وكذلك دلاله الآية التالية ، وتفصيل صفات النساء اللواتي يمكن أن يبدل الله النبي بهن من أزواجه ولو طلقهن . مع توجيه الخطاب للجميع في معرض التهديد :
( عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات ، مؤمنات ، قانتات ، تائبات ، عابدات ، سائحات ، ثيبات وأبكارا ) . .
وهي الصفات التي يدعوهن إليها عن طريق الإيحاء والتلميح .
الإسلام الذي تدل عليه الطاعة والقيام بأوامر الدين . والإيمان الذي يعمر القلب ، وعنه ينبثق الإسلام حين يصح ويتكامل . والقنوت وهو الطاعة القلبية . والتوبة وهي الندم على ما وقع من معصية والاتجاه إلى الطاعة . والعبادة وهي أداة الاتصال بالله والتعبير عن العبودية له . والسياحة وهي التأمل والتدبر والتفكر في إبداع الله والسياحة بالقلب في ملكوته . وهن - مع هذه الصفات - من الثيبات ومن الأبكار . كما أن نساءه الحاضرات كان فيهن الثيب وفيهن البكر .
وهو تهديد لهن لا بد كان له ما يقتضيه من تأثير مكايداتهن في قلب رسول الله[ صلى الله عليه وسلم ] وما كان ليغضب من قليل !
وقد رضيت نفس النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بعد نزول هذه الآيات ، وخطاب ربه له ولأهل بيته . واطمأن هذا البيت الكريم بعد هذه الزلزلة ، وعاد إليه هدوؤه بتوجيه الله سبحانه . وهو تكريم لهذا البيت ورعاية تناسب دوره في إنشاء منهج الله في الأرض وتثبيت أركانه .
وبعد فهذه صورة من الحياة البيتية لهذا الرجل الذي كان ينهض بإنشاء أمة ، وإقامة دولة ، على غير مثال معروف ، وعلى غير نسق مسبوق . أمة تنهض بحمل أمانة العقيدة الإلهية في صورتها الأخيرة ، وتنشئ في الأرض مجتمعا ربانيا ، في صورة واقعية يتأسى بها الناس .
وهي صورة من حياة إنسان كريم رفيع جليل عظيم . يزاول إنسانيته في الوقت الذي يزاول فيه نبوته . فلا تفترق هذه عن تلك ؛ لأن القدر جرى بأن يكون بشرا رسولا ، حينما جرى بأن يحمله الرسالة الأخيرة للبشر أو منهج الحياة الأخير .
إنها الرسالة الكاملة يحملها الرسول الكامل . ومن كمالها أن يظل الإنسان بها إنسانا . فلا تكبت طاقة من طاقاته البانية ، ولا تعطل استعدادا من استعداداته النافعة ؛ وفي الوقت ذاته تهذبه وتربيه ، وترتفع به إلى غاية مراقيه .
وكذلك فعل الإسلام بمن فقهوه وتكيفوا به ، حتى استحالوا نسخا حية منه . وكانت سيرة نبيهم وحياته الواقعية ، بكل ما فيها من تجارب الإنسان ، ومحاولات الإنسان ، وضعف الإنسان ، وقوة الإنسان ، مختلطة بحقيقة الدعوة السماوية ، مرتقية بها خطوة خطوة - كما يبدو في سيرة أهله وأقرب الناس إليه - كانت هي النموذج العملي للمحاولة الناجحة ، يراها ويتأثر بها من يريد القدوة الميسرة العملية الواقعية ، التي لا تعيش في هالات ولا في خيالات !
وتحققت حكمة القدر في تنزيل الرسالة الأخيرة للبشر بصورتها الكاملة الشاملة المتكاملة . وفي اختيار الرسول الذي يطيق تلقيها وترجمتها في صورة حية . وفي جعل حياة هذا الرسول كتابا مفتوحا يقرؤه الجميع . وتراجعه الأجيال بعد الأجيال . . .
القول في تأويل قوله تعالى : { عَسَىَ رَبّهُ إِن طَلّقَكُنّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مّنكُنّ مُسْلِمَاتٍ مّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيّبَاتٍ وَأَبْكَاراً } .
يقول تعالى ذكره : عسى ربّ محمد إن طلقكنّ يا معشر أزواج محمد صلى الله عليه وسلم أن يبدله منكنّ أزواجا خيرا منكن .
وقيل : إن هذه الاَية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم تحذيرا من الله نساءه لما اجتمعن عليه في الغيرة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم ، قالا : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حميد الطويل ، عن أنس بن مالك ، قال : قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : اجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم نساؤه في الغيرة فقلت لهنّ : عسى ربه إن طلقهن أن يبدله أزواجا خيرا منكنّ ، قال : فنزل كذلك .
حدثنا يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن حميد ، عن أنس ، عن عمر ، قال : يلغني عن بعض أمهاتنا ، أمهات المؤمنين شدّة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذاهنّ إياه ، فاستقريتهنّ امرأة امرأة ، أعظها وأنهاها عن أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأقول : إن أبيتنّ أبدله الله خيرا منكن ، حتى أتيت ، حسبت أنه قال على زينب ، فقالت : يا بن الخطاب ، أما في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعظ نساءه حتى تعظهنّ أنت ؟ فأمسكت ، فأنزل الله عَسَى رَبّهُ إنْ طَلّقَكُنّ أنْ يُبْدِلَهُ أزْوَاجا خَيْرا مِنْكُنّ .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عدي ، عن حميد ، عن أنس ، قال : قال عمر بن الخطاب : يلغني عن أمهات المؤمنين شيء ، فاستقريتهنّ أقول : لتكففن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو ليبدلنه الله أزواجا خيرا منكنّ ، حتى أتيت على إحدى أمهات المؤمنين ، فقالت : يا عمر أما في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعظ نساءه حتى تعظهنّ أنت ؟ فكففت ، فأنزل الله عَسَى رَبّهُ إنْ طَلّقَكُنّ أنْ يُبْدلَهُ أزْوَجا خَيْرا مِنْكُنّ مُسْلِماتٍ مُوءْمِناتٍ . . . الاَية .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : أنْ يُبْدِلَهُ فقرأ ذلك بعض قرّاء مكة والمدينة والبصرة بتشديد الدال : «يبدّله أزواجا » من التبديل وقرأه عامة قرّاء الكوفة : يُبْدِ له بتخفيف الدال من الإبدال .
والصواب من القول أنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب .
وقوله : مُسْلِماتٍ يقول : خاضعات لله بالطاعة مُوءْمِناتٍ يعني مصدّقات بالله ورسوله .
وقوله قَانِتات يقول : مطيعات لله ، كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله قانتاتٍ قال : مطيعات .
حدثني ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله قانِتاتٍ قال مطيعات .
وقوله : تائِباتٍ يقول : راجعات إلى ما يحبه الله منهنّ من طاعته عما يكرهه منهنّ عابِدَاتٍ يقول : متذللات لله بطاعته . وقوله سائحاتٍ يقول : صائمات .
واختلف أهل التأويل في معنى قوله : سائحات فقال بعضهم : معنى ذلك : صائمات . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله سائحات قال : صائمات .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله سَائحاتٍ قال : صائمات .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال السّائحات : الصائمات .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : سائحاتٍ يعني : صائمات .
وقال آخرون : السائحات : المهاجرات . ذكر من قال ذلك :
حدثنا إسحق بن إسرائيل ، قال : حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراورديّ ، عن زيد بن أسلم ، قال : السائحات : المهاجرات .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله سائحات قال : مهاجرات ليس في القرآن ، ولا في أمة محمد سياحة إلا الهجرة ، وهي التي قال الله السّائحُونَ .
وقد بيّنا الصواب من القول في معنى السائحين فيما مضى قبل بشواهده مع ذكرنا أقوال المختلفين فيه ، وكرهنا إعادته .
وكان بعض أهل العربية يقول : نرى أن الصائم إنما سمي سائحا ، لأن السائح لا زاد معه ، وإنما يأكل حيث يجد الطعام ، فكأنه أُخذ من ذلك .
وقوله : ثَيّباتٍ وهنّ اللواتي قد افترعن وذهبت عذرتهنّ وأبْكارا وهنّ اللواتي لم يجامعن ، ولم يفترعن .
عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن على التغليب أو تعميم الخطاب وليس فيه ما يدل على أنه لم يطلق حفصة وأن في النساء خيرا منهن لأن تعليق طلاق الكل لا ينافي تطليق واحدة والمعلق بما لم يقع لا يجب وقوعه وقرأ نافع وأبو عمرو يبدله بالتخفيف مسلمات مؤمنات مقرات مخلصات أو منقادات مصدقات قانتات مصليات أو مواظبات على الطاعات تائبات عن الذنوب عابدات متعبدات أو متذللات لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم سائحات صائمات سمي الصائم سائحا لأنه يسبح بالنهار بلا زاد أو مهاجرات ثيبات وأبكارا وسط العاطف بينهما لتنافيهما ولأنهما في حكم صفة واحدة إذ المعنى مشتملات على الثيبات والأبكار .
ليس هذا مما يتعلق بالشرط في قوله : { وإن تظاهرا عليه } [ التحريم : 4 ] بل هو كلام مستأنف عدل به إلى تذكير جميع أزواجه بالحذر من أن يضيق صدره عن تحمل أمثال هذا الصنيع فيفارقهن لتقلع المتلبسة وتحذر غيرها من مثل فعلها .
فالجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً عقبت بها جملة { إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما } [ التحريم : 4 ] التي أفادت التحذير من عقاب في الآخرة إن لم تتوبا مما جرى منهما في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفاد هذا الإِيماء إلى التحذير من عقوبة دنيوية لهن يأمر الله فيها نبيئه صلى الله عليه وسلم وهي عقوبة الطلاق عليه ما يحصل من المؤاخذة في الآخرة إن لم تتوبا ، ولذلك فصلت عن التي قبلها لاختلاف الغرضين .
وفي قوله : { عسى ربه إن طلقكن } إيجاز بحذف ما يترتب عليه إبدالهن من تقدير إن فارقكن . فالتقدير : عسى أن يطلقكن هو ( وإنما يطلق بإذن ربه ) أن يُبدله ربُّه بأزواج خيرٍ منكن .
وفي هذا ما يشير إلى المعْنى الرابع عشر والخامس عشر من معاني الموعظة والإِرشاد التي ذكرناها آنفاً .
و { عسى } هنا مستعملة في التحقيق وإيثارها هنا لأن هذا التبديل مجرد فرض وليس بالواقع لأنهن لا يظن بهن عدم الارعواء عما حذرن منه ، وفي قوله : { خيراً منكن } تذكير لهن بأنهن ما اكتسبن التفضيل على النساء إلا من فضل زوجهن عند الله وإجراء الأوصاف المفصلة بعد الوصف المجمل وهو { خيراً منكن } للتنبيه على أن أصول التفضيل موجودة فيهن فيكمل اللاء يتزوجهن النبي صلى الله عليه وسلم فضل على بقية النساء بأنهن صرن أزواجاً للنبيء صلى الله عليه وسلم
وهذه الآية إلى قوله : { خيراً منكن } نزلت موافِقة لقول عمر لابنته حفصة رضي الله عنهما مثل هذا اللفظ وهذا من القرآن الذي نزل وفاقاً لقول عمر أو رأيه تنويهاً بفضله . وقد وردت في حديث في « الصحيحين » واللفظ للبخاري « عن عمر قال : وافقت ربي في ثلاث : قلت : يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلّى ، فنزلت { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } [ البقرة : 125 ] ، وقلت : « يدخلُ عليك البرّ والفاجر فلو أمرت أمهاتتِ المؤمنين بالحجاب » فأنزل الله آية الحجاب . وبلغنِي معاتبة النبي بعضَ نسائه فدخلت عليهن فقلت : إن انتهيتن أو ليبدلَنَّ الله رسولَه خيراً منكن فأنزل الله { عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن مسلمات } الآية .
وهي موعظة بأن يأذن الله له بطلاقهن وأنه تصير له أزواجٌ خيرٌ منهن .
وهذا إشارة إلى المعنى السادس عشر من مواعظ هذه الآي . .
وقرأ الجمهور { أن يبدّله } بتشديد الدال مضارع بدّل . وقرأه يعقوب بتخفيف مضارع أبدل .
والمسلمات : المتصفات بالإِسلام . والمؤمنات : المصدّقات في نفوسهن .
والقانتات : القائمات بالطاعة أحسن قيام . وتقدم القنوت في قوله تعالى : { وقوموا لله قانتين } في سورة [ البقرة : 238 ] . وقوله : { ومن يقنت منكن لله ورسوله } في سورة [ الأحزاب : 31 ] .
وفي هذا الوصف إشعار بأنهن مطيعات لله ورسوله ففيه تعريض لما وقع من تقصير إحداهن في ذلك فعاتبها الله وأيقظها للتوبة .
والتائبات : المقلعات عن الذنب إذا وقعن فيه . وفيه تعريض بإعادة التحريض على التوبة من ذنبهما التي أُمرتا بها بقوله : { إن تتوبا إلى الله } [ التحريم : 4 ] .
والعابدات : المقبلات على عبادة الله وهذه الصفات تفيد الإِشارة إلى فضل هذه التقوى وهو المعنى السابع عشر من معاني العبرة في هذه الآيات .
والسائحات : المهاجرات وإنما ذكر هذا الوصف لتنبيههن على أنهنّ إن كنّ يمتُنّ بالهجرة فإن المهاجرات غيرَهن كثير ، والمهاجرات أفضل من غيرهن ، وهذه الصفة تشير إلى المعنى الثامن عشر من معاني الاعتبار في هذه الآي .
وهذه الصفات انتصبت على أنها نعوت ل { أزواجاً } ، ولم يعطف بعضُها على بعض الواو ، لأجل التنصيص على ثبوت جميع تلك الصفات لكل واحدة منهن ولو عطفت بالواو لاحتمل أن تكون الواو للتقسيم ، أي تقسيم الأزواج إلى من يثبت لهن بعض تلك الصفات دون بعض ، ألا ترى أنه لما أريدت إفادة ثبوت إحدى صفتين دون أخرى من النعتين الواقعين بعد ذلك كيف عطف بالواو قولُه : { وأبكاراً } لأن الثّيبات لا يوصفن بأبكار . والأبكار لا يوصفن بالثيّبات . قُلت وفي قوله تعالى : { مسلمات } ، إلى قوله : { سائحات } مُحسن الكلام المتزن إذْ يَلتئم من ذلك بيت من بحر الرمل التام :
فاعلتن فاعلتن فاعلتن *** فاعلاتن فاعلاتن فاعلتن
ووجه هذا التفصيل في الزوجات المقدرات لأن كلتا الصفتين محاسنها عند الرجال ؛ فالثيب أرعى لواجبات الزوج وأميل مع أهوائه وأقوم على بيته وأحسن لِعاباً وأبهى زينة وأحلى غنجاً .
والبكر أشد حياء وأكثر غرارة ودلاً وفي ذلك مجلبة للنفس ، والبكر لا تعرف رجلاً قبل زوجها ففي نفوس الرجال خلق من التنافس في المرأة التي لم يسبق إليها غيرهم .
فما اعتزت واحدة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بمزية إلا وقد أنبأها الله بأن سيبدله خيراً منها في تلك المزية أيضاً .
وهذا هو المعنى التاسع عشر من معاني الموعظة والتأديب في هذه الآيات .
وتقديم وصف { ثيبات } لأن أكثر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لمّا تزوجهن كن ثيبات . ولعله إشارة إلى أن الملام الأشد موجه إلى حفصة قبل عائشة وكانت حفصة ممن تزوجهن ثيبات وعائشة هي التي تزوجها بكراً . وهذا التعريض أسلوب من أساليب التأديب كما قيل : « الحر تكفيه الإِشارة » .
وهذا هو المعنى العشرون من مغزى آداب هذه الآيات .
ومن غرائب المسائل الأدبية المتعلقة بهذه الآية أن الواو في قوله تعالى : { ثيبات وأبكاراً } زَعمها ابنُ خَالويه{[429]} واواً لها استعمال خاص ولقبها بواو الثمانية ( بفتح المثلثة وتخفيف التحتية بعد النون ) وتبعهُ جماعة ذكروا منهم الحريري والثعلبي النيسابوري المفسر والقاضي الفاضل .
أنهم استخرجوا من القرآن أن ما فيه معنى عدد ثمانية تدخل عليه واو ويظهر من الأمثلة التي مثلوا بها أنهم يعتبرون ما دل على أمر معدود بعدد كما فيه سواء كان وصفاً مشتقاً من عدد ثمانية أو كان ذاتاً ثامنة أو كان يشتمل على ثمانية سواء كان ذلك مفرداً أو كان جملة . فقد مثلوا بقوله تعالى في سورة [ براءة : 112 ] : { التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر } قالوا لم يعطف الصفات المسرودة بالواو إلا عند البلوغ إلى الصفة الثامنة وهي الناهون عن المنكر } . وجعلوا من هذا القبيل آية سورة التحريم إذ لم يعطف من الصفات المبدوءة بقوله : { مسلمات } إلا الثامنة وهي { وأبكاراً } ومثلوا لما وصف فيه بوصف ثامن بقوله تعالى : { ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم } في سورة [ الكهف : 22 ] . فلم يعطف رابعهم } ولا { سادسهم } وعطفت الجملة التي وقع فيها وصف الثامن بواو عطف الجمل . ومثلوا لما فيه كلمة ثمانية بقوله تعالى : { سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً } في سورة [ الحاقة : 7 ] . ومثلوا لما يشتمل على ثمانية أسماء بقوله تعالى في سورة [ الزمر : 73 ] : { وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها } قالوا جاءت جملة { وفتحت } هذه بالواو ولم تجىء أختها المذكورة قبلها وهي { وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها } [ الزمر : 71 ] . لأن أبواب الجنة ثمانية .
وترددت كلماتهم في أن هذه الواو من صنف الواو العاطفة يمتاز عن الصنف الآخر يلزم ذكره إذا كان في المعطوف معنى الثامن أو من صنف الواو الزائدة .
وذكر الدمَاميني في الحواشي } الهندية على « المغني » أنه رأى في « تفسير العماد الكندي » قاضي الإِسكندرية ( المتوفى في نحو عشرين وسبعمائة ) نسبة القول بإثبات واو الثمانية إلى عبد الله الكفيف المالقي النحوي الغرناطي من علماء غرناطة في مدة الأمير ابن حَبوس ( بموحدة بعد الحاء المهملة ) هو باديس بن حبوس صاحب غرناطة سنة 420 .
وذكر السهيلي في « الروض الأنف » عند الكلام على نزول سورة الكهف أنه أفرد الكلام على الواو التي يسميها بعض الناس واو الثمانية باباً طويلاً ولم يبد رأيه في إثباتها ولم أقف على الموضع الذي أفرد فيه الكلام عليها . ويظهر أنه غير موافق على إثبات هذا الاستعمال لها . ومن عجيب الصدف ما اتفق في هذه الآيات الأربع من مثير شبهة للذين أثبتوا هذا المعنى في معاني الواو . ومن غريب الفطنة تنبه الذي أنبأ بهذا .
وذكر ابن المنير في « الانتصاف » أن شيخه ابن الحاجب ذكر له أن القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني الكاتب كان يعتقد أن الواو في قوله تعالى : { وأبكاراً } هي الواو التي سماها بعض ضعفة النحاة واو الثمانية .
وكان الفاضلُ يتبجح باستخراجها زائدة على المواضع الثلاثة المشهورة إلى أن ذكره يوماً بحضيرة أبي الجود النحوي المقري ، فبين لهم أنه واهم في عدها من ذلك القبيل وأحال البيان على المعنى الذي ذكره الزمخشري في دعاء اللزوم إلى الإِتيان بالواو هنا لامتناع اجتماع هذين الصنفين في موصوف واحد . فأنصفه الفاضل وقال : أرشدتنا يا أبا الجود .
قلت : وأرى أن القاضي الفاضل تعجل التسليم لأبي الجُود إذ كان له أن يقول : إنا لم نلتزم أن يكون المعدود الثامن مستقلاً أو قسيماً لغيره وإنما تتبعنا ما فيه إشعار بعدد ثمانية .
ونقل الطيبي والقزويني في « حاشيتي الكشاف » أنه روى عن صاحب « الكشاف » أنه قال : الواو تدخل في الثامن كقوله تعالى : { وثامنهم كلبهم } [ الكهف : 22 ] ، وقوله : { وفتحت أبوابها } [ الزمر : 73 ] ويسمونه واو الثمانية وهي كذلك ، وليس بشيء . قال الراوي عنه وقد قال لنا عند قراءة هذا الموضع : أنسيتم واو الثمانية عند جوابي هذا ( أي يلومهم على إهمالهم ذلك المعنى في تلك الآية ) أي هو جواب حسن وذلك خطأ محض لا يجوز أن يؤخذ به اه .
قلت : وهذا يخالف صريح كلامه في « الكشاف » فلعل الراوي لم يحسن تحرير مراد صاحب « الكشاف » ، أو لعل صاحب « الكشاف » لم ير منافاة بين لزوم ذكر الواوين اقتضاء المقام ذكرها بأن المعطوف بها ثامن في الذكر فإن النكت لا تتزاحم فتأمل بتدقيق .
وتقدم الكلام على واو الثمانية عند قوله تعالى : { التائبون العابدون } الآية في سورة [ براءة : 112 ] . وعند قوله : { ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم } في سورة [ الكهف : 22 ] ، وتقدمت في سورة الزمر وفي سورة الحاقة .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: عسى ربّ محمد إن طلقكنّ يا معشر أزواج محمد صلى الله عليه وسلم أن يبدله منكنّ أزواجا خيرا منكن.
وقيل: إن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم تحذيرا من الله نساءه لما اجتمعن عليه في الغيرة...
وقوله:"مُسْلِماتٍ "يقول: خاضعات لله بالطاعة "مُؤمِناتٍ" يعني مصدّقات بالله ورسوله.
وقوله "قَانِتات" يقول: مطيعات لله... وقوله: "تائِباتٍ" يقول: راجعات إلى ما يحبه الله منهنّ من طاعته عما يكرهه منهنّ، "عابِدَاتٍ" يقول: متذللات لله بطاعته. وقوله "سائحاتٍ" يقول: صائمات...
وقال آخرون: السائحات: المهاجرات...
وقد بيّنا الصواب من القول في معنى السائحين فيما مضى قبل بشواهده مع ذكرنا أقوال المختلفين فيه، وكرهنا إعادته.
وكان بعض أهل العربية يقول: نرى أن الصائم إنما سمي سائحا، لأن السائح لا زاد معه، وإنما يأكل حيث يجد الطعام، فكأنه أُخذ من ذلك.
وقوله: "ثَيّباتٍ" وهنّ اللواتي قد افترعن وذهبت عذرتهنّ. "وأبْكارا" وهنّ اللواتي لم يجامعن، ولم يفترعن.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
(عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن) فإن قيل: كيف خيرا منكن ولم يكن في ذلك الوقت أحد من النساء خيرا منهن؟
والجواب: أن معناه: إن طلقكن بإلجائكن إياه إلى الطلاق، وشدة آذاكن له، وترك التوبة فيبدله خيرا منكن أي: أطوع له منكن، ويقال: أحب له منكن...
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
هذا في الإخبار عن القدرة لا عن الكون لأنه قال: {إن طلقكن} وقد علم أنه لا يطلقهن...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: كيف تكون المبدلات خيراً منهن، ولم تكن على وجه الأرض نساء خير من أمّهات المؤمنين؟ قلت: إذا طلقهن رسول الله لعصيانهن له وإيذائهن إياه، لم يبقين على تلك الصفة، وكان غيرهن من الموصوفات بهذه الأوصاف مع الطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والنزول على هواه ورضاه خيراً منهن، وقد عرض بذلك في قوله: {قانتات} لأنّ القنوت هو القيام بطاعة الله، وطاعة الله في طاعة رسوله. فإن قلت: لم أخليت الصفات كلها عن العاطف ووسط بين الثيبات والأبكار؟ قلت: لأنهما صفتان متنافيتان لا يجتمعن فيهما اجتماعهن في سائر الصفات، فلم يكن بدّ من الواو...
ثم خوف نساءه بقوله تعالى: {عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن} قال المفسرون: عسى من الله واجب...
ثم قال تعالى: {ثيبات وأبكارا} لأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة بعضها من الثيب وبعضها من الأبكار، فالذكر على حسب ما وقع، وفيه إشارة إلى أن تزوج النبي صلى الله عليه وسلم ليس على حسب الشهوة والرغبة، بل على حسب ابتغاء مرضات الله تعالى.
الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي 875 هـ :
خَرّجَ البخاريّ بسنده عن أنس قال: قال عمر: اجْتَمَع نساءُ النبي صلى الله عليه وسلم في الغِيرَةِ عليه فقلتُ لَهُنَّ: {عسى ربُّه إنْ طَلَّقَكُنَّ أنْ يبدله أزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ} فنزلت هذه الآية...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{عسى ربه} أي المحسن إليه بجميع أنواع الإحسان التي عرفتموها...
{إن طلقكن} أي بنفسه من غير اعتراض عليه جمع أو بعضكن بإيجاد الطلاق لمن لم يطلقها وإدامته من طلقها {أن يبدّله} منكن بمجرد طلاقه...
{أزواجاً} ولما كان علوها عليها في الرتبة هو النهاية في التأسيف قال: {خيراً} ودل على أنها للتفضيل بقوله: {منكن} وهذا على سبيل الفرض وعام في الدنيا والآخرة...
{مسلمات} أي ملقيات لجميع قيادهن ظاهراً وباطناً لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم على وجه الخضوع...
{مؤمنات} أي راسخات في القوة العلمية بتصديق الباطن...
{قانتات} أي مخلصات في ذلك لا شائبة في شيء منه فهن في غاية ما يكون من إدامة الطاعة...
. {تائبات} أي راجعات من الهفوات أو الزلات سريعاً إن وقع منهن شيء من ذلك ....
... {سائحات} أي متصفات بصفات الملائكة من التخلي عن الدنيا والاستغراق في الآخرة...
. {ثيبات} قدمهن لأنهن أخبر بالعشرة التي هذا سياقها {وأبكاراً}...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
أي: فلا ترفعن عليه، فإنه لو طلقكن، لم يضق عليه الأمر، ولم يكن مضطرًا إليكن، فإنه سيلقى ويبدله الله أزواجًا خيرًا منكن، دينا وجمالًا، وهذا من باب التعليق الذي لم يوجد، ولا يلزم وجوده، فإنه ما طلقهن، ولو طلقهن، لكان ما ذكره الله من هذه الأزواج الفاضلات، الجامعات بين الإسلام، وهو القيام بالشرائع الظاهرة، والإيمان...
وفي هذا دليل على أن الله لا يختار لرسوله صلى الله عليه وسلم إلا أكمل الأحوال وأعلى الأمور...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{عسى} هنا مستعملة في التحقيق وإيثارها هنا لأن هذا التبديل مجرد فرض وليس بالواقع لأنهن لا يظن بهن عدم الارعواء عما حذرن منه، وفي قوله: {خيراً منكن} تذكير لهن بأنهن ما اكتسبن التفضيل على النساء إلا من فضل زوجهن عند الله وإجراء الأوصاف المفصلة بعد الوصف المجمل وهو {خيراً منكن} للتنبيه على أن أصول التفضيل موجودة فيهن... والقانتات: القائمات بالطاعة أحسن قيام...
.وفي هذا الوصف إشعار بأنهن مطيعات لله ورسوله ففيه تعريض لما وقع من تقصير إحداهن في ذلك فعاتبها الله وأيقظها للتوبة. والتائبات: المقلعات عن الذنب إذا وقعن فيه...
. والعابدات: المقبلات على عبادة الله وهذه الصفات تفيد الإِشارة إلى فضل هذه التقوى... والسائحات: المهاجرات وإنما ذكر هذا الوصف لتنبيههن على أنهنّ إن كنّ يمتُنّ بالهجرة فإن المهاجرات غيرَهن كثير، والمهاجرات أفضل من غيرهن... وهذه الصفات انتصبت على أنها نعوت ل {أزواجاً}، ولم يعطف بعضُها على بعض الواو، لأجل التنصيص على ثبوت جميع تلك الصفات لكل واحدة منهن ولو عطفت بالواو لاحتمل أن تكون الواو للتقسيم، أي تقسيم الأزواج إلى من يثبت لهن بعض تلك الصفات دون بعض، ألا ترى أنه لما أريدت إفادة ثبوت إحدى صفتين دون أخرى من النعتين الواقعين بعد ذلك كيف عطف بالواو قولُه: {وأبكاراً} لأن الثّيبات لا يوصفن بأبكار. والأبكار لا يوصفن بالثيّبات...
ووجه هذا التفصيل في الزوجات المقدرات لأن كلتا الصفتين محاسنها عند الرجال؛ فالثيب أرعى لواجبات الزوج وأميل مع أهوائه وأقوم على بيته وأحسن لِعاباً وأبهى زينة وأحلى غنجاً. والبكر أشد حياء وأكثر غرارة ودلاً...
وتقديم وصف {ثيبات} لأن أكثر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لمّا تزوجهن كن ثيبات. ولعله إشارة إلى أن الملام الأشد موجه إلى حفصة قبل عائشة وكانت حفصة ممن تزوجهن ثيبات وعائشة هي التي تزوجها بكراً. وهذا التعريض أسلوب من أساليب التأديب...