هؤلاء القوم الذين يعجبون من أن يبعثهم الله خلقا جديدا . وعجبهم هذا هو العجب ! هؤلاء يستعجلونك أن تأتيهم بعذاب الله ، بدلا من أن يطلبوا هدايته ويرجوا رحمته :
( ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة ) . .
وكما أنهم لا ينظرون في آفاق الكون ، وآيات الله المبثوثة في السماء والأرض ، فهم لا ينظرون إلى مصارع الغابرين الذين استعجلوا عذاب الله فأصابهم ؛ وتركهم مثلة يعتبر بها من بعدهم :
( وقد خلت من قبلهم المثلات ) . .
فهم في غفلة حتى عن مصائر أسلافهم من بني البشر ، وقد كان فيها مثل لمن يعتبر .
( وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم ) . .
فهو بعباده رحيم حتى وإن ظلموا فترة ، يفتح لهم باب المغفرة ليدخلوه عن طريق التوبة . ولكن يأخذ بعقابه الشديد من يصرون ويلجون ، ولا يلجون من الباب المفتوح .
والسياق يقدم هنا مغفرة الله على عقابه ، في مقابل تعجل هؤلاء الغافلين للعذاب قبل الهداية . ليبدو الفارق الضخم الهائل بين الخير الذي يريده الله لهم ، والشر الذي يريدونه لأنفسهم . ومن ورائه يظهر انطماس البصيرة ، وعمى القلب ، والانتكاس الذي يستحق درك النار .
يقول تعالى : { ويستعجلونك }{[15444]} أي : هؤلاء المكذبون { بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ } أي : بالعقوبة ، كما أخبر عنهم في قوله : { وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نزلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ مَا نُنزلُ الْمَلائِكَةَ إِلا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ } [ الحجر : 6 - 8 ] وقال تعالى : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ } [ العنكبوت : 53 ، 54 ] وقال : { سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } [ المعارج : 1 ] وقال : { يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ } [ الشورى : 18 ] { وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ } [ ص : 16 ] أي : حسابنا وعقابنا ، كما قال مخبرا عنهم : { وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الأنفال : 32 ] فكانوا{[15445]} يطلبون من الرسول أن يأتيهم بعذاب الله ، وذلك من شدة تكذيبهم وكفرهم وعنادهم .
قال الله تعالى : { وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ } أي : قد أوقعنا نقمتنا بالأمم الخالية وجعلناهم مثلة وعبرة وعظة لمن اتعظ بهم .
ثم أخبر تعالى أنه لولا حلمه وعفوه [ وغفره ]{[15446]} لعالجهم بالعقوبة ، كما قال تعالى : { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ } [ فاطر : 45 ]{[15447]} .
وقال تعالى في هذه الآية الكريمة : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ } أي : إنه ذو عفو وصفح{[15448]} وستر للناس مع أنهم يظلمون ويخطئون بالليل والنهار . ثم قرن هذا الحكم بأنه شديد العقاب ، ليعتدل الرجاء والخوف ، كما قال تعالى : { فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ } [ الأنعام : 147 ] وقال : { إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } [ الأعراف : 167 ] وقال : { نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الألِيمُ } [ الحجر : 49 ، 50 ] إلى أمثال ذلك من الآيات التي تجمع الرجاء والخوف .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد ، عن علي بن زيد ، عن سعيد بن المسَيَّب قال : لما نزلت هذه الآية : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لولا عفوُ الله وتجاوُزه ، ما هنأ أحدا العيش{[15449]} ولولا وعيده{[15450]} وعقابه ، لاتكل كل أحد " {[15451]} .
وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة الحسن بن عثمان أبي حسان الزيادي : أنه رأى رب العزة في النوم ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بين يديه يشفع في رجل من أمته ، فقال له : ألم يكفك أني أنزلت عليك في سورة الرعد : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ } ؟ قال : ثم انتبهت . {[15452]}
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسّيّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ وَإِنّ رَبّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لّلنّاسِ عَلَىَ ظُلْمِهِمْ وَإِنّ رَبّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ } .
يقول تعالى ذكره : ويستعجلونك يا محمد مشركو قومك بالبلاء والعقوبة قبل الرخاء والعافية ، فيقولون : اللّهُمّ إنْ كانَ هذَا هُوَ الحَقّ مِنْ عِنْدِكَ فَأمْطِرْ عَلَيْنا حِجَارَةً مِنَ السّماءِ أوِ ائْتِنا بِعَذَابٍ ألِيمٍ وهم يعلمون ما حلّ بمن خلا قبلهم من الأمم التي عصت ربها وكذّبت رسلها من عقوبات الله وعظيم بلائه ، فمن بين أمة مُسِخت قِرَدة وأخرى خنازير ، ومن بين أمة أهلكت بالرجْفَة ، وأخرى بالخسف ، وذلك هو المُثلات التي قال الله جلّ ثناؤه : وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ المَثُلاتُ والمَثُلات : العقوبات المنكّلات ، والواحدة منها : مَثُلة بفتح الميم وضمّ الثاء ، ثم تجمع مَثُلات كما واحدة الصّدُقات صَدُقَة ، ثم تجمع صَدُقات . وذكر أن تميما من بين العرب تضم الميم والثاء جميعا من المَثُلات ، فالواحدة على لغتهم منها مُثْلة ، ثم تجمع على مُثُلات ، مثل غُرْفة وغُرُفات ، والفعل منه : مثلتَ به أمثُل مَثْلاً بفتح الميم وتسكين الثاء ، فإذا أردت أنك أقصصته من غيره ، قلت : أمَثْلته من صاحبه أُمْثِله إمثالاً ، وذلك إذا أقصصته منه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ المَثُلاتُ : وقائع الله في الأمم فيمن خلا قبلكم .
وقوله : وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسّيّئَةِ قَبْلَ الحَسَنَةِ وهم مشركو العرب استعجلوا بالشرّ قبل الخير ، وقالوا : اللّهُمّ إنْ كانَ هَذَا هُوَ الحَقّ مِنْ عِنْدِكَ فَأمْطِرْ عَلَيْنا حِجَارَةً مِنَ السّماءِ أوِ ائْتِنا بِعَذابٍ ألِيمٍ .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسّيِئَةِ قَبْلَ الحَسَنَةٍ قال : بالعقوبة قبل العافية . وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ المَثُلاتُ قال : العقوبات .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : المَثُلات قال : الأمثال .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد . وحدثني المُثنَىّ قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ المَثُلاتُ قال : المَثُلات : الذي مَثّل الله في الأمم من العذاب الذي عذّبهم تولّت المَثُلات من العذاب ، قد خَلَت من قبلهم ، وعرفوا ذلك ، وانتهى إليهم ما مَثّل الله بهم حين عصَوه وعصَوا رسله .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا سليم ، قال : سمعت الشعبيّ يقول في قوله : وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ المَثُلاثُ قال : القِردَة والخنازير هي المثلات .
وقوله : وَإنّ رَبّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ للنّاسِ على ظُلْمِهِمْ يقول تعالى ذكره : وإن ربك يا محمد لذو ستر على ذنوب من تاب من ذنوبه من الناس ، فتارك فضيحَته بها في موقف القيامة ، وصافحٌ له عن عقابه عليها عاجلاً وآجلاً على ظلمهم . يقول : على فعلهم ما فعلوا من ذلك بغير إذن لهم بفعله . وَإنّ رَبّكَ لَشَدِيدُ العِقابِ لمن هلك مُصرّا على معاصيه في القيامة إن لم يُعَجّلِ له ذلك في الدنيا ، أو يجمعهما له في الدنيا والاَخرة . وهذا الكلام وإن كان ظاهُره ظاهرَ خير ، فإنه وعيد من الله وتهديد للمشركين من قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إن هم لم ينيبوا ويتوبوا من كفرهم قبل حلول نقمة الله بهم .
حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : وَإنّ رَبّكَ لَذُو ومَغْفِرَةٍ للنّاسِ يقول : ولكن ربك .
{ ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة } بالعقوبة قبل العافية ، وذلك لأنهم استعجلوا ما هددوا به من عذاب الدنيا استهزاء . { وقد خلت من قبلهم المثُلات } عقوبات أمثالهم من المكذبين فما لهم لم يعتبروا بهاو لم يجوزوا حلول مثلها عليهم ، والمثلة بفتح الثاء وضمها كالصَدُقَة والصُدْقَة ، العقوبة لأنها مثل المعاقب عليه ، ومنه المثال للقصاص وأمثلت الرجل من صاحبه إذا اقتصصته منه . وقرئ { المثلات } بالتخفيف و{ المثلات } بإتباع الفاء العين و{ المثلات } بالتخفيف بعد الإتباع ، و{ المثلات } بفتح الثاء على أنها جمع مثلة كركبة وركبات . { وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم } مع ظلمهم أنفسهم ، ومحله النصب على الحال والعامل فيه المغفرة والتقييد به دليل على جواز العفو قبل التوبة ، فإن التائب ليس على ظلمه ، ومن منع ذلك خص الظلم بالصغائر المكفرة لمجتنب الكبائر ، أو أول المغفرة بالستر والإمهال . { وإن ربك لشديد العقاب } للكفار أو لمن شاء ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " لولا عفو الله وتجاوزه لما هنأ أحد العيش ، ولولا وعيده وعقابه لاتكل على أحد " .
وقوله تعالى : { ويستعجلونك بالسيئة . . . } الآية ، هذه آية تبين تخطيئهم في أن يتمنوا المصائب ، ويطلبوا سقوط كسف من السماء أو حجارة تمطر عليهم{[6903]} ونحو هذا مع خلو ذلك في الأمم ونزوله بأناس كثير ؛ ولو كان ذلك لم ينزل قط لكانوا أعذر ، و { المثلات } جمع مثلة ، كسمرة وسمرات ، وصدقة وصدقات .
وقرأ الجمهور » المَثُلات «بفتح الميم وضم الثاء ، وقرأ مجاهد » المَثَلات «بفتح الميم والثاء ، وذلك جمع مثلة{[6904]} ، أي الأخذة الفذة بالعقوبة ، وقرأ عيسى بن عمر » المُثُلات «بضم الميم والتاء ، ورويت عن أبي عمرو ؛ وقرأ يحيى بن وثاب بضم الميم وسكون الثاء ، وهاتان جمع مثلة{[6905]} ، وقرأ طلحة بن مصرف » المَثْلات «بفتح الميم وسكون الثاء .
ثم رجّى عز وجل بقوله : { وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم } قال الطبري : معناه في الآخرة ، وقال قوم : المعنى : إذا تابوا ، و «شديد العقاب » إذا كفروا{[6906]} .
قال القاضي أبو محمد : والظاهر من معنى «المغفرة » هنا إنما هو ستره في الدنيا وإمهاله للكفرة ، ألا ترى التيسير في لفظ { مغفرة } ، وأنها منكرة مقللة ، وليس فيها مبالغة كما في قوله : { وإني لغفار لمن تاب }{[6907]} [ طه : 82 ] ونمط الآية يعطي هذا ، ألا ترى حكمه عليهم بالنار ، ثم قال : { ويستعجلونك } فلما ظهر سوء فعلهم وجب في نفس السامع تعذيبهم ، فأخبر بسيرته في الأمم وأنه يمهل مع ظلم الكفر ، ولم يرد في الشرع أن الله تعالى يغفر ظلم العباد .
ثم خوف بقوله : { وإن ربك لشديد العقاب } قال ابن المسيب : لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لولا عفو الله ومغفرته لما تمنى أحد عيشاً ، ولولا عقابه لاتكل كل أحد »{[6908]} وقال ابن عباس : ليس في القرآن أرجى من هذه الآية .
و { المثلات } هي العقوبات المنكلات التي تجعل الإنسان مثلاً يتمثل به ، ومنه التمثيل بالقتلى ، ومنه المثلة بالعبيد .