ثم نبههم على الدليل العقلي ، الدال على عدم استبعاد البعث ، الذي استبعدوه ، وأنهم لو نظروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم ، من السماء والأرض فرأوا من قدرة اللّه فيهما ، ما يبهر العقول ، ومن عظمته ما يذهل العلماء الفحول ، وأن خلقهما وعظمتهما وما فيهما من المخلوقات ، أعظم من إعادة الناس - بعد موتهم - من قبورهم ، فما الحامل لهم ، على ذلك التكذيب مع التصديق ، بما هو أكبر منه ؟ نعم ذاك خبر غيبي إلى الآن ، ما شاهدوه ، فلذلك كذبوا به .
قال اللّه : { إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ } أي : من العذاب ، لأن الأرض والسماء تحت تدبيرنا ، فإن أمرناهما لم يستعصيا ، فاحذروا إصراركم على تكذيبكم ، فنعاقبكم أشد العقوبة . { إِنَّ فِي ذَلِكَ } أي : خلق السماوات والأرض ، وما فيهما من المخلوقات { لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ }
فكلما كان العبد أعظم إنابة إلى اللّه ، كان انتفاعه بالآيات أعظم ، لأن المنيب مقبل إلى ربه ، قد توجهت إراداته وهماته لربه ، ورجع إليه في كل أمر من أموره ، فصار قريبا من ربه ، ليس له هم إلا الاشتغال بمرضاته ، فيكون نظره للمخلوقات نظر فكرة وعبرة ، لا نظر غفلة غير نافعة .
الضمير في { يروا } لهؤلاء { الذين لا يؤمنون بالآخرة } [ سبأ : 8 ] وقفهم الله تعالى على قدرته وخوفهم من إحاطتها بهم ، المعنى أليس يرون أمامهم ووراءهم سمائي وأرضي لا سبيل لهم إلى فقد ذلك عن أبصارهم ، ولا عدم إحاطته بهم ، وقرأ الجمهور «إن نشأ نخسف » و «نسقط » بالنون في الثلاثة وقرأ حمزة والكسائي «إن يشأ يخسف بهم أو يسقط » بالياء في الثلاثة وهي قراءة ابن وثاب وابن مصرف والأعمش وعيسى واختارها أبو عبيد ، و «خسف الأرض » هو إهواؤها بهم وتهورها وغرقهم فيها ، و «الكسف » قيل هو مفرد اسم القطعة ، وقيل هو جمع كسفه جمعها على حد تمرة وتمر ومشهور جمعها كسف كسدرة وسدر{[9601]} .
وأدغم الكسائي الفاء في الباء في قوله { نخسف بهم } قال أبو علي وذلك لا يجوز لأن الباء أضعف في الصوت من الفاء فلا تدغم فيها وإن كان الباء تدغم في الفاء كقوله اضرب فلاناً ، وهذا كما تدغم الباء في الميم كقوله «اضرب محمداً » ولا تدغم الميم في الباء كقولك " اضمم بكراً " ، لأن الباء انحطت عن الميم بفقد الغنة التي في الميم{[9602]} .
والإشارة بقوله تعالى في ذلك إلى إحاطة السماء بالمرء ومماسة الأرض له على كل حال ، و «المنيب » الراجع التائب .
الفاء لتفريع ما بعدها على قوله : { بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب } [ سبأ : 8 ] الخ ، لأن رؤية مخلوقات الله في السماء والأرض من شأنها أن تهديهم لو تأملوا حق التأمل .
والاستفهام للتعجيب الذي يخالطه إنكار على انتفاء تأملهم فيما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض ، أي من المخلوقات العظيمة الدالة على أن الذي قدَر على خلق تلك المخلوقات من عدم هو قادر على تجديد خلق الإِنسان بعد العدم .
والرؤية بصرية بقرينة تعليق { إلى } . فمعنى الاستفهام عن انتفائها منهم انتفاء آثارها من الاستدلال بأحوال الكائنات السماوية والأرضية على إمكان البعث ، فشبه وجود الرؤية بعدمها واستعير له حرف النفي . والمقصود : حثهم على التأمل والتدبر ليتداركوا علمهم بما أهملوه . وهذا كقوله : { أفلم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيراً من الناس بلقاء ربهم لكافرون } [ الروم : 8 ] .
والمراد ب { ما بين أيديهم } ما يستقبله كل أحد منهم من الكائنات السماوية والأرضية ، وب { ما خلفهم } ما هو وراء كل أحد منهم ، فإنهم لو شاءوا لنظروا إليه بأن يلتفتوا إلى ما وراءهم ، وذلك مثل أن ينظروا النصف الشمالي من الكرة السماوية في الليل ثم ينظروا النصف الجنوبي منها فيروا كواكب ساطعة بعضها طالع من مشرقه وبعضها هاو إلى مغربه وقمراً مختلف الأشكال باختلاف الأيام ، وفي النهار بأن ينظروا إلى الشمس بازغة وآفلة ، وما يقارن ذلك من إسفار وأصيل وشفق . وكذلك النظر إلى جبال الأرض وبحارها وأوديتها وما عليها من أنواع الحيوان واختلاف أصنافه .
و { من } في قوله : { من السماء والأرض } تبعيضية .
والسماء والأرض أطلقتا على محوياتهما كما أطلقت القرية على أهلها في قوله : { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] .
وجملة { إن نشأ نخسف بهم الأرض } اعتراض بالتهديد فمناسبة التعجيب الإِنكاري بما يذكرهم بقدرة صانع تلك المصنوعات العظيمة على عقاب الذين أشركوا معه غيره والذين ضيقوا واسع قدرته وكذبوا رسوله صلى الله عليه وسلم وما يخطر في عقولهم ذكر الأمم التي أصابها عقاب بشيء من الكائنات الأرضية كالخسف أو السماوية كإسقاط كسف من الأجرام السماوية مثل ما أصاب قارون من الخسف وما أصاب أهل الأيْكة من سقوط الكسف .
وقرأ الكسائي وحده « نخسبّهم » بإدغام الفاء في الباء ، قال أبو علي : وذلك لا يجوز لأن الباء أضعف في الصوت من الفاء فلا تدغم الفاء في الباء ، وإن كانت الباء تدغم في الفاء كقولك : اضرب فلاناً ، وهذا كما تدغم الباء في الميم كقولك : اضرب مالكاً ، ولا تدغم الميم في الباء كقولك : اضمم بكراً ، لأن الباء انحطت عن الميم بفقد الغثة التي في الميم ، وهذا رد للرواية بالقياس وهو غصْب .
والكِسف بكسر الكاف وسكون السين في قراءة الجمهور ، وهو القطعة من الشيء .
وقد تقدم في قوله تعالى : { أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً } في سورة الإِسراء ( 92 ) .
وقرأ الجمهور نخسف } و { نسقط } بنون العظمة . وقرأها حمزة والكسائي وخلف بياء الغائب على الالتفات من مقام التكلم إلى مقام الغيبة ، ومعاد الضميرين معروف من سياق الكلام .
وجملة { إن في ذلك لآية لكل عبد منيب } تعليل للتعجيب الإِنكاري باعتبار ما يتضمنه من الحث على التأمل والتدبر كما تقدم آنفاً ، فموقع حرف التوكيد هنا لمجرد التعليل ، كقول بشار :
ولك أن تجعل تذييلاً . والمشار إليه هو ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض ، أي من الكائنات فيهما .
والآية : الدليل والتعريف للجنس ، فالمفرد المعرّف مساو للجمع ، أي لآيات كثيرة .
والمنيب : الراجع بفكره إلى البحث عما فيه كماله النفساني وحسن مصيره في الآخرة فهو يقدّر المواعظ حقّ قدرها ويتلقّاها بالشك في الحالة التي وعظ من أجلها فيعاود النظر حتى يهتدي ولا يرفض نصح الناصحين وإرشاد المرشدين مرتدياً برداء المتكبرين فهو لا يخلو من النظر في دلائل قدرة الله ، ومن أكبر المنيبين المؤمنون مع رسولهم .