هناك فقط استثناء واحد . . وهو ما يأذن به الله من الغيب ، فيطلع عليه رسله ، في حدود ما يعاونهم على تبليغ دعوته إلى الناس . فما كان ما يوحي به إليهم إلا غيبا من غيبه ، يكشفه لهم في حينه ويكشفه لهم بقدر ، ويرعاهم وهم يبلغونه ، ويراقبهم كذلك . . ويؤمر الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] أن يعلن هذا في صورة جادة رهيبة :
( إلا من ارتضى من رسول ، فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ، ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم ، وأحاط بما لديهم ، وأحصى كل شيء عددا ) . .
فالرسل الذين يرتضيهم الله لتبليغ دعوته ، يطلعهم على جانب من غيبه ، هو هذا الوحي : موضوعه ، وطريقته ، والملائكة الذين يحملونه ، ومصدره ، وحفظه في اللوح المحفوظ . . إلى آخر ما يتعلق بموضوع رسالتهم مما كان في ضمير الغيب لا يعلمه أحد منهم .
وفي الوقت ذاته يحيط هؤلاء الرسل بالأرصاد والحراس من الحفظة ، للحفظ والرقابة . يحمونهم من وسوسة الشيطان ونزغه ، ومن وسوسة النفس وتمنيتها ، ومن الضعف البشري في أمر الرسالة ، ومن النسيان أو الانحراف . ومن سائر ما يعترض البشر من النقص و الضعف . .
والتعبير الرهيب - ( فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ) . . يصور الرقابة الدائمة الكاملة للرسول ، وهو يؤدي هذا الأمر العظيم . .
قوله جلّ ذكره : { عَالِمُ الغَيْبَ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ } .
{ إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا } أرسل مع الوحي ملائكةً قُدَّامه وخَلْفه . . هم ملائكةٌ حَفَظَه ، يحفظون الوحيَ من الكهنة والشياطين ، حتى لا يزيدوا أو ينقصوا الرسالاتِ التي يحملها . . . واللَّه يعلم ذلك ، وأحاط عِلْمُه به .
27- إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا .
اختص الله وحده بعلم الغيب ، لكن من ارتضاه سبحانه واختاره لرسالته ، سواء أكان من الملائكة كجبريل ، أم من البشر كمحمد صلى الله عليه وسلم ، فإن الله تعالى يعلمه بشيء من الغيب ، بالطريقة التي يختارها الله ، وفي الوقت الذي يشاؤه الله ، وعندما ينتقل الوحي أو الغيب إلى الرسول من الملائكة أو إلى الرسول من البشر فإن الله تعالى ييسر له حراسة مترصّدة تحفظه من جميع الجهات ، ليظلّ الوحي في مكان أمين حتى يصل إلى البشر غير مختلط بمعرفة الشياطين له .
وعن الضحاك : ما بعث نبي إلا ومعه ملائكة يحرسونه من الشياطين ، الذين يتشبّهون بصورة الملك ، فإذا جاء شيطان في صورة الملك ، قالوا : هذا شيطان فاحذره ، وإن جاء الملك قالوا : هذا رسول ربك .
والخلاصة : إن الله تعالى يسخّر حفظة من الملائكة ، يحفظون قواه الظاهرة والباطنة من الشياطين ، ويعصمونه من وساوسهم .
وفي الآيتين ( 26 ، 27 ) من سورة الجن دليل على أن الرسل –عليه السلام- مؤيدون بالمعجزات ، ومنها الإخبار عن بعض المغيبات .
قال تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام : وأنبئكم بما تأكلون وما تدّخرون في بيوتكم . . . ( آل عمران : 49 ) .
وفي قوله تعالى : إلا من ارتضى من رسول . . .
إشارة إلى إبطال الكهانة والسحر والتنجيم ، لأن أصحابها أبعد شيء عن ارتضاء الله ، وأدخل ما يكون في سخطه وغضبه .
وقد أفاد القرطبي في تفسير الآيتين أن الغيب لله وحده لا يطّلع عليه إلا من ارتضى من رسله ، وليس المنجم ومن ضاهاه ، ممن يضرب بالحصى ، وينظر في الكتب ، ويزجر بالطير ممن ارتضاه من رسول ، فيطلعه على ما يشاء من غيبه ، بل هو كافر بالله ، مفتر عليه بحدسه وتخمينه وكذبه ، وليت شعري ما يقول المنجم في سفينة ركب فيها ألف إنسان ، على اختلاف أحوالهم وطوالعهم ، وتباين مواليدهم ، ودرجات نجومهم ، فعمّهم حكم الغرق في ساعة واحدة ، فلا فائدة أبدا في عمل المواليد ، ولا دلالة على شقي ولا سعيد ، ولم يبق إلا معاندة القرآن العظيم ، وفيه استحلال دمه على هذا التنجيم .
قل للمنجم صبحة الطوفان هل *** ولد الجميع بكوكب الغرق
( وقيل لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما أراد لقاء الخوارج : أتلقاهم والقمر في العقرب ؟ فقال رضي الله عنه : فأين قمرهم ؟ وكان ذلك في آخر الشهر .
فانظر إلى هذه الكلمة التي أجاب بها ، وما فيها من المبالغة في الرد على من يقول بالتنجيم ، والإفحام لكل جاهل يحقق أحكام النجوم .
وقال له مسافر بن عوف : يا أمير المؤمنين ، لا تسر في هذه الساعة ، وسر في ثلاث ساعات يمضين من النهار . فقال له علي رضي الله عنه : ولم ؟ قال : إنك إن سرت في هذه الساعة أصابك وأصاب أصحابك بلاء وضرّ شديد ، وإن سرت في الساعة التي أمرتك بها ظفرت وظهرت وأصبت ما طلبت . فقال علي رضي الله عنه : ما كان لمحمد صلى الله عليه وسلم منجم ولا لنا من بعده -في كلام طويل يحتج فيه بآيات من التنزيل- فمن صدّقك في هذا القول لم آمن عليه أن يكون كمن اتخذ من دون الله ندّا أو ضدّا ، اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك . ثم قال للمتكلم : نكذبك ونخالفك ونسير في الساعة التي تنهانا عنها . ثم أقبل على الناس فقال : يا أيها الناس إياكم وتعلم النجوم إلا ما تهتدون به في ظلمات البر والبحر ، وإنما المنجم كالساحر ، والساحر كالكافر ، والكافر في النار ، والله لئن بلغني أنك تنظر في النجوم وتعمل بها لأخلدنك في الحبس ما بقيت وبقيت ، ولأحرمنك العطاء ما كان لي سلطان . ثم سافر في الساعة التي نهاه عنها ، ولقي القوم فقتلهم وهي وقعة النهروان الثابتة في الصحيح لمسلم .
ثم قال : لو سرنا في الساعة التي أمرنا بها وظفرنا لقال قائل : سار في الساعة التي أمر بها المنجم . ما كان لمحمد صلى الله عليه وسلم منجم ولا لنا من بعده ، فتح الله علينا بلاد كسرى وقيصر وسائر البلدان ، ثم قال : يا أيها الناس ، توكلوا على الله وثقوا به ، فإنه يكفي ممن سواه )xi .
{ إلا من ارتضى من رسول . . . } فإنه يظهره على ما شاء من غبيه ؛ ليكون إخباره عنه معجزة له دالة على صدقة ، وليخبر الناس بما يتعلق منه برسالته وشئون الآخرة من البعث والحساب والجزاء والخلود . فإذا أراد سبحانه إظهاره عليه يسلك من جميع جوانبه حرسا من الملائكة يحرسونه من تعرض الجن لما يريد إظهاره عليه ؛ لئلا يسترقوه ويهمسوا له إلى الكهنة قبل أن يبلغه الرسول . وليحفظوه من وساوس الجن وتخاليطهم حتى يبلغ رسالة ربه إلى الناس
{ من ارتضى من رسول } : أي فإِنه يطلعه .
{ رصدا } : أي ملائكة يحفظونه حتى يبلغه مع الوحي الذي يبلغه لكافة الناس .
إلا من ارتضى من رسول أي رضيه أن يبلغ عنه فإِنه يطلعه مع الاحتياط الكافي حتى لا يتسرب الخبر الغيب إلى الناس { فإنه يسلك من بين يديه } الرسول المرتضى ومن خلفه رصداً من الملائكة ثم يطلعه ضمن الوحي الذي يوحي إليه .
- قد يطلع الله تعالى من ارتضى أن يطلعه من الرسل على غيب خاص ويتم ذلك بعد حماية كاملة من الشياطين كيلا ينقلوه إلى أوليائهم فيفتنوا به الناس .
{ إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ } أي : فإنه يخبره بما اقتضت حكمته أن يخبره به ، وذلك لأن الرسل ليسوا كغيرهم ، فإن الله أيدهم بتأييد ما أيده أحدا من الخلق ، وحفظ ما أوحاه إليهم حتى يبلغوه على حقيقته ، من غير أن تتخبطهم الشياطين ، ولا{[1253]} يزيدوا فيه أو ينقصوا ، ولهذا قال : { فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا } أي : يحفظونه بأمر الله ؛