ونعيم القلب والروح . نعيم القرب والتكريم : ( في مقعد صدق عند مليك مقتدر ) . . فهو مقعد ثابت مطمئن ، قريب كريم ، مأنوس بالقرب ، مطمئن بالتمكين . ذلك أنهم المتقون . الخائفون . المترقبون . والله لا يجمع على نفس خوفين : خوفها منه في الدنيا ، وخوفها يوم القيامة . فمن اتقاه في العاجلة أمنه في الآجلة . ومع الأمان في أفزع موطن ، يغمره بالأنس والتكريم .
وعند هذا الإيقاع الهادئ ، في هذا الظل الآمن ، تنتهي السورة التي حفلت حلقاتها بالفزع والكرب والأخذ والتدمير . فإذا للظل الآمن والإيقاع الهادئ طعم وروح أعمق وأروح . . وهذه هي التربية الكاملة . تربية العليم الحكيم بمسارب النفوس ومداخل القلوب . وهذا هو التقدير الدقيق لخالق كل شيء بقدر ، وهو اللطيف الخبير . .
{ في مقعد صدق } : أي في مجلس حق لا لغو به ولا تأثيم .
{ عند مليك مقتدر } : عند مليك أي ذي ملك وسلطا مقتدر على ما يشاء وهو لله جل جلاله .
هم جالسون في مقعد صدق في مجلس حق لا لغو يسمع فيه ولا تأثيم يلحق جالسه عند مليك أي ذي ملك وسلطان مقتدر على فعل كل ما يريده سبحانه لا إله إلا هو ولا رب سواه .
- ذكر الجوار الكريم وهو مجاورة الله رب العالمين في الملكوت الأعلى في دار السلام .
ولما كانت البساتين لا تسكن في الدنيا لأنه ليس فيها جميع ما يحتاجه الإنسان ، بين أن حال تلك غير حال هذه ، فقال مبدلاً مما{[61765]} قبله : { في مقعد } أي تلك الجنان محل إقامتهم التي تراد للقعود { صدق } أي فيما أراده الإنسان صدق وجوده الإرادة ولا يقعد فيه إلا أهل الصدق ، ولا يكون فيه إلا صدقه ، لا لغو فيه ولا تأثيم ، والتوحيد لإرادة الجنس مع أن الإبدال يفهم أنه لا موضع في تلك الجنان إلا وهو الصالح للتسمية بهذا الاسم ولأنهم لاتحاد قلوبهم ورضاهم كأنهم في مقعد واحد على أنه قرئ بالجمع .
ولما كان هذا غير معهود ، بين أن سببه تمكين الله لهم منه لاختصاصه لهم وتقريبه إياهم لإرضائه لهم ، فقال مقيداً لذلك بالتعبير بالعندية لأن عنديته سبحانه تعالى منزهة عن قرب الأجسام والجهات : { عند مليك } أي ملك تام الملك { مقتدر } أي شامل القدرة بالغها إلى حد لا يمكن إدراكه لغيره سبحانه كما تقدم قريباً ، فهو يوصلهم إلى كل خير ويدفع عنهم كل ضير ، وكما أن لهم في الآخرة عندية الإشهاد فلهم في الدنيا عندية الإمداد ، ولهذا الاسم الشريف سر في الانتصار على الظالمين ،
ولقد ختمت السورة كما ترى كما ابتدئت به من أمر الساعة ، وكانت البداية للبداية والنهاية للنهاية ، وزادت النهاية بيان السبب الموجد لها ، وهو قدرته سبحانه وعز شأنه وعظمت رحمته وإحسانه ، وعفوه ومغفرته ورضوانه ، ولتصنيف الناس فيها إلى كافر مستحق للانتقام ، ومؤمن مؤهل لغاية الإكرام ، لم يذكر الاسم الأعظم الجامع الذي يذكر في سياق مقتضى جمع الجلال والإكرام لصنف واحد وهو من يقع منه الإيمان ولا يتدنس بالعصيان ، وهم الذين آمنوا ، ولمشاركتها للسورتين اللتين بعدها في هذا العرض ، وهو الكلام في حق الصنفين فقط من غير ذكر عارض ممن آمن ، أشرك الثلاثة في الخلو عن ذكر الاسم الأعظم . فلم يذكر في واحدة منها وجاء فيها من الصفات ما يقتضي العظمة على أهل الكفران ، وما ينبئ عن الإكرام والإحسان لأهل الإيمان
{ ولمن خاف مقام ربه جنتان }[ الرحمن : 46 ] ولهذا ختمت هذه بصفة الملك المقتضي للسطوة التامة والإكرام البالغ وعدم المبالاة بأحد كائناً من كان ، لأن الملك من حيث هو ملك إنما يقتضي مقامه إهانة العدو وإكرام الولي ، وجعل ذلك على وجه المبالغة أيضاً ، كل ذلك للإعلام بأن تصريفه سبحانه لأحوال الآخرة كما قصد في هذه السورة من تصريفه في أحوال الدنيا من إهلاك الأعداء وإنجاء الأولياء ، وكأن هذه السورة كانت هكذا لأنها جاءت عقب النجم التي شرح فيها الإسراء وكان للنبي صلى الله عليه وسلم من العظمة بخرق العوائد باختراق السماوات ، والوصول إلى أنهى{[1]} الغاية من المناجاة ، وغيره من سر الملكوت ومحل الجبروت ، بعد أن لوح بمقامه عليه الصلاة والسلام بالطور ليعلم الفرق ويوصف كل بما هو الحق ، فكان ذلك مقتضياً لئلا يكون بعده من الناس إلا مؤمن خالص ، فإن كان غيره فهو معاند شديد الكفر ، وكأنها جعلت{[2]} ثلاثاً لإرادة غاية التأكيد لهذا المعنى الشديد ، فلما انقضت الثلاث كان متبركاً به في معظم آيات الحديد ثم توجت كل آية من آيات المجادلة به إشارة إلى أنه قد حصل غاية التشوف إليه وترهيباً لمن يعصي ولا سيما من يظاهر ، وترغيباً في الطاعة للملك الغافر ، والله الموفق لما يريد إنه قوي فعال لما يريد{[3]} .
{ في مقعد صدق عند مليك مقتدر }
{ في مقعد صدق } مجلس حق لا لغو فيه ولا تأثيم أريد به الجنس ، وقرئ مقاعد ، المعنى أنهم في مجالس من الجنات سالمة من اللغو والتأثيم بخلاف مجالس الدنيا فقلَّ أن تسلم من ذلك وأعرب هذا خبراً ثانياُ وبدلاً وهو صادق ببدل البعض وغيره { عند مليك } مثال مبالغة ، أي عزيز الملك واسعه { مقتدر } قادر لا يعجزه شيء وهو الله تعالى وفيه إشارة إلى الرتبة والقربة من فضله تعالى
قوله : { في مقعد صدق عند مليك مقتدر } أي منعمون في الجنة ، إذ لا لغو فيها ولا تأثيم ، بل هي دار كرامة لهم ورضوان من الله { عند مليك مقتدر } أي عند إله خالق مالك قادر على كل شيء{[4416]} .