسلم وفِعل { لا تزال } يدلّ على استمرار ، لأنّ المضارع للدلالة على استمرار الفعل لأنّه في قوة أن يقال : يدوم اطّلاعك . فالاطّلاع مجاز مشهور في العلم بالأمر ، والاطّلاع هنا كناية عن المطّلع عليه ، أي لا يزالون يخونون فتطّلع على خيانتهم .
والاطّلاع افتعال من طَلع . والطلوع : الصعود . وصيغة الافتعال فيه لمجرّد المبالغة ، إذ ليس فعله متعدّياً حتّى يصاغ له مطاوع ، فاطّلع بمنزلة تطّلع ، أي تكلّف الطلوع لقصد الإشراف . والمعنى : ولا تزال تكشف وتشاهد خائنة منهم .
والخائنة : الخيانة فهو مصدر على وزن الفاعلة ، كالعاقبة ، والطاغية . ومنه { يعلم خائنة الأعين } [ غافر : 19 ] . وأصْل الخيانة : عدم الوفاء بالعهد ، ولعلّ أصلها إظهار خلاف الباطن . وقيل : { خائنة } صفة لمحذوف ، أي فرقة خائنة .
واستثنى قليلاً منهم جُبلوا على الوفاء ، وقد نقض يهود المدينة عهدهم مع رسول الله والمسلمين فظاهروا المشركين في وقعة الأحزاب ، قال تعالى : { وأنزَل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم } [ الأحزاب : 26 ] . وأمْره بالعفو عنهم والصفح حمل على مكارم الأخلاق ، وذلك فيما يرجع إلى سوء معاملتهم للنّبيء صلى الله عليه وسلم وليس المقام مقام ذكر المناواة القومية أو الدّينية ، فلا يعارض هذا قوله في براءة { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحقّ من الّذين أوتوا الكتاب حتّى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } [ التوبة : 29 ] لأنّ تلك أحكام التصرّفات العامّة ، فلا حاجة إلى القول بأنّ هذه الآية نسخت بآية براءة .