{ فبأي آلاء ربكما تكذبان } الخطاب للمكلفين من الأنام ، وهو الإنس والجن . أي فبأي فرد من أفراد نعم ربكما تكفران وتجحدان ! ؟ أبتلك النعم المذكورة هنا أم بغيرها ؟ مع أن كل نعمة ناطقة بالحق ، شاهدة بالصدق ! . والاستفهام للتقرير بالنعم وتأكيدها في التذكير . وقيل : للتوبيخ والإنكار .
وقد عدد الله تعالى في هذه السورة كثيرا من نعائمه ، وذكر خلقه بعظيم من آلائه . ثم أتبع كل خلة وصفها ، ونعمة وضعها بهذه الآية الكريمة ؛ فذكرها في واحد وثلاثين موضعا ، وجعلها فاصلة بين كل نعمتين ، لينبههم على النعم ، ويقررهم بها ، ويقيم عليهم الحجة عند جحودها .
ولهذا الأسلوب البديع في العربية الفصحى شواهد كثيرة ؛ " فذكر ثمانية منها عقب آيات فيها تعداد عجائب خلق الله ، ومبدأ الخلق ومعادهم . ثم سبعة منها عقب آيات فيها ذكر النار وشدائدها ؛ بعدد أبواب جهنم . وحسن ذكر الآلاء عقبها ؛ لن من جملة الآلاء : رفع البلاء وتأخير العذاب . ثم ثمانية وصف الجنتين وأهلهما ؛ بعدد أبواب الجنة . وثمانية أخرى في الجنتين اللتين هما دون الجنتين الأولتين ؛ فمن اعتقد الثمانية الأولى ، وعمل بموجبها استحق هاتين الثمانيتين من الله ووقاه السبعة السابقة .
{ فبأي آلاء ربكما تكذبان } : أي فبأي نعم ربكما يا معشر الجن والإِنس تكذبان وهي كثيرة لا تعد ولا تحصى . والجواب لا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد .
{ فبأي آلاء ربكما } يا معشر الجن والإِنس { تكذبان } . لا بشيء من نِعمك ربّنا نكذب فلك الحمد .
- استحباب قول لا بشيء من آلائك ربنا نكذب فلك الحمد عند سماع قراءة فبأي آلاء ربكما تكذبان .
ولما ذكر جملة كثيرة من نعمه التي تشاهد بالأبصار والبصائر ، وكان الخطاب للثقلين ، الإنس والجن ، قررهم تعالى بنعمه ، فقال : { فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } أي : فبأي نعم الله الدينية والدنيوية تكذبان ؟
وما أحسن جواب الجن حين تلا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم هذه السورة ، فما مر بقوله : { فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } إلا قالوا{[944]} ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب ، فلك الحمد ، فهذا الذي ينبغي{[945]} للعبد إذا تليت عليه نعم الله وآلاؤه ، أن يقر بها ويشكر ، ويحمد الله عليها .
ثم خاطب الجن والإنس فقال : { فبأي آلاء ربكما تكذبان } أيها الثقلان ، يريد من هذه الأشياء المذكرة . وكرر هذه الآية في هذه السورة تقريراً للنعمة وتأكيداً في التذكير بها على عادة العرب في الإبلاغ والإشباع ، يعدد على الخلق آلاءه ، ويفصل بين كل نعمتين بما ينبههم عليها ، كقول الرجل لمن أحسن إليه : وتابع عليه بالأيادي وهو ينكرها ويكفرها : ألم تكن فقيراً فأغنيتك أفتنكر هذا ؟ ألم تكن عرياناً فكسوتك أفتنكر هذا ؟ ألم تك خاملاً ؟ فعززتك أفتنكر هذا ؟ ومثل هذا التكرير شائع في كلام العرب حسن تقريراً . وقد خاطب بلفظ التثنية على عادة العرب تخاطب الواحد بلفظ التثنية كقوله تعالى : { ألقيا في جهنم }( ق-24 ) . وروي عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال : " قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن حتى ختمها ، ثم قال : ما لي أراكم سكوتاً للجن كانوا أحسن منكم رداً ، ما قرأت عليهم هذه الآية من مرة { فبأي آلاء ربكما تكذبان } إلا قالوا : ولا بشيء من نعمتك ربنا نكذب ، فلك الحمد " .
{ فبأي آلاء ربكما تكذبان } الآلاء هي النعم واحدها إلى على وزن معي وقيل : إلى على وزن قضى وقيل : ألى على وزن أمد أو على وزن حصر والخطاب للثقلين الإنس والجن بدليل قوله : { سنفرغ لكم أيه الثقلان } [ الرحمن : 31 ] روي : أن هذه الآية لما قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم سكت أصحابه فقال جواب الجن خير من سكوتكم إني لما قرأتها على الجن قالوا : " لا نكذب بشيء من آلاء ربنا " . وكرر هذه الآية تأكيدا ومبالغة وقيل : إن كل موضع منها يرجع إلى معنى الآية التي قبله فليس بتأكيد لأن التأكيد لا يزيد على ثلاث مرات .
ولما كان من كفر به سبحانه بإنكاره أو إنكار شيء من صفاته ، أو كذب بأحد من رسله قد أنكر نعمه أو نعمة منها فلزمه {[61833]}بانكاره لتلك{[61834]} النعمة إنكار جميع النعم ، لأن الرسل داعية إلى الله بالتذكير بنعمه ، وكان ما مضى من هذه السورة إلى هنا اثنتي عشرة آية على عدد الكوفي والشامي ، عدد فيها أصول نعمه سبحانه على وجه دل بغاية البيان على أن له كل كمال ، وكان هذا العدد أول عدد زائد إشارة إلى تزايد النعم لأن كسوره النصف والثلث الربع والسدس تزيد على أصله ، وكان قد مضى ذكر الثقلين الجن والإنس في قوله { الأنام } قال تعالى إشارة إلى أنهم المقصودون بالوعظ ، منكراً موبخاً مبكتاً لمن أنكر شيئاً من نعمه أو قال قولاً أو فعل فعلاً يلزم منه إنكار شيء منها مسبباً عما مضى من تعداد هذه النعم المتزايدة التي لا يسوغ إنكارها ولا إنكار شيئ منها فيجب شكرها : { فبأي آلاء } أي نعم وعطايا { ربكما } أي المحسن إليكما بما أسدى من المزايا التي أسداها إليكم على وجه الكبرياء والعظمة وهي دائمة لا تنقطع من غير حاجة إلى{[61835]} مكافأة أحد ولا غيرها - أيها الثقلان - المدبر لكما الذي لا مدبر ولا سيد لكما غيره ، من آياته وصنائعه وحكمه وحكمته وعزته في خلقه واستسلام الكل له وخضوعهما إليه ، فإن كل هذه النعم الكبار آيات دالة عليه وصنائع محكمة وأحكام وحكم ظهرت بها عزته وبانت بها قدرته { تكذبان * } فمخاطبته بهذا الثقلين دليل على أن هذه الأشياء تعم على الجن كما أنها تعم على الإنس{[61836]} ، وأن لهم من ذلك ما لهم ، وذكره لهذه الآية بعد ذكر هذا العدد من الآيات إشارة إلى أن زيادة النعم إلى حد لا يحصى بحيث أن استيفاء عددها لا تحيط به عقول المكلفين لئلا يظنوا أنه لا نعمة غير ما ذكر في هذه السورة ، والتعبير عنها بلفظ الآلاء من أجل أنها النعم المخصوصة بالملوك لما لها من اللمعان والصف المميز لها من غيرها ولما لرؤيتها من الخير والدعاء ، وهي وإن كانت من الوا فيمكن أخذها من اللؤواء إلى أن الأصل الهمزة واللام ، فإذا انضم إليهما لام أخرى أو ألف ازداد المعنى الذي كان ظهوراً لأن الألف غيب الهمزة وباطنها ، واللام هي عين ما كان فلم يحصل خروج عن ذلك المعنى ، فإذا نظرت إلى الآل كان المعنى أن تلك النعم الكبار الملوكية تظهر للعباد معرفته سبحانه وأنه يؤل إليه كل شيء أولاً من غير نزاع كما أنه كان بكل شيء ، وتكل عن نظرها الأبصار النوافذ كما تكل عن رؤية الأشخاص التي يرفعها الآل لأنها تدل عليه سبحانه .
. . نعم عظيمة وإن كانت نقماً لأنه لا نعمة تدل مثل ما دل عليه سبحانه ، وكرر هذه الآية في هذه السورة من هنا بعد كل آية إلى آخرها لما تقدم في القمر من أن المنكر إذا تكرر إنكاره جداً بحيث أحرق الأكباد في المجاهرة بالعناد حسن سرد ما أنكره عليه ، وكلما ذكر بفرد منه قيل له : لم تنكره ؟ سواء أقر به حال التقرير أو استمر على العناد ، فالتكرار حينئذ يفيد التعريف بأن إنكاره تجاوز الحد ، ولتغاير النعم وتعددها واختلافها حسن تكرير التوقيف عليها واحدة واحدة تنبيهاً على جلالتها ، فإن كانت نعمة فالأمر فيها واضح ، وإن كانت نقمة فالنعمة{[61837]} دفعها أو تأخير الإيقاع بها ، ولما تقدم من{[61838]} أن كل تذكير{[61839]} بما أفاده الله تعالى من النعم بالحواس الخمس مضروبة في الجهات الستّ على أنك إذا اعتبرت نفس الآية وجدتها مشيرة إلى ذلك ، فإن كل كلمة منها - إلا الأخيرة في رسم من أثبت ألفها من كتبة المصاحف - خمسة أحرف أن اعتبرت هجاء الأولين والثالثة خمسة في الرسم ستة في الهجاء والنطق ، فهي للحواس وللجهات لأن الكل من الرب ، والكلمة الأخيرة ستة أحرف إن اعتبرت رسمها في المصاحف التي أسقطت ألفها ، فإن في إثباتها وحذفها اختلافاً بين أئمة المصاحف ، وهي إشارة إلى الجهات التي يملك الإنسان التصرف فيها ، أما{[61840]} الحواس فلا اختيار له فيها ، وإن اعتبرت هجاءها بحسب النطق كانت سبعة أحرف إشارة إلى أن النعم أكثر من أن تحصى لما تقدم من أسرار عدد السبعة وإلى أن تكذيب المكلفين متكاثر جداً ، فلذلك كان في غاية المناسبة أن تبسط هذه النعم على عدد ضرب الحواس الخمس في الجهات الست ، وذلك في الحقيقة فائدة ، فإنه من المألوف المعروف والجميل الموصوف أن التكرير عند التكذيب يوجب التكرير عند التقرير ، ويبلغ به النهاية في حسن التأثير ، وزاد العدد على مسطح الخمس في الست واحدة إشارة إلى أن نعم الواحدة لا انقطاع لها ، ولذلك فصلت إلى ثمان ذكرت أولاً عقب النعم ، فكانت على عدد السبع الذي هو أول عدد تام لأنه جمع الفرد والزوج وزوج الفرد وزوج الزوج ، وزاد بواحد إشارة إلى أنه كلما انقضى دور من عدد تام جدير لنعم أخرى فهي لا تتناهى لأن موليها له القدرة الشاملة والعلم التام ورحمته سبقت غضبه ، وفي كونها ثمانية إشارة إلى أنها سبب إلى الجنة ذات الأبواب الثمانية إن شكرت ، وفي تعقيبها بسبع نارية إشارة إلى أنها سبب للنار ذات الأبواب السبعة إن كفرت وفي تعقيبها بها إشارة إلى أن سببيتها للنار أقرب لكونها حفت بالشهوات ، وفي ذلك إشارة إلى أن من اتقى ما توعد عليه بشكر هذه النعم وقي أبواب النار السبعة ، ثم عقبها بثمانية ذكر فيها جنة المقربين إشارة إلى أن من عمل لما وعده كما أمره به الله نال أبواب الجنة الثمانية ، وثمانية أخرى عقب جنة أصحاب اليمين إشارة إلى مثل ذلك والله أعلم ، وكان ترتيبها في غاية الحسن ، ذكرت النعم أولاً استعطافاً وترغيباً في الشكر ثم الأهوال ترهيباً ودرأ للمفسدة بالعصيان والكفر ثم النعم الباقية لجلب المصالح ، وبدأ بأشرفها فذكر الجنة العليا لأن القلب إثر التخويف يكون أنشط والهمم تكون أعلى والعزم يكون أشد ، فحينئذ هذه الآية الأولى من الإحدى والثلاثين مشيرة إلى أن نعمة البصر من جهة الأمام ، فكأنه قيل : أبنعمة البصر مما يواجهكم أو غيرها تكذبان .
( فبأي آلاء ) نعم ( ربكما ) أيها الإنس والجن ( تكذبان ) ذكرت إحدى وثلاثين مرة ، والاستفهام فيها للتقرير لما روي الحاكم عن جابر قال : " قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن حتى ختمها ، ثم قال : مالي أراكم سكوتاً ، للجن كانوا أحسن منكم رداً ما قرأت عليهم هذه الآية من مرة ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) إلا قالوا : ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد " .
{ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 13 ) }
فبأي نِعَم ربكما الدينية والدنيوية- يا معشر الجن والإنس- تكذِّبان ؟ وما أحسن جواب الجن حين تلا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم هذه السورة ، فكلما مر بهذه الآية ، قالوا : " ولا بشيء من آلائك ربَّنا نكذب ، فلك الحمد " ، وهكذا ينبغي للعبد إذا تليت عليه نعم الله وآلاؤه ، أن يُقرَّ بها ، ويشكر الله ويحمده عليها .
قوله : { فبأي آلاء ربكما تكذبان } آلاء جمع ومفرده : إلي وألي وألي وإلى وألو{[4419]} والآلاء ، النعم والخيرات مما منّ الله به على العالمين من وجوه الرزق والخير والنعمة في مختلف مناحي الحياة والطبيعة ، فضلا عما ذرأه الله في نفس الإنسان من النعم الكثيرة كنعمة العقل والسمع والبصر والشم والذوق والحس والمشي ، وما ذرأه لذلك كله من أسباب ووسائل في غاية الكمال من حسن الهيئة والصورة وتمام التناسق والانسجام . والمعنى : فبأي أنعم الله أيها الثقلان تكذبان وهي أنعم جزيلة وهائلة ومبسوطة في أرجاء الكون والحياة جميعا . وإذا قرأنا هذه الآية بادرنا القول كما قالت الجن المؤمنون : اللهم ولا بشيء من آلائك نكذب {[4420]} .