وبعد ذلك بيان للفطرة التي فطر الله الناس عليها ، ولمواقفهم المختلفة في مواجهة الهدى ، الذي لا تنقصه البينة ولا ينقصه الدليل :
( إنما يستجيب الذين يسمعون . والموتى يبعثهم الله . ثم إليه يرجعون ) . .
إن الناس يواجهون هذا الحق الذي جاءهم به الرسول من عند الله وهم فريقان :
فريق حي ، أجهزة الاستقبال الفطرية فيه حية ، عاملة ، مفتوحة . . وهؤلاء يستجيبون للهدى . فهو من القوة والوضوح والاصطلاح مع الفطرة والتلاقي معها إلى الحد الذي يكفي أن تسمعه ، فتستجيب له :
( إنما يستجيب الذين يسمعون ) . .
وفريق ميت ، معطل الفطرة ، لا يسمع ولا يستقبل ، ومن ثم لا يتأثر ولا يستجيب . . ليس الذي ينقصه أن هذا الحق لا يحمل دليله - فدليله كامن فيه ، ومتى بلغ إلى الفطرة وجدت فيها مصداقه ، فاستجابت إليه حتما - إنما الذي ينقص هذا الفريق من الناس هو حياة الفطرة ، وقيام أجهزة الاستقبال فيها بمجرد التلقي ! وهؤلاء لا حيلة فيهم للرسول ، ولا مجال معهم للبرهان . إنما يتعلق أمرهم بمشيئة الله . إن شاء بعثهم إن علم منهم ما يستحق أن يحييهم ، وإن شاء لم يبعثهم في هذه الحياة الدنيا ، وبقوا أمواتا بالحياة حتى يرجعوا إليه في الآخرة .
( والموتى يبعثهم الله . ثم إليه يرجعون ) . .
هذه هي قصة الاستجابة وعدم الاستجابة ! تكشف حقيقة الموقف كله ، وتحدد واجب الرسول وعمله ، وتترك الأمر كله لصاحب الأمر يقضي فيه بما يريد .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّمَا يَسْتَجِيبُ الّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَىَ يَبْعَثُهُمُ اللّهُ ثُمّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } . .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : لا يكبرنّ عليك إعراض هؤلاء المعرضين عنك وعن الاستجابة لدعائك إذا دعوتهم إلى توحيد ربهم والإقرار بنبوّتك ، فإنه لا يستجيب لدعائك إلى ما تدعوه إليه من ذلك إلا الذين فتح الله أسماعهم للإصغاء إلى الحقّ وسهّل لهم اتباع الرشد ، دون من ختم الله على سمعه فلا يفقه من دعائك إياه إلى الله وإلى اتباع الحقّ إلا ما تفقه الأنعام من أصوات رعاتها ، فهم كما وصفهم به الله تعالى : { صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ } . { والمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللّهُ } يقول : والكفار يبعثهم الله مع الموتى ، فجعلهم تعالى ذكره في عداد الموتى الذين لا يسمعون صوتا ولا يعقلون دعاء ولا يفقهون قولاً ؛ إذ كانوا لا يتدبرون ححج الله ولا يعتبرون آياته ولا يتذكرون فينزجروا عما هم عليه من تكذيب رسل الله وخلافهم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { إنّما يَسْتَجِيبُ الّذِينَ يَسْمَعُونَ } : المؤمنون للذكر . والمَوْتَى : الكفار ، حين يَبْعَثُهُمُ اللّهُ مع الموتى .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { إنّما يَسْتَجِيبُ الّذِينَ يَسْمَعُونَ } قال : هذا مثل المؤمن سمع كتاب الله فانتفع به وأخذ به وعقله ، والذين كذّبوا بآياتنا صمّ وبكم ، وهذا مثل الكافر أصمّ أبكم ، لا يبصر هدى ولا ينتفع به .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن سفيان الثوريّ ، عن محمد بن جحادة ، عن الحسن : { إنّما يَسْتَجِيبُ الّذِينَ يَسْمَعُونَ } : المؤمنون . والمَوْتَى قال : الكفار .
حدثني ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن محمد بن جحادة ، قال : سمعت الحسن يقول في قوله : { إنّما يَسْتَجِيبُ الّذِينَ يَسْمَعُونَ والمَوْتَى يَبْعَثُهُمْ اللّهُ } قال : الكفار .
وأما قوله : { ثُمّ إلَيْهِ يُرْجَعُونَ } فإنه يقول تعالى : ثم إلى الله يرجعون ، المؤمنون الذين استجابوا لله والرسول ، والكفار الذين يحول الله بينهم وبين أن يفقهوا عنك شيئا ، فيثيب هذا الؤمن على ما سلف من صالح عمله في الدنيا بما وعد أهل الإيمان به من الثواب ، ويعاقب هذا الكافر بما أوعد أهل الكفر به من العقاب ، لا يظلم أحدا منهم مثقال ذرّة .
هذا من النمط المتقدم في التسلية أي لا تحفل بمن أعرض فإنما يستجيب لداعي الإيمان الذين يقيمون الآيات ويتلقون البراهين بالقبول ، فعبر عن ذلك كله ب { يسمعون } إذ هو طريق العلم بالنبوة والآيات المعجزة ، وهذه لفظة تستعملها الصوفية إذا بلغت الموعظة من أحد مبلغاً شافياً قالوا سمع{[4903]} .
ثم قال تعالى : { والموتى } يريد الكفار ، فعبر ، عنهم بضد ما عبر عن المؤمنين وبالصفة التي تشبه حالهم في العمى عن نور الله تعالى والصمم عن وعي كلماته ، قاله مجاهد وقتادة والحسن ، و { يبعثهم الله } يحتمل معنيين قال الحسن معناه «يبعثهم الله » بأن يؤمنوا حين يوقفهم .
قال القاضي أبو محمد : فتجيء الاستعارة في هذا التأويل ، في الوجهين في تسميتهم موتى وفي تسمية إيمانهم وهدايتهم بعثاً ، والواو على هذا مشركة في العامل عطفت { الموتى } على { الذين } ، و { يبعثهم الله } في موضع الحال ، وكأن معنى الآية إنما يستجيب الذين يرشدون حين يسمعون فيؤمنون والكفار حين يرشدهم الله بمشيئته ، فلا تتأسف أنت ولا تستعجل ما لم يُقدَّر ، وقرأ الحسن «ثم إليه يرجعون »{[4904]} فتناسبت الآية ، وقال مجاهد وقتادة : { والموتى } يريد الكفار ، أي هم بمثابة الموتى حين لا يرون هدى ولا يسمعون فيعون ، و { يبعثهم الله } أي : يحشرهم يوم القيامة { ثم إليه } أي إلى سطوته وعقابه { يرجعون } وقرأت هذه الطائفة يرجعون بياء ، والواو على هذا عاطفة جملة كلام على جملة ، { الموتى } مبتدأ و { يبعثهم الله } خبره ، فكأن معنى الآية إنما يستجيب الذين يسمعون فيعون ، والكفار سيبعثهم الله ويردهم إلى عقابه ، فالآية على هذا متضمنة الوعيد للكفار ، والعائد على { الذين } هو الضمير في { يسمعون } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.