ولكن الفطرة حين تبلغ حداً معيناً من الفساد ، لاتتفكر ولا تتدبر ولا تتذكر ، ولا ينفع معها الإنذار ولا التذكير :
( فكذبوه ، فأنجيناه والذين معه في الفلك ، وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا ، إنهم كانوا قوماً عمين ) . .
ولقد رأينا من عماهم عن الهدى والنصح المخلص والنذير . . فبعماهم هذا كذبوا . . وبعماهم لاقوا هذا المصير !
قال الله تعالى : { فَكَذَّبُوهُ } أي : فتمادوا{[11855]} على تكذيبه ومخالفته ، وما آمن معه منهم إلا قليل ، كما نص عليه في موضع آخر ، { فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ } وهي السفينة ، كما قال : { فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ } [ العنكبوت : 15 ] { وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا } كما قال : { مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا } [ نوح : 25 ]
وقوله : { إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ } أي : عن الحق ، لا يبصرونه ولا يهتدون له .
فبين تعالى في هذه القصة أنه انتقم لأوليائه من أعدائه ، وأنجى رسوله والمؤمنين ، وأهلك أعداءهم من الكافرين ، كما قال تعالى : { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا [ وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ ] وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ{[11856]} } [ غافر : 51 ، 52 ]
وهذه سنة الله في عباده في الدنيا والآخرة ، أن العاقبة{[11857]} للمتقين والظفر والغلب لهم ، كما أهلك قوم نوح [ عليه االسلام ]{[11858]} بالغرق ونجى نوحا وأصحابه المؤمنين .
قال مالك ، عن زيد بن أسلم : كان قوم نوح قد ضاق بهم السهل والجبل .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : ما عذب الله قوم نوح [ عليه السلام ]{[11859]} إلا والأرض ملأى بهم ، وليس بقعة من الأرض إلا ولها مالك وحائز .
وقال ابن وَهْب : بلغني عن ابن عباس : أنه نجا مع نوح [ عليه السلام ]{[11860]} في السفينة ثمانون رجلا أحدهم " جُرْهم " ، وكان لسانه عربيا .
رواهن{[11861]} ابن أبي حاتم . وقد روي هذا الأثر الأخير من وجه آخر متصلا عن ابن عباس ، رضي الله عنهما .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَكَذّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَآ إِنّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ } .
يقول تعالى ذكره : فكذّب نوحا قومُه ، إذ أخبرهم أنه لله رسول إليهم يأمرهم بخلع الأنداد والإقرار بوحدانية الله والعمل بطاعته ، وخالفوا أمر ربهم ولجوا في طغيانهم يعمهون ، فأنجاه الله في الفلك والذين معه من المؤمنين به . وكانوا بنوح عليه السلام ثلاث عشرة ، فيما :
حدثني به ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : نوح وبنوه الثلاثة : سام ، وحام ، ويافث وأزواجهم ، وستة أناسيّ ممن كان آمن به .
وكان حمل معه في الفُلك من كلّ زوجين اثنين ، كما قال تبارك وتعالى : وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إلاّ قَلِيلٌ . والفُلك : هو السفينة . وأغْرَقْنا الّذِينَ كَذّبُوا بآياتِنا يقول : وأغرق الله الذين كذّبوا بحججه ولم يتبعوا رسله ولم يقبلوا نصيحته إياهم في الله بالطوفان . إنّهُمْ كانُوا قَوْما عَمِينَ يقول : عمين عن الحقّ . كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : عَمِينَ قال : عن الحقّ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : قَوْما عَمِينَ قال : العَمِي : العامي عن الحقّ .
{ فكذبوه فأنجيناه والذين معه } وهم من آمن به وكانوا أربعين رجلا وأربعين امرأة . وقيل تسعة بنوه سام وحام ويافث وستة ممن آمن به . { في الفلك } متعلق بمعه أو بأنجيناه ، أو حال من الموصول أو من الضمير في معه . { وأغرقنا الذين كذّبوا بآياتنا } بالطوفان . { إنهم كانوا قوما عمين } عمي القلوب غير مستبصرين ، وأصله عميين فخفف وقرئ " عامين " والأول أبلغ لدلالته على الثبات .
وقوله : { فكذبوه } الآية ، أخبر الله عنهم أنهم بعد تلطفه بهم كذبوه فأنجاه الله والمؤمنين به في السفينة وهي الفلك ، و { الفلك } لفظ واحد للجمع والمفرد ، وليس على حد ُجُنب ونحوه ، لكن فلك للواحد كسر على فُلك للجميع فضمة الفاء في الواحد ليست هي في الجمع وفعل بناء تكسير مثل أسد وأسد ، ويدل على ذلك قولهم في التثنية فلكان .
وفي التفسير : أن الذين كانوا مع نوح في السفينة أربعون رجلاً ، وقيل ثمانون ، وقيل عشرة ، فهم أولاده يافث وسام وحام ، وفي كثر من كتب الحديث للترمذي وغيره : أن جميع الخلق الآن من ذرية نوح عليه السلام ، وقال الزهري في كتاب النقاش : وفي القرآن { ذرية من حملنا مع نوح } .
قال القاضي أبو محمد : فيحتمل أن يكون سائر العشرة أو الأربعين حسب الخلاف حفدة لنوح ومن ذريته فتجتمع الآية والحديث ، ويحتمل أن من كان في السفينة غير بنيه لم ينسل ، وقد روي ذلك ، وإلا لكان بين الحديث والآية تعارض ، وقوله : { كذبوا بآياتنا } يقتضي أن نوحاً عليه السلام كانت له آيات ومعجزات ، وقوله : { عمين } وزنه فعلين وهو جمع عم وزنه فعل ، ويريد عمى البصائر ، وروي عن ابن عباس أن نوحاً بعث ابن أربعين سنة ، قال ابن الكلبي : بعد آدم بثمانمائة سنة ، وجاء بتحريم البنات والأخوات والأمهات والخالات والعمات ، وقال وهب بن منبه بعث نوح وهو ابن أربعمائة سنة ، وقيل بعث ابن ثلاثمائة سنة ، وقيل ابن خمسين سنة ، وروي أنه عمر بعد الغرق ستين سنة ، وروي أن الطوفان كان سنة ألف وستمائة من عمره صلى الله عليه وسلم ، وأتى في حديث الشفاعة وغيره : أن نوحاً أول نبي بعث إلى الناس ، وأتى أيضاً أن إدريس قبل نوح ومن آبائه وذلك يجتمع بأن تكون بعثة نوح مشتهرة لإصلاح الناس وحملهم بالعذاب والإهلاك على الإيمان ، فالمراد أنه أول نبي بعث على هذه الصفة .