( وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال ، والله سميع عليم . إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا ، والله وليهما ، وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) . .
هكذا يبدأ باستعادة المشهد الأول للمعركة واستحضاره - وقد كان قريبا من نفوس المخاطبين الأولين بهذا القرآن ومن ذاكرتهم . ولكن ابتداء الحديث على هذا النحو ، واستحضار المشهد الأول بهذا النص ، من شأنه أن يعيد المشهد بكل حرارته وبكل حيويته ؛ وأن يضيف إليه ما وراء المشهد المنظور - الذي يعرفونه - من حقائق أخرى لا يتضمنها المشهد المنظور . وأولها حقيقة حضور الله - سبحانه - معهم ، وسمعه وعلمه بكل ما كان وما دار بينهم . وهي الحقيقة التي تحرص التربية القرآنية على استحضارها وتقريرها وتوكيدها وتعميقها في التصور الإسلامي . وهي هي الحقيقة الأساسية الكبيرة ، التي أقام عليها الإسلام منهجه التربوي . والتي لا يستقيم ضمير على المنهج الإسلامي ، بكل تكاليفه ، إلا أن تستقر فيه هذه الحقيقة بكل قوتها ، وبكل حيويتها كذلك :
( وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال . . والله سميع عليم . . ) . .
والإشارة هنا إلى غدو النبي [ ص ] من بيت عائشة - رضي الله عنها - وقد لبس لأمته ودرعه ؛ بعد التشاور في الأمر ، وما انتهى إليه من عزم على الخروج من المدينة للقاء المشركين خارجها . وما أعقب هذا من تنظيم الرسول [ ص ] للصفوف ، ومن أمر للرماة باتخاذ موقفهم على الجبل . . وهو مشهد يعرفونه ، وموقف يتذكرونه . . ولكن الحقيقة الجديدة فيه هي هذه :
ويا له من مشهد ، الله حاضره ! ويا له من موقف ، الله شاهده ! ويا لها من رهبة إذن ومن روعة تحف به ، وتخالط كل ما دار فيه من تشاور . والسرائر مكشوفة فيه لله . وهو يسمع ما تقوله الألسنة ويعلم ما تهمس به الضمائر .
{ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوّىءُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { وَإذْ غَدَوتَ مِن أهْلِكَ تُبَوّىءُ المُؤمِنِينَ } : وإن تصبروا وتتقوا لا يضرّكم أيها المؤمنون كيد هؤلاء الكفار من اليهود شيئا ، ولكن الله ينصركم عليهم إن صبرتم على طاعتي ، واتباع أمر رسولي ، كما نصرتكم ببدر وأنتم أذلة . وإن أنتم خالفتم أيها المؤمنون أمري ، ولم تصبروا على ما كلفتكم من فرائضي ، ولم تتقوا ما نهيتكم عنه ، وخالفتم أمري ، وأمر رسولي ، فإنه نازل بكم ما نزل بكم بأحد ، واذكروا ذلك اليوم إذ غدا نبيكم يبوّىء المؤمنين¹ فترك ذكر الخبر عن أمر القوم إن لم يصبروا على أمر ربهم ولم يتقوه اكتفاء بدلالة ما ظهر من الكلام على معناه ، إذ ذكر ما هو فاعل بهم من صرف كيد أعدائهم عنهم ، إن صبروا على أمره ، واتقوا محارمه ، وتعقيبه ذلك بتذكيرهم ما حلّ بهم من البلاء بأحد ، إذ خالف بعضهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتنازعوا الرأي بينهم . وأخرج الخطاب في قوله : { وَإذْ غَدَوْتَ مِنْ أهْلِكَ } على وجه الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمراد بمعناه الذين نهاهم أن يتخذ الكفار من اليهود بطانة من دون المؤمنين ، فقد بيّن إذا أن قوله : «وإذ » إنما جرّها في معنى الكلام على ما قد بينت وأوضحت .
وقد اختلف أهل التأويل في اليوم الذي عنى الله عزّ وجلّ بقوله : { وَإذْ غَدَوْتَ مِنْ أهْلِكَ تُبَوّىءُ المُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ للْقِتالِ } فقال بعضهم : عَنَى بذلك يَوْمَ أحد . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : { وَإذْ غَدَوْتَ مِنْ أهْلِكَ تُبوّىءُ المُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ للْقِتالِ } قال : مشى النبيّ صلى الله عليه وسلم يومئذٍ على رجليه يبوّىء المؤمنين .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَإذْ غَدَوْتَ مِنْ أهِلِكَ تُبَوّىءُ المُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ للْقِتالِ } ذلك يوم أحد ، غدا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم من أهله إلى أحد يبوىء المؤمنين مقاعد للقتال .
حُدثت عن عمار ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : { وَإذْ غَدَوْتَ مِنْ أهْلِكَ تُبَوّىءُ المُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ للْقِتالِ } فغدا النبيّ صلى الله عليه وسلم من أهله إلى أحد يبوّىء المؤمنين مقاعد للقتال .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { وَإذْ غَدَوْتَ مِنَ أهْلِكَ تُبَوّىءُ المُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ للْقِتالِ } فهو يوم أحد .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وَإذْ غَدَوْتَ مِنْ أهْلِكَ تُبَوّىءُ المُؤْمِنِينَ } قال : هنا يوم أحد .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : مما نزل في يوم أحد : { وَإذْ غَدَوْتَ مِنْ أهْلِكَ تُبَوّىءُ المؤْمِنِينَ } .
وقال آخرون : عَنَى بذلك يوم الأحزاب . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سنان القزاز ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، قال : حدثنا عباد ، عن الحسن في قوله : { وإذْ غَدَوْتَ مِنْ أهْلِكَ تُبَوّىءُ المُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ للْقِتالِ } قال : يعني محمدا صلى الله عليه وسلم غدا يبوّىء المؤمنين مقاعد للقتال يوم الأحزاب .
وأولى هذين القولين بالصواب ، قول من قال : عنى بذلك : يوم أحد¹ لأن الله عزّ وجلّ يقول في الاَية التي بعدها : { إذْ هَمّتْ طائِفَتانِ مِنكُمْ أنْ تَفْشَلا } ولا خلاف بين أهل التأويل أنه عنى بالطائفتين بنو سلمة وبنو حارثة . ولا خلاف بين أَهل السير والمعرفة بمغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن الذي ذكر الله من أمرهما إنما كان يوم أحد دون يوم الأحزاب .
فإن قال لنا قائل : وكيف يكون ذلك يوم أحد ورسول الله صلى الله عليه وسلم إنما راح إلى أحد من أهله للقتال يوم الجمعة بعد ما صلى الجمعة في أهله بالمدينة بالناس ، كالذي :
حدثكم ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، قال : ثني محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ومحمد بن يحيى بن حبان ، وعاصم بن عمر بن قتادة والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ وغيرهم من علمائنا : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم راح حين صلى الجمعة إلى أحد ، دخل فلبس لأمَتَهُ ، وذلك يوم الجمعة حين فرغ من الصلاة ، وقد مات في ذلك اليوم رجل من الأنصار ، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم خرج عليهم وقال : «ما يَنْبَغِي لنبيّ إذا لَبَسَ لأْمَتَهُ أنْ يَضَعَها حتى يُقاتِلَ » ؟ .
قيل : إن النبيّ صلى الله عليه وسلم وإن كان خروجه للقوم كان رَواحا فلم يكن تبوئته للمؤمنين مقاعدهم للقتال عند خروجه ، بل كان ذلك قبل خروجه لقتال عدوه¹ وذلك أن المشركين نزلوا منزلهم من أحد فيما بلغنا يوم الأربعاء ، فأقاموا به ذلك اليوم ويوم الخميس ويوم الجمعة ، حتى راح رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم يوم الجمعة بعد ما صلى بأصحابه الجمعة ، فأصبح بالشعب من أحد يوم السبت للنصف من شوّال .
حدثنا بذلك ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني محمد بن مسلم الزهري ، ومحمد بن يحيى بن حبان ، وعاصم بن عمر بن قتادة والحصين بن عبد الرحمن وغيرهم .
فإن قال : وكيف كانت تبوئته المؤمنين مقاعد للقتال غدوّا قبل خروجه ، وقد علمت أن التبوئة اتخاذ الموضع ؟ قيل : كانت تبوئته إياهم ذلك قبل مناهضته عدوّه عند مشورته على أصحابه بالرأي الذي رآه لهم بيوم أو يومين . وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمع بنزول المشركين من قريش وأتباعها أُحُدا ، قال فيما :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط عن السديّ لأصحابه : «أشِيرُوا عَليّ ما أصْنَع ؟ »فقالوا : يا رسول الله اخرج إلى هذه الأكلب . فقالت الأنصار : يا رسول الله ما غلبنا عدوّ لنا أتانا في ديارنا ، فكيف وأنت فينا ؟ فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبيّ ابن سلول ، ولم يدعه قط قبلها ، فاستشاره فقال : يا رسول الله اخرج بنا إلى هذه الأكلب . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه أن يدخلوا عليه المدينة ، فيقاتَلوا في الأزقة ، فأتاه النعمان بن مالك الأنصاريّ ، فقال : يا رسول الله ، لا تحرمني الجنة ، فوالذي بعثك بالحقّ لأدخلنّ الجنة ! فقال له : «بم ؟ » قال : بأني أشهد أن لا إله إلا الله ، وأنك رسول الله ، وأني لا أفرّ من الزحف . قال : «صَدَقْتَ ؟ » فقتل يومئذٍ . ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا بدرعه فلبسها ، فلما رأوه وقد لبس السلاح ، ندموا ، وقالوا : بئسما صنعنا ، نشير على رسول الله صلى الله عليه وسلم والوحي يأتيه ! فقاموا واعتذروا إليه ، وقالوا : اصنع ما رأيت . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا يَنْبَغِي لِنَبِيّ أنْ يَلْبَسَ لأُمَتَهُ فَيَضَعَها حتى يُقاتِلَ » .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، قال : ثني ابن شهاب الزهري ومحمد بن يحيى بن حبان وعاصم بن عمر بن قتادة ، والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ ، وغيرهم من علمائنا قالوا : لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون بالمشركين قد نزلوا منزلهم من أحد ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّي قَدْ رأيْتُ بَقَرا فأوّلْتُها خَيْرا ، ورأيْتُ فِي ذُبابِ سَيْفِي ثَلْما ، ورأيْتُ أنّي أدْخَلْتُ يَدِي فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ ، فأوّلْتُها المَدِينَةَ فإنْ رأيْتُمْ أنْ تُقيمُوا بالمَدِينَةِ وَتَدَعُوهُمْ حَيْثُ نَزَلُوا ، فإنْ أقامُوا أقامُوا بِشَرّ مُقامٍ ، وَإنْ هُمْ دَخَلُوا عَلَيْنا قاتَلْناهُمْ فِيها » . وكان رأي عبد الله بن أبيّ ابن سلول مع رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يرى رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك أن لا يخرج إليهم . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره الخروج من المدينة ، فقال رجال من المسلمين ممن أكرم الله بالشهادة يوم أحد وغيرهم ممن كان فاته بدر وحضروه : يا رسول الله ، اخرج بنا إلى أعدائنا لا يرون أنا جبنّا عنهم وضعفنا ! فقال عبد الله بن أبيّ ابن سلول : يا رسول الله أقم بالمدينة لا تخرج إليهم ، فوالله ما خرجنا منها إلى عدوّ لنا قط إلا أصاب منا ، ولا دخلها علينا قط إلا أصبنا منه ! فدعهم يا رسول الله ، فإن أقاموا أقاموا بشرّ محبس ، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم ، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم ، وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاءوا . فلم يزل الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان من أمرهم حبّ لقاء القوم حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلبس لأمته .
فكانت تبوئة رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمنين مقاعد للقتال ، ما ذكرنا من مشورته على أصحابه بالرأي الذي ذكرنا على ما وصفه الذين حكينا قولهم¹ يقال منه : بوّأت القوم منزلاً وبوّأته لهم فأنا أبوّئهم المنزل تبوئة ، وأبوىء لهم منزلاً تبوئة . وقد ذكر أن في قراءة عبد الله بن مسعود : «وَإذْ غَدَوْتَ مِنْ أهْلِكَ تُبَوّىءُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ للْقِتالِ » وذلك جائز ، كما يقال : رَدِفَكَ وَردِفَ لك ، ونقدت لها صداقها ونقدتها ، كما قال الشاعر :
أسْتَغْفِرُ اللّهَ ذَنْبا لَسْتُ مُحْصِيَهُ *** رَبّ العِبادِ إليهِ الوَجْهِ وَالعَمَلُ
والكلام : أستغفر الله لذنب . وقد حكي عن العرب سماعا : أبأت القوم منزلاً فأنا أبيئهم إباءة ، ويقال منه : أبأت الإبل : إذا رددتها إلى المباءة ، والمباءة : المراح الذي تبيت فيه ، والمقاعد : جمع مقعد وهو المجلس . فتأويل الكلام : واذكر إذ غدوت يا محمد من أهلك تتخذ للمؤمنين معسكرا وموضعا لقتال عدوّهم . وقوله : { وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } يعني بذلك تعالى ذكره : والله سميع لما يقول المؤمنون لك ، فيما شاورتهم فيه من موضع لقائك ولقائهم عدوّك وعدوّهم من قول من قال : اخرج بنا إليهم حتى نلقاهم خارج المدينة ، وقول من قال لك : لا تخرج إليهم وأقم بالمدينة حتى يدخلوها علينا ، على ما قد بينا قبل ، ومما تشير به عليهم أنت يا محمد . عليم بأصلح تلك الاَراء لك ولهم ، وبما تخفيه صدور المشيرين عليك بالخروج إلى عدوّك ، وصدور المشيرين عليك بالمقام في المدينة ، وغير ذلك من أمرك وأمورهم . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق في قوله : { وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } : أي سميع لما يقولون ، عليم بما يخفون .
{ وإذ غدوت } أي واذكر إذ غدوت . { من أهلك } أي من حجرة عائشة رضي الله عنها . { تبوئ المؤمنين } تنزلهم . أو تسوي وتهيئ لهم ويؤيده القراءة باللام . { مقاعد للقتال } مواقف وأماكن له ، وقد يستعمل المقعد والمقام بمعنى المكان على الاتساع كقوله تعالى : { في مقعد صدق } وقوله تعالى : { قبل أن تقوم من مقامك } . { والله سميع } لأقوالكم . { عليم } بنياتكم روي ( أن المشركين نزلوا بأحد يوم الأربعاء- ثاني عشر من شوال سنة ثلاث من الهجرة- فاستشار الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه ، وقد دعا عبد الله بن أبي بن سلول ولم يدعه قبل فقال هو وأكثر الأنصار : أقم يا رسول الله بالمدينة ولا تخرج إليهم ، فوالله ما خرجنا منها إلى عدو إلا أصاب منا ، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه فكيف وأنت فينا ؟ فدعهم فإن أقاموا أقاموا بشر محبس ، وإن دخلوا قاتلهم الرجال ورماهم النساء والصبيان بالحجارة ، وإن رجعوا رجعوا خائبين . وأشار بعضهم إلى الخروج فقال عليه الصلاة والسلام : " رأيت في منامي بقرة مذبوحة حولي فأولتها خيرا ، ورأيت في ذباب سيفي ثلما فأولته هزيمة ، ورأيت كأني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة ، فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم ، فقال رجال فاتتهم بدر وأكرمهم الله بالشهادة يوم أحد اخرج بنا إلى أعدائنا . وبالغوا حتى دخل ولبس لامته ، فلما رأوا ذلك ندموا على مبالغتهم وقالوا : اصنع يا رسول الله ما رأيت فقال " لا ينبغي لنبي أن يلبس لامته فيضعها حتى يقاتل " . فخرج بعد صلاة الجمعة وأصبح بشعب أحد يوم السبت ، ونزل في عدوة الوادي وجعل ظهره وعسكره إلى أحد وسوى صفهم ، وأمر عبد الله بن جبير على الرماة وقال : انضحوا عنا بالنبل لا يأتونا من ورائنا ) .
وجود حرف العطف في قوله : { وإذ غدوت } مانع من تعليق الظرف ببعض الأفعال المتقدّمة مثل { ودوا ما عنتم } [ آل عمران : 118 ] ومثل { يفرحوا بها } [ آل عمران : 120 ] وعليه فهو آت كما أتَتْ نظائره في أوائل الآي والقِصص القرآنية ، وهو من عطف جملة على جملة وقصة على قصة وذلك انتقال اقتضابي فالتقدير : واذكر إذ غدوت . ولا يأتي في هذا تعلّق الظرف بفعل ممَّا بعده لأنّ قوله : { تبوِّىء } لاَ يستقيم أن يكون مبدأ الغرض ، وقوله : { همت } لا يصلح لتعليق { إذ غدوت } لأنَّه مدخول ( إذْ ) أخرى .
ومناسبة ذكر هذه الوقعة عقب ما تقدّم أنَّها من أوضح مظاهر كيد المخالفين في الدّين ، المنافقين ، ولمَّا كان شأن المنافقين من اليهود وأهل يثرب واحداً ، ودخيلتهما سواء ، وكانوا يعملون على ما تدبّره اليهود ، جمع الله مكائد الفريقين بذكر غزوة أحُد ، وكان نزول هذه السورة عقب غزوة أحُد كما تقدّم . فهذه الآيات تشير إلى وقعة أحُد الكائنة في شوّال سنة ثلاث من الهجرة حين نزل مشركو مكَّة ومن معهم من أحلافهم سَفْحَ جبل أحُد ، حول المدينة ، لأخذ الثَّأر بما نالهم يوم بدر من الهزيمة ، فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه فيما يفعلون وفيهم عبد الله بنُ أبي ابن سَلُول رأسُ المنافقين ، فأشار جمهورهم بالتحصّن بالمدينة حتَّى إذا دخل عليهم المشركون المدينة قاتلوهم في الديار والحصون فغلبوهم ، وإن رجعوا رجعوا خائبين ، وأشار فريق بالخروج ورغبوا في الجهاد وألحُّوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم برأي المشيرين بالخروج ، ولبس لأْمته ، ثُمّ عرضَ للمسلمين تردّد في الخروج فراجعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " لا ينبغي لنبيء أن يلبس لأمته فيضعها حتَّى يحكم الله بينه وبين عدُوّه "