{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }
هذا أمر عام لكل{[64]} الناس ، بأمر عام ، وهو العبادة الجامعة ، لامتثال أوامر الله ، واجتناب نواهيه ، وتصديق خبره ، فأمرهم تعالى بما خلقهم له ، قال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }
ثم استدل على وجوب عبادته وحده ، بأنه ربكم الذي رباكم بأصناف النعم ، فخلقكم بعد العدم ، وخلق الذين من قبلكم ، وأنعم عليكم بالنعم الظاهرة والباطنة ، فجعل لكم الأرض فراشا تستقرون عليها ، وتنتفعون بالأبنية ، والزراعة ، والحراثة ، والسلوك من محل إلى محل ، وغير ذلك من أنواع{[65]} الانتفاع بها ، وجعل السماء بناء لمسكنكم ، وأودع فيها من المنافع ما هو من ضروراتكم وحاجاتكم ، كالشمس ، والقمر ، والنجوم .
{ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً } والسماء : [ هو ] كل ما علا فوقك فهو سماء ، ولهذا قال المفسرون : المراد بالسماء هاهنا : السحاب ، فأنزل منه تعالى ماء ، { فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ } كالحبوب ، والثمار ، من نخيل ، وفواكه ، [ وزروع ] وغيرها { رِزْقًا لَكُمْ } به ترتزقون ، وتقوتون وتعيشون وتفكهون .
{ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا } أي : نظراء وأشباها من المخلوقين ، فتعبدونهم كما تعبدون الله ، وتحبونهم كما تحبون الله ، وهم مثلكم ، مخلوقون ، مرزوقون مدبرون ، لا يملكون مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض ، ولا ينفعونكم ولا يضرون ، { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أن الله ليس له شريك ، ولا نظير ، لا في الخلق ، والرزق ، والتدبير ، ولا في العبادة{[66]} فكيف تعبدون معه آلهة أخرى مع علمكم بذلك ؟ هذا من أعجب العجب ، وأسفه السفه .
وهذه الآية جمعت بين الأمر بعبادة الله وحده ، والنهي عن عبادة ما سواه ، وبيان الدليل الباهر على وجوب عبادته ، وبطلان عبادة من سواه ، وهو [ ذكر ] توحيد الربوبية ، المتضمن لانفراده بالخلق والرزق والتدبير ، فإذا كان كل أحد مقرا بأنه ليس له شريك في ذلك ، فكذلك فليكن إقراره بأن [ الله ] لا شريك له في العبادة ، وهذا أوضح دليل عقلي على وحدانية الباري ، وبطلان الشرك .
وقوله تعالى : { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } يحتمل أن المعنى : أنكم إذا عبدتم الله وحده ، اتقيتم بذلك سخطه وعذابه ، لأنكم أتيتم بالسبب الدافع لذلك ، ويحتمل أن يكون المعنى : أنكم إذا عبدتم الله ، صرتم من المتقين الموصوفين بالتقوى ، وكلا المعنيين صحيح ، وهما متلازمان ، فمن أتى بالعبادة كاملة ، كان من المتقين ، ومن كان من المتقين ، حصلت له النجاة من عذاب الله وسخطه .
{ يا أيها الناس اعبدوا ربكم } لما عدد فرق المكلفين وذكر خواصهم ومصارف أمورهم ، أقبل عليهم بالخطاب على سبيل الالتفات هزا للسامع وتنشيطا له واهتماما بأمر العبادة ، وتفخيما لشأنها ، وجبرا لكلفة العبادة بلذة المخاطبة . و( يا ) حرف وضع لنداء البعيد ، وقد ينادي به القريب تنزيلا له منزلة البعيد . إما لعظمته كقول الداعي : يا رب ، ويا الله ، هو أقرب إليه من حبل الوريد . أو لغفلته وسوء فهمه . أو للاعتناء بالمدعو له وزيادة الحث عليه . وهو مع المنادى جملة مفيدة ، لأنه نائب مناب فعل وأي : جعل وصلة إلى نداء المعرف باللام ، فإن إدخال " يا " عليه متعذر لتعذر الجمع بين حرفي التعريف فإنهما كمثلين وأعطي حكم المنادى وأجري عليه المقصود بالنداء وصفا موضحا له ، والتزام رفعه إشعارا بأنه المقصود ، وأقحمت بينهما هاء التنبيه تأكيدا وتعويضا عما يستحقه ، أي من المضاف إليه ، وإنما كثر النداء على هذه الطريقة في القرآن لاستقلاله بأوجه من التأكيد ، وكل ما نادى الله له عباده من حيث إنها أمور عظام ، من حقها أن يتفطنوا إليها ، ويقبلوا بقلوبهم عليها ، وأكثرهم عنها غافلون ، حقيق بأن ينادي له بالآكد الأبلغ والجموع وأسماؤها المحلاة باللام للعموم حيث لا عهد ، ويدل عليه صحة الاستثناء منها ، أو التأكيد بما يفيد العموم كقوله تعالى : { فسجد الملائكة كلهم أجمعون } واستدلال الصحابة بعمومها شائعا وذائعا ، فالناس يعم الموجودين وقت النزول لفظا ومن سيوجد ، لما تواتر من دينه عليه الصلاة والسلام أن مقتضى خطابه وأحكامه شامل للقبيلين ، ثابت إلى قيام الساعة إلا ما خصه الدليل ، وما روي عن علقمة والحسن أن كل شيء نزل فيه { يا أيها الناس } فمكي { ويا أيها الذين آمنوا } فمدني ، إن صح رفعه فلا يوجب تخصيصه بالكفار ، ولا أمرهم بالعبادة ، فإن المأمور به هو القدر المشترك بين بدء العبادة ، والزيادة فيها ، والمواظبة عليها ، فالمطلوب من الكفار هو الشروع فيها بعد الإتيان بما يجب تقديمه من المعرفة والإقرار بالصانع ، فإن من لوازم وجوب الشيء وجوب ما لا يتم إلا به ، وكما أن الحدث لا يمنع وجوب الصلاة ، فالكفر لا يمنع وجوب العبادة ، بل يجب رفعه والاشتغال بها عقيبه . ومن المؤمنين ازديادهم وثباتهم عليها وإنما قال : { ربكم } تنبيها على أن الموجب للعبادة هي الربوبية .
{ الذي خلقكم } صفة جرت عليه تعالى للتعظيم والتعليل ، ويحتمل التقييد والتوضيح إن خص الخطاب بالمشركين ، وأريد بالرب أعم من الرب الحقيقي ، والآلهة التي يسمونها أربابا ، والخلق إيجاد الشيء على تقدير واستواء ، وأصله التقدير يقال : خلق النعل إذا قدرها وسواها بالمقياس . { والذين من قبلكم } متناول كل ما يتقدم الإنسان بالذات أو بالزمان . منصوب معطوف على الضمير المنصوب في { خلقكم } والجملة أخرجت مخرج المقرر عندهم ، إما لاعترافهم به كما قال الله تعالى : { ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله } أو لتمكنهم من العلم به بأدنى نظر وقرئ { من قبلكم } على إقحام الموصول الثاني بين الأول وصلته تأكيدا ، كما أقحم جرير في قوله :
تيما ، الثاني بين الأول وما أضيف إليه .
{ لعلكم تتقون } حال من الضمير في { اعبدوا } كأنه قال : اعبدوا ربكم راجين أن تنخرطوا في سلك المتقين الفائزين بالهدى والفلاح ، المستوجبين جوار الله تعالى . نبه به على أن التقوى منتهى درجات السالكين وهو التبري من كل شيء سوى الله تعالى إلى الله ، وأن العابد ينبغي أن لا يغتر بعبادته ، ويكون ذا خوف ورجاء قال تعالى : { يدعون ربهم خوفا وطمعا } { يرجون رحمته ويخافون عذابه } أو من مفعول { خلقكم } والمعطوف عليه على معنى أنه خلقكم ومن قبلكم في صورة من يرجى منه التقوى لترجح أمره باجتماع أسبابه ، وكثرة الدواعي إليه ، وغلب المخاطبين على الغائبين في اللفظ ، والمعنى على إرادتهم جميعا وقيل تعليل للخلق أي خلقكم لكي تتقوا كما قال : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } . وهو ضعيف إذ لم يثبت في اللغة مثله .
والآية تدل على أن الطريق إلى معرفة الله تعالى والعلم بوحدانيته واستحقاقه للعبادة ، النظر في صنعه والاستدلال بأفعاله ، وأن العبد لا يستحق بعبادته عليه ثوابا ، فإنها لما وجبت عليه شكرا لما عدده عليه من النعم السابقة فهو كأجير أخذ الأجر قبل العمل .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( 21 )
«يا » حرف نداء ، وفيه تنبيه ، و «أي » هو المنادى .
قال أبو علي : «اجتلبت أي بعد حرف النداء فيما فيه الألف واللام لأن في حرف النداء تعريفاً فكان يجتمع تعريفان ، و » ها «تنبيه وإشارة إلى المقصود ، وهي بمنزلة ذا في الواحد ، و { الناس } نعت لازم لأي » .
وقال مجاهد : { يا أيها الناس } حيث وقع في القرآن مكي ، و { يا أيها الذين آمنوا } مدني .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : قد تقدم في أول السورة أنها كلها مدنية ، وقد يجيء في المدني { يا أيها الناس } ، وأما قوله في { يا أيها الذين آمنوا } فصحيح .
وقوله تعالى : { اعبدوا ربكم }( {[321]} ) معناه وحدوه وخصوه بالعبادة ، وذكر تعالى خلقه لهم من بين سائر صفاته إذ كانت العرب مقرة بأن الله خلقها ، فذكر ذلك حجة عليهم . ( {[322]} )
و «لعل » في هذه الآية قال فيها كثير من المفسرين هي بمعنى إيجاب التقوى( {[323]} ) وليست من الله تعالى بمعنى ترجٍّ وتوقُّع .
وقال سيبويه ورؤساء اللسان : هي على بابها ، والترجي والتوقع إنما هو في حيز البشر ، أي إذا تأملتم حالكم مع عبادة ربكم رجوتم لأنفسكم التقوى ، و { لعلكم } متعلقة بقوله : { اعبدوا ربكم } ، ويتجه تعلقها بخلقكم أي لما ولد كل مولود على الفطرة فهو إن تأمله متأمل توقَّع له ورجا أن يكون متقياً ، و { تتقون } مأخوذ من الوقاية ، وأصله «توتقيون » نقلت حركة الياء إلى القاف وحذفت للالتقاء مع الواو الساكنة وأدغمت الواو الأولى في التاء .