ولما بان تعبيرها ليوسف ، قال له أبوه : { يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا ْ } أي : حسدا من عند أنفسهم ، أن تكون أنت الرئيس الشريف عليهم .
{ إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ ْ } لا يفتر عنه ليلا ولا نهارا ، ولا سرا ولا جهارا ، فالبعد عن الأسباب التي يتسلط بها على العبد أولى ، فامتثل يوسف أمر أبيه ، ولم يخبر إخوته بذلك ، بل كتمها عنهم .
{ قال يا بنيّ } تصغير ابن صغره للشفقة أو الصغر السن لأنه كان ابن اثنتي عشرة سنة . وقرأ حفص هنا وفي " الصافات " بفتح الياء . { لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا } فيحتالوا لإهلاكك حيلة ، فهم يعقوب عليه السلام من رؤياه أن الله يصطفيه لرسالته وفوقه على إخوته ، فخاف عليه حسدهم وبغيهم والرؤيا كالرؤية غير أنها مختصة بما يكون في النوم ، فرق بينهما بحر في التأنيث كالقربة والقربى وهي انطباع الصورة المنحدرة من أفق المتخيلة إلى الحس المشترك ، والصادقة منها إنما تكون باتصال النفس بالملكوت لما بينهما من التناسب عند فراغها من تدبير البدن أدنى فراغ ، فتتصور بما فيها مما يليق بها من المعاني الحاصلة هناك ، ثم إن المتخيلة تحاكيه بصورة تناسبه فترسلها إلى الحس المشترك فصير مشاهدة ، ثم إن كانت شديدة المناسبة لذلك المعنى بحيث لا يكون التفاوت إلا بالكلية والجزئية استغنت الرؤيا عن التعبير وإلا احتاجت إليه ، وإنما عدي كاد باللام وهو متعد بنفسه لتضمنه معنى فعل يعدى به أكيدا ولذلك أكد بالمصدر وعله بقوله : { إن الشيطان للإنسان عدو مبين } ظاهر العداوة لما فعل بآدم عليه السلام وحواء فلا يألو جهدا في تسويلهم وإثارة الحسد فيهم حتى يحملهم على الكيد .
تقتضي هذه الآية أن يعقوب عليه السلام كان يحس من بنيه حسد يوسف وبغضته ، فنهاه عن قصص الرؤيا عليهم خوف أن يشعل بذلك غل صدورهم ، فيعملوا الحيلة على هلاكه ، ومن هنا ومن فعلهم بيوسف - الذي يأتي ذكره - يظهر أنهم لم يكونوا أنبياء في ذلك الوقت . ووقع في كتاب الطبري لابن زيد : أنهم كانوا أنبياء ؛ وهذا يرده القطع بعصمة الأنبياء عن الحسد الدنياوي وعن عقوق الآباء وتعريض مؤمن للهلاك والتوافر في قتله .
ثم أعلمه : { إن الشيطان للإنسان عدو مبين } أي هو يدخلهم في ذلك ويحضهم عليه .
وأمال الكسائي { رؤياك } ، والرؤيا حيث وقعت وروي عنه : أنه لم يمل : { رؤياك } في هذه السورة وأمال الرؤيا حيث وقعت ، وقرأ «روياك » بغير همز - وهي لغة أهل الحجاز - ولم يملها الباقون حيث وقعت .
و «الرؤيا » مصدر كثر وقوعه على هذا المتخيل في النوم حتى جرى مجرى الأسماء كما فعلوا في الدر في قولهم : لله درك فخرجا من حكم عمل المصادر وكسروها رؤى بمنزلة ظلم ، والمصادر في أكثر الأمر لا تكسر{[6562]} .
جاءت الجملة مفصولة عن التي قبلها على طريقة المحاورات . وقد تقدّمت عند قوله تعالى : { قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها } في سورة البقرة ( 30 ) .
والنّداء مع حضور المخاطب مستعمل في طلب إحضار الذهن اهتماماً بالغرض المخاطب فيه .
و { بُنَيّ } بكسر الياء المشدّدة تصغير ابن مع إضافته إلى ياء المتكلم وأصله بُنَيْوي أو بُنَيْيي على الخلاف في أنّ لام ابن الملتزمَ عدمُ ظهورها هي واو أم ياء . وعلى كلا التقديرين فإنّها أدغمت فيها ياء التصغير بعد قلب الواو ياء لتقارب الياء والواو ، أو لتمَاثلهما فصار ( بنَيّي ) . وقد اجتمع ثلاث ياءات فلزم حذف واحدة منها فحذفت ياء المتكلم لزوماً وألقيت الكسرة التي اجتلبت لأجلها على ياء التصغير دلالة على الياء المحذوفة . وحذفُ ياء المتكلم من المنادى المضاف شائع ، وبخاصة إذا كان في إبقائها ثقل كما هنا ، لأنّ التقاء ياءات ثلاث فيه ثقل .
وهذا التّصغير كناية عن تحبيب وشفقة . نزل الكبير منزلة الصغير لأنّ شأن الصغير أن يحب ويشفق عليه . وفي ذلك كناية عن إمحاض النصح له .
والقصّ : حكاية الرؤيا . يقال : قص الرؤيا إذا حكاها وأخبر بها . وهو جاءٍ من القصص كما علمت آنفاً .
والرؤيا بألف التأنيث هي : رؤية الصور في النوم ، فرّقوا بينها وبين رؤية اليقظة باختلاف علامتي التأنيث ، وهي بوزن البشرى والبقيَا .
وقد علم يعقوب عليه السّلام أن إخوة يوسف عليه السّلام العشرة كانوا يغارون منه لفرط فضله عليهم خَلقا وخلقا ، وعلم أنّهم يعبرون الرؤيا إجمالاً وتفصيلاً ، وعلم أن تلك الرؤيا تؤذن برفعة ينالها يوسف عليه السّلام على إخوته الذين هم أحدَ عَشَرَ فخشي إن قصّها يوسف عليه السلام عليهم أن تشتد بهم الغيرة إلى حدّ الحسد ، وأن يعبّروها على وجهها فينشأ فيهم شرّ الحاسد إذا حسد ، فيكيدوا له كيداً ليسلموا من تفوقّه عليهم وفضله فيهم .
والكيد : إخفاء عمل يضرّ المكيد . وتقدّم عند قوله تعالى : { وأُمْلِي لهم إن كيدي متين } في سورة الأعراف ( 183 ) .
واللاّم في { لك } لتأكيد صلة الفعل بمفعوله كقوله : شكرت لك النعمى .
وتنوين { كيداً } للتعظيم والتهويل زيادة في تحذيره من قص الرؤيا عليهم .
وقصد يعقوب عليه السّلام من ذلك نجاة ابنه من أضرار تلحقه ، وليس قصده إبطال ما دلّت عليه الرؤيا فإنّه يقع بعد أضرار ومشاق . وكان يعلم أن بنيه لم يبلغوا في العلم مبلغ غوص النظر المفضي إلى أن الرّؤيا إن كانت دالة على خير عظيم يناله فهي خبر إلهي ، وهو لا يجوز عليه عدم المطابقة للواقع في المستقبل ، بل لعلّهم يحسبونها من الإنذار بالأسباب الطبيعية التي يزول تسببها بتعطيل بعضها .
وقول يعقوب عليه السّلام هذا لابنه تحذير له مع ثقته بأنّ التحذير لا يثير في نفسه كراهة لإخوته لأنّه وثق منه بكمال العقل ، وصفاء السريرة ، ومكارم الخلق . ومن كان حاله هكذا كان سمحاً ، عاذراً ، معرضاً عن الزلاّت ، عالماً بأثر الصبر في رفعة الشأن ، ولذلك قال لإخوته { إنّه من يتّق ويصبر فإنّ الله لا يضيع أجر المحسنين } [ سورة يوسف : 90 ] وقال : { لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين } [ سورة يوسف : 92 ] . وقد قال أحد ابني آدم عليه السّلام لأخيه الذي قال له لأقتلنّك حسداً { لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إنّي أخاف الله رب العالمين } [ سورة المائدة : 28 ] . فلا يشكل كيف حذّر يعقوبُ يوسفَ عليهما السّلام من كيد إخوته ، ولذلك عقب كلامه بقوله : إن الشيطان للإنسان عدوّ مبين } ليعلم أنه ما حذّره إلاّ من نزغ الشيطان في نفوس إخوته . وهذا كاعتذار النبي صلى الله عليه وسلم للرّجلين من الأنصار اللذين لقياه ليلاً وهو يشيّع زوجه أمّ المؤمنين إلى بيتها فلمّا رأياه ولّيَا ، فقال : « على رسلكما إنها صفية ، فقالا : سبْحان الله يا رسول الله وأكبرا ذلك ، فقال لهما : إنّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وإني خشيت أن يقذف في نفوسكما » . فهذه آيةُ عبرة بتوسّم يعقوب عليه السّلام أحوال أبنائه وارتيائه أن يكفّ كيدَ بعضهم لبعض .
فجملة { إن الشيطان للإنسان } الخ واقعة موقع التعليل للنهي عن قصّ الرؤيا على إخوته . وعداوة الشيطان لجنس الإنسان تحمله على أن يدفعهم إلى إضرار بعضهم ببعض .
وظاهر الآية أن يوسف عليه السّلام لم يقص رؤياه على إخوته وهو المناسب لكماله الذي يبعثه على طاعة أمْر أبيه . ووقع في الإسرائيليات أنه قصّها عليهم فحسدوه .