ولم يحل السيد بين المرأة وفتاها . ومضت الأمور في طريقها . فهكذا تمضي الأمور في القصور !
ولكن للقصور جدرانا ، وفيها خدم وحشم . وما يجري في القصور لا يمكن أن يظل مستورا . وبخاصة في الوسط الأرستقراطي ، الذي ليس لنسائه من هم إلا الحديث عما يجري في محيطهن . وإلا تداول هذه الفضائح ولوكها على الألسن في المجالس والسهرات والزيارات :
( وقال نسوة في المدينة : امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه . قد شغفها حبا . إنا لنراها في ضلال مبين ) . .
وهو كلام أشبه بما تقوله النسوة في كل بيئة جاهلية عن مثل هذه الشؤون . ولأول مرة نعرف أن المرأة هي امرأة العزيز ، وأن الرجل الذي اشتراه من مصر هو عزيز مصر - أي كبير وزرائها - ليعلن هذا مع إعلان الفضيحة العامة بانتشار الخبر في المدينة :
( امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه ) . .
فهي مفتونة به ، بلغ حبه شغاف قلبها ومزقه ، وشغاف القلب غشاؤه الرقيق :
وهي السيدة الكبيرة وزوجة الكبير ، تفتتن بفتاها العبراني المشترى . أم لعلهن يتحدثن عن اشتهارها بهذه الفتنة وانكشافها وظهور أمرها ، وهو وحده المنتقد في عرف هذه الأوساط لا الفعلة في ذاتها لو ظلت وراء الأستار ؟ !
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ } .
يقول تعالى ذكره : وتحدّث النساء بأمر يوسف ، وأمر امرأة العزيز في مدينة مصر ، وشاع من أمرهما فيها ما كان ، فلم ينكتم ، وقلن : { امرأة العزيز تراود فتاها } : عبدها ، عن نفسه : كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : وشاع الحديث في القرية ، وتحدّث النساء بأمره وأمرها ، وقلن : { امْرأةُ العَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ } ، أي : عبدها .
وأما العزيز فإنه الملك في كلام العرب ، ومنه قول أبي دؤاد :
دُرّةٌ غاصَ عَلَيْها تاجِرٌ *** جُلِيَتْ عنْدَ عَزِيزٍ يَوْمَ طَلّ
يعني بالعزيز : الملك ، وهو من العزّة .
وقوله : { قَدْ شَغَفَها حُبّا } ، يقول قد وصل حثّ يوسف إلى شغاف قلبها ، فدخل تحته حتى غلب على قلبها . وشغاف القلب : حجابه وغلافه الذي هو فيه ، وإياه عَنى النابغة الذبياني بقوله :
وَقَدْ حالَ هَمّ دُونَ ذلكَ داخِلٌ *** دُخُولَ شُغافٍ تَبْتَغِيهِ الأصَابِعُ
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا حجاج بن محمد ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عمرو بن دينار ، أنه سمع عكرمة يقول في قوله : { شَغَفَها حُبّا } ، قال : دخل حبه تحت الشغاف .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : { قَدْ شَغَفَها حُبّا } ، قال : دخل حبه في شغافها .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { قَدْ شَغَفَها حُبّا } ، قال : دخل حبه في شغافها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { قَدْ شَغَفَها حُبّا } ، قال : كان حبه في شغافها .
قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثل حديث الحسن بن محمد ، عن شبابة .
حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثنا أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { قَدْ شَغَفَها حُبّا } ، يقول : علقها حبّا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : { قَدْ شَغَفَها حُبّا } ، قال : غلبها .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن أبيه عن أيوب بن عائذ الطائي عن الشعبي : { قَدْ شَغَفَها حُبّا } ، قال : المشغوف : المحبّ ، والمشعوف : المجنون .
وبه قال : حدثنا أبي ، عن أبي الأشهب ، عن أبي رجاء والحسن : { قَدْ شَغَفَها حُبّا } ، قال : أحدهما : قد بطنها حبا ، وقال الاَخر : قد صدقها حبا .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله : { قَدْ شَغَفَها حُبّا } ، قال : قد بطنها حبّا . قال يعقوب : قال أبو بشر : أهل المدينة يقولون : قد بطنها حبّا .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، قال : سمعته يقول في قوله : { قَدْ شَغَفَها حُبّا } ، قال : بطنها حبّا . وأهل المدينة يقولون ذلك .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، عن قرة ، عن الحسن : { قَدْ شَغَفَها حُبّا } ، قال : قد بطن بها حبّا .
حدثنا الحسن ، قال : حدثنا أبو قطن ، قال : حدثنا أبو الأشهب ، عن الحسن : { قَدْ شَغَفَها حُبّا } ، قال : بطنها حبه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة . عن الحسن : { قَدْ شَغَفَها حُبّا } ، قال : بطن بها .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : { قَدْ شَغَفَها حُبّا } ، قال : استبطنها حبها إياه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { قَدْ شَغَفَها حُبّا } ، أي : قد علقها .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي يحيى ، عن مجاهد : { قَدْ شَغَفَها حُبّا } ، قال : قد علقها حبّا .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا المحاربيّ ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : هو الحبّ اللازق بالقلب .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك ، في قوله : { قَدْ شَغَفَها حُبّا } ، يقول : هلكت عليه حبّا ، والشّغَاف : شَغاف القلب .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { قَدْ شَغَفَها حُبّا } ، قال : والشغاف : جلدة من على القلب ، يقال لها : لسان القلب ، يقول : دخل الحبّ الجلد حتى أصاب القلب .
وقد اختلفت القرأة في قراءة ذلك :
فقرأته عامة قرأة الأمصار بالغين : { قَدْ شَغَفَها } ، على معنى ما وصفت من التأويل .
وقرأ ذلك أبو رجاء : { قَدْ شَعَفَها } ، بالعين .
حدثنا الحسين بن محمد ، قال : حدثنا أبو قطن ، قال : حدثنا أبو الأشهب ، عن أبي رجاء : { قَدْ شَعَفَها } .
قال : حدثنا خلف ، قال : حدثنا هشيم ، عن أبي الأشهب ، أو عوف ، عن أبي رجاء : { قَدْ شَعَفَها حُبّا } ، بالعين .
قال : حدثنا خلف ، قال : حدثنا محبوب ، قال : قرأه عوف : { قَدْ شَعَفَها } .
قال : حدثنا عبد الوهاب ، عن هارون ، عن أسيد ، عن الأعرج : { قَدْ شَعَفَها حُبّا } ، وقال : شعفها : إذا كان هو يحبها .
ووجّه هؤلاء معنى الكلام إلى أن الحبّ قد عمها .
وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من الكوفيين يقول : هو من قول القائل : " قد شُعِفَ بها " ، كأنه ذهب بها كلّ مذهب ، من شغف الجبال ، وهي رؤوسها .
ورُوي عن إبراهيم النخعي أنه قال : الشغف : شغف الحبّ . والشّعفَ : شَعَف الدابة حين تذعر .
حدثني بذلك الحارث ، عن القاسم ، أنه قال : يُروى ذلك عن أبي عوانة ، عن مغيرة عنه .
قال الحارث : قال القاسم ، يذهب إبراهيم إلى أنّ أصل الشغف : هو الذعر . قال : وكذلك هو كما قال إبراهيم في الأصل ، إلا أن العرب ربما استعارت الكلمة فوضعتها في غير موضعها قال امرؤ القيس :
أتَقْتُلِني وَقَدْ شَعَفْتُ فُؤَادَها *** كمَا شَعَفَ المَهْنُوءَةَ الرّجلُ الطّالي
قال : وشعف المرأة . من الحبّ ، وشعف المهنوءة من الذّعر ، فشبه لوعة الحبّ وجواه بذلك .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال : ابن زيد ، في قوله : { قَدْ شَغَفَها حُبّا } ، قال : إن الشّغْف ، والشّعَف مختلفان ، والشعْف في البغض ، والشغْف في الحبّ . وهذا الذي قاله ابن زيد لا معنى له ، لأن الشعْف في كلام العرب بمعنى : عموم الحبّ ، أشهر من أن يجهله ذو علم بكلامهم .
قال أبو جعفر : والصواب في ذلك عندنا من القراءة : { قَدْ شَغَفَها } ، بالغين ؛ لإجماع الحجة من القرّاء عليه .
وقوله : { إنّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } ، قلن : إنا لنرى امرأة العزيز في مراودتها فتاها عن نفسه ، وغلبة حبه عليها لفي خطأ من الفعل ، وجور عن قصد السبيل مبين لمن تأمله وعلمه أنه ضلال وخطأ غير صواب ولا سداد . وإنما كان قيلهنّ ما قلن من ذلك ، وتحدّثهنّ بما تحدّثن به من شأنها وشأن يوسف مكرا منهنّ فيما ذكر لتريهنّ يوسف .
{ وقال نسوة } هي اسم لجمع امرأة وتأنيثه بهذا الاعتبار غير حقيقي ولذلك جرد فعله وضم النون لغة فيها . { في المدينة } ظرف لقال أي أشعن الحاكية في مصر ، أو صفة نسوة وكن خمسا زوجة الحاجب والساقي والخباز والسجان وصاحب الدواب . { امرأة العزيز تُراود فتاها عن نفسه } تطلب مواقعة غلامها إياها . و{ العزيز } بلسان العرب الملك وأصل فتى فتي لقولهم فتيان والفتوة شاذة . { قد شغفها حبّاً } شق شغاف قلبها وهو حجابه حتى وصل إلى فؤادها حبا ، ونصبه على التمييز لصرف الفعل عنه . وقرئ " شعفها " من شعف البعير إذا هنأه بالقطران فأحرقه . { إنا لنراها في ضلال مبين } في ضلال عن الرشد وبعد عن الصواب .
النسوة : اسم جمع امرأة لا مفرد له ، وهو اسم جمع قِلة مثله نساء . وتقدم في قوله تعالى : { ونساءَنا ونساءَكم } في سورة آل عمران ( 61 ) .
وقوله : { في المدينة } صفة لنسوة . والمقصود من ذكر هذه الصفة أنهن كنّ متفرقات في ديار من المدينة . وهذه المدينة هي قاعدة مصر السفلى وهي مدينة ( مَنْفِيسْ ) حيث كان قصر العزيز ، فنقل الخبر في بيوت المتصلين ببيت العزيز . وقيل : إن امرأة العزيز باحت بالسر لبعض خلائلها فأفشينه كأنّها أرادت التشاور معهن ، أو أرادت الارتياح بالحديث إليهن ( ومن أحب شيئاً أكثر من ذكره ) . وهذا الذي يقتضيه قوله : { وأعْتَدت لهن متكئاً } [ سورة يوسف : 31 ] وقوله : { ولئن لم يفعل } [ سورة يوسف : 32 ] .
والفتى : الذي في سنّ الشباب ، ويكنى به عن المملوك وعن الخادم كما يكنى بالغلام والجارية وهو المراد هنا . وإضافته إلى ضمير امرأة العزيز } لأنه غلام زوجها فهو غلام لها بالتبع ما دامت زوجة لمالكه .
وشَغَف : فعل مشتق من اسم جامد ، وهو الشِغاف بكسر الشين المعجمة وهو غلاف القلب . وهذا الفعل مثل كَبَدهُ ورآهُ وجَبَهه ، إذا أصاب كَبده ورئته وجَبهته .
والضمير المستتر في { شغفها } ل { فتاها } . ولما فيه من الإجمال جيء بالتمييز للنسبة بقوله : { حبّا } . وأصله شغفها حبه ، أي أصاب حبه شغافها ، أي اخترق الشغاف فبلغ القلب ، كناية عن التمكن .
وتذكير الفعل في { وقال نسوة } لأن الفعل المسند إلى ألفاظ الجموع غير الجمع المذكر السالِم يجوز تجريده من التاء باعتبار الجمع ، وقرنه بالتاء باعتبار الجماعة مثل { وجاءت سيارة } [ سورة يوسف : 19 ] .
وأما الهاء التي في آخر { نسوة } فليست علامة تأنيث بل هي هاء فِعلة جمع تكسير ، مثل صبية وغلمة .
وقد تقدم وجه تسمية الذي اشترى يوسف عليه السّلام باسم العزيز عند قوله تعالى : { وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته } [ سورة يوسف : 21 ] . وتقدم ذكر اسمه واسمها في العربية وفي العبرانية .
ومجيء تراود } بصيغة المضارع مع كون المراودة مضت لقصد استحضار الحالة العجيبة لقصد الإنكار عليها في أنفسهن ولومها على صنيعها . ونظيره في استحضار الحالة قوله تعالى : { يجادلنا في قوم لوط } [ سورة هود : 74 ] .
وجملة قد شغفها حباً } في موضع التعليل لجملة { تراود فتاها } .
وجملة { إنا لنراها في ضلال مبين } استئناف ابتدائي لإظهار اللوم والإنكار عليها . والتأكيد ب ( إنّ ) واللام لتحقيق اعتقادهِن ذلك ، وإبعاداً لتهمتهن بأنهن يحسدنها على ذلك الفتى .
والضلال هنا : مخالفة طريق الصواب ، أي هي مفتونة العقل بحب هذا الفتى ، وليس المراد الضلال الديني . وهذا كقوله تعالى آنفاً : { إن أبانا لفي ضلال مبين } [ سورة يوسف : 8 ] .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وتحدّث النساء بأمر يوسف وأمر امرأة العزيز في مدينة مصر، وشاع من أمرهما فيها ما كان، فلم ينكتم، وقلن: {امرأة العزيز تراود فتاها}: عبدها، عن نفسه، وأما العزيز فإنه الملك في كلام العرب.
{قَدْ شَغَفَها حُبّا}، يقول قد وصل حب يوسف إلى شغاف قلبها، فدخل تحته حتى غلب على قلبها. وشغاف القلب: حجابه وغلافه الذي هو فيه، ووجّه هؤلاء معنى الكلام إلى أن الحبّ قد عمها وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من الكوفيين يقول: هو من قول القائل: قد شُغفَ بها، كأنه ذهب بها كلّ مذهب، من شغف الجبال، وهي رؤوسها.
{إنّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}، قلن: إنا لنرى امرأة العزيز في مراودتها فتاها عن نفسه، وغلبة حبه عليها لفي خطأ من الفعل، وجور عن قصد السبيل "مبين "لمن تأمله وعلمه أنه ضلال وخطأ غير صواب ولا سداد. وإنما كان قيلهنّ ما قلن من ذلك، وتحدّثهنّ بما تحدّثن به من شأنها وشأن يوسف مكرا منهنّ فيما ذكر لتريهنّ يوسف.
{شغفها حبا} أي دخل الحب الجلد حتى أصاب القلب.
والثاني: أن حبه أحاط بقلبها مثل إحاطة الشغاف بالقلب، ومعنى إحاطة ذلك الحب بقلبها هو أن اشتغالها بحبه صار حجابا بينها وبين كل ما سوى هذه المحبة فلا تعقل سواه ولا يخطر ببالها إلا إياه.
والثالث: قال الزجاج: الشغاف حبة القلب وسويداء القلب. والمعنى: أنه وصل حبه إلى سويداء قلبها، وبالجملة فهذا كناية عن الحب الشديد والعشق العظيم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان في هذا من شرف العفة ما يدل على كمال العصمة، وأكده تعالى بما يدل على تسامي حسنه وتعالي جماله ولطفه، لأن العادة جرت بأن ذلك إذا كان بعضه لأحد كان مظنة لميله، لتوفر الدواعي على الميل إليه، فقال تعالى: {وقال نسوة} أي جماعة من النساء لما شاع الحديث؛ ولما كانت البلدة كلما عظمت كان أهلها أعقل وأقرب إلى الحكمة، قال: {في المدينة} أي التي فيها امرأة العزيز ساكنة {امرأت العزيز} فأضفنها إلى زوجها إرادة الإشاعة للخبر، لأن النفس إلى سماع أخبار أولى الأخطار أميل؛ والعزيز: المنيع بقدرته من أن يضام، فالعزة أخص من مطلق القدرة، وعبرن بالمضارع في {تراود فتاها} أي عبدها نازلة من افتراش العزيز إلى افتراشه {عن نفسه} إفهاماً لأن الإصرار على المراودة صار لها كالسجية؛ والفتى: الشاب، وقيده الرماني بالقوي، قال: وقال الزجاج: وكانوا يسمون المملوك فتى شيخاً كان أو شاباً، ففيه اشتراك على هذا {قد شغفها} ذلك الفتى {حباً} أي من جهة الحب، قال الرماني: شغاف القلب غلافه، وهو جلدة عليه، يقال: دخل الحب الجلد حتى أصاب القلب، عن السدى وأبي عبيدة وعن الحسن أنه باطن القلب، وعن أبي على: وسط القلب -انتهى. والذي قال في المجمل وغيره أنه غلاف القلب، وأحسن من توجيه أبي عبيدة له أن حبه صار شغافاً لها، أي حجاباً، أي ظرفاً محيطاً بها، وأما "شعفها "-بالمهملة فمعناه: غشى شعفة قلبها، وهي رأسه عند معلق النياط، وقال الرماني: أي ذهب بها كل مذهب، من شعف الجبال، وهي رؤوسها. ولما قيل ذلك، كان كأنه قد قيل: فكان ماذا؟ فقيل- وأكد لأن من رآه عذرها وقطع بأنهن لو كن في محلها عملن عملها ولم يضللن فعلها: {إنا لنراها} أي نعلم أمرها علماً هو كالرؤية {في ضلال} أي محيط بها {مبين} لرضاها لنفسها بعد عز السيادة بالسفول عن رتبة العبد،...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{وقال نسوة في المدينة} النسوة جمع قلة للمرأة من غير مادة لفظها ولم يبين لنا التنزيل عددهن ولا أسماءهن ولا صفاتهن لأن الفائدة في العبرة محصورة في أن عملهن عمل جماعة قليلة يعهد في العرف ائتمارهن واتفاقهن على الاشتراك في مثل هذا المكر المنكر، في مدينة كبيرة كعاصمة مصر، التي بلغت منتهى فتن الحضارة، وما تقتضيه من التمتع بالشهوات والزينة، ولفظ النسوة مفرد مذكر فيجوز تذكير ضميره للفظه وتأنيثه لمعناه.
ومن غريب فتنة الروايات الباطلة أن يدعي بعضهم أن اللواتي أجبن دعوتها الآتية منهن كن أربعين امرأة، وهو مردود بالتعبير عن العاذلات كلهن بجمع القلة، وكذا ما علم بقرينة الحال والمقال من أنهن من بيوتات كبار الدولة، فإن نساء البيوت الدنيا وكذا الوسطى لا يتسامين بعد الإنكار على امرأة العزيز كبير وزراء الملك، إلى الوصول إليها بالمكر والحيلة، لمشاركتها في فتنتها بل نعمتها، أو سلب عشيقها منها، ويؤيد ذلك ما يأتي من عاقبة حادثتهن، وكان من الطبيعي المعهود أن يعرفن نبأها معه، ويكون حديثهن الشاغل لهن في مجالسهن الخاصة، وكان خلاصته الوجيزة المؤدية لمرادهن منه ما حكاه التنزيل عنهن وهو قولهن:
{امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه} هذا خبر يراد به لازمه وهو التعجب والإنكار الصوري من النواحي أو الجهات الأربع: 1-كون المتحدث عنها امرأة عزيز مصر وزير الملك الأكبر في علو مركزها. 2- كونها تهين نفسها وتحقر مركزها بأن تكون مراودة لرجل عن نفسه وشأن مثلها إن سخت بعفتها أن تكون مراودة عن نفسها لا مراودة لغيرها كما تقدم. 3- أن الذي تراوده عن نفسه هو فتاها ورقيقها. 4-أنها بعد أن افتضح أمرها وعرف به سيدها وزوجها، وعاملها بالحلم، وأمرها باستغفار ربها، لا تزال مصرة على ذنبها، مستمرة على مراودتها، وهو ما أفاده قولهن [تراود] وهو فعل المضارع الدال على الاستمرار.
{قد شغفها حبا} أي قد اخترق حبه شغاف قلبها أي غلافه المحيط به، وغاص في سويدائه، فملك عليها أمرها، حتى إنها لا تبالي ما يكون من عاقبة تهتكها، واللائق بمقامها الكتمان، ومكابرة الوجدان {إنا لنراها في ضلال مبين} أي إنا لنراها بأعين بصائرنا وحكم رأينا غائصة في غمرة من الضلال البين الظاهر البعيد عن محجة الهدى والصواب. وهن ما قلن هذا إنكارا للمنكر وكرها للرذيلة، ولا حبا في المعروف ونصرا للفضيلة، وإنما قلنه مكرا وحيلة، ليصل إليها فيحملها على دعوتهن، وإراءتهن بأعين أبصارهن، ما يبطل ما يدعين رؤيته بأعين بصائرهن، فيعذرنها فيما عذلنها عليه، فهو مكر لا رأي.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولم يحل السيد بين المرأة وفتاها. ومضت الأمور في طريقها. فهكذا تمضي الأمور في القصور! ولكن للقصور جدرانا، وفيها خدم وحشم. وما يجري في القصور لا يمكن أن يظل مستورا. وبخاصة في الوسط الأرستقراطي، الذي ليس لنسائه من هم إلا الحديث عما يجري في محيطهن. وإلا تداول هذه الفضائح ولوكها على الألسن في المجالس والسهرات والزيارات: (وقال نسوة في المدينة: امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه. قد شغفها حبا. إنا لنراها في ضلال مبين).. وهو كلام أشبه بما تقوله النسوة في كل بيئة جاهلية عن مثل هذه الشؤون. ولأول مرة نعرف أن المرأة هي امرأة العزيز، وأن الرجل الذي اشتراه من مصر هو عزيز مصر -أي كبير وزرائها- ليعلن هذا مع إعلان الفضيحة العامة بانتشار الخبر في المدينة: (امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه).. ثم بيان لحالها معه: (قد شغفها حبا).. فهي مفتونة به، بلغ حبه شغاف قلبها ومزقه، وشغاف القلب غشاؤه الرقيق: إنا لنراها في ضلال مبين.. وهي السيدة الكبيرة وزوجة الكبير، تفتتن بفتاها العبراني المشترى. أم لعلهن يتحدثن عن اشتهارها بهذه الفتنة وانكشافها وظهور أمرها، وهو وحده المنتقد في عرف هذه الأوساط لا الفعلة في ذاتها لو ظلت وراء الأستار؟!...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
أخذت الألسنة في المدينة تلوك الخبر، وتتحدث به، {وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه}، ما بين لائمة ومتعرفة، ومتمنية كشأن النساء، وقال سبحانه: {في المدينة} لبيان شيوع القول بين أهل المدينة، وقلن {فتاها}؛ لأن الفتى هو العبد، وذكر ذلك لتصغير شأنها، وأنها تتحبب إلى عبدها، وقالوا في بيان تدلهها به، {قد شغفها حبا}، أي أصاب شغاف قلبها حبه، فيقال شغفه إذا أصاب شغاف قلبه، ويقال دمغه إذا أصاب دماغه و {حبا} تمييز محول من الفاعل أي شغف حبه قلبها، ثم حكمن عليها بالضلال حكما صريحا، {إنا لنراها في ضلال مبين} أي ضلال بين واضح، والضلال هنا تنكب الصواب، والوقوع في الهوى الذي لا يليق بها فهو لوم شديد لها...