{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ }
وهذا الفعل المذكور في هذه الآية ، فعل للذين كانوا في زمن الوحي بالمدينة ، وذلك أن الأوس والخزرج - وهم الأنصار - كانوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم مشركين ، وكانوا يقتتلون على عادة الجاهلية ، فنزلت عليهم الفرق الثلاث من فرق اليهود ، بنو قريظة ، وبنو النضير ، وبنو قينقاع ، فكل فرقة منهم حالفت فرقة من أهل المدينة .
فكانوا إذا اقتتلوا أعان اليهودي حليفه على مقاتليه الذين تعينهم{[92]} الفرقة الأخرى من اليهود ، فيقتل اليهودي اليهودي ، ويخرجه من دياره إذا حصل جلاء ونهب ، ثم إذا وضعت الحرب أوزارها ، وكان قد حصل أسارى بين الطائفتين فدى بعضهم بعضا .
والأمور الثلاثة كلها قد فرضت عليهم ، ففرض عليهم أن لا يسفك بعضهم دم بعض ، ولا يخرج بعضهم بعضا ، وإذا وجدوا أسيرا منهم ، وجب عليهم فداؤه ، فعملوا بالأخير وتركوا الأولين ، فأنكر الله عليهم ذلك فقال : { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ } وهو فداء الأسير { وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } وهو القتل والإخراج .
وفيها أكبر دليل على أن الإيمان يقتضي فعل الأوامر واجتناب النواهي ، وأن المأمورات من الإيمان ، قال تعالى : { فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } وقد وقع ذلك فأخزاهم الله ، وسلط رسوله عليهم ، فقتل من قتل ، وسبى من سبى منهم ، وأجلى من أجلى .
{ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ } أي : أعظمه { وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }
يقول ، تبارك وتعالى ، منكرًا على اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، وما كانوا يعانونه من القتال مع الأوس والخزرج ، وذلك أن الأوس والخزرج ، وهم الأنصار ، كانوا في الجاهلية عُبَّاد أصنام ، وكانت بينهم حروب كثيرة ، وكانت يهود المدينة ثلاثَ قبائل : بنو قينقاع . وبنو النضير حلفاء الخزرج . وبنو قريظة حلفاء الأوس . فكانت الحرب إذا نشبت{[2106]} بينهم قاتل كل فريق مع حلفائه ، فيقتل اليهودي أعداءه ، وقد يقتل اليهوديّ الآخرُ من الفريق الآخر ، وذلك حرام عليهم في دينه ونص كتابه ، ويخرجونهم من بيوتهم وينهبون ما فيها من الأثاث والأمتعة والأموال ، ثم إذا وضعت الحرب أوزارها استفكّوا الأسارى من الفريق المغلوب ، عملا بحكم التوراة ؛ ولهذا قال تعالى : { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } ولهذا قال تعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ } أي : لا يقتل بعضكم بعضًا ، ولا يخرجه من منزله ، ولا يظاهر عليه ، كما قال تعالى : { فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ } [ البقرة : 54 ]
وذلك أن أهل الملة الواحدة بمنزلة النفس الواحدة ، كما قال عليه الصلاة والسلام : " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم بمنزلة الجسد الواحد ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر " .
[ وقوله ]{[2107]} { ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ } أي : ثم أقررتم بمعرفة هذا الميثاق وصحته وأنتم تشهدون به .
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ } ( 84 )
والسفك صب الدم وسرد الكلام ، وقرأ طلحة بن مصرف وشعيب بن أبي حمزة «لا تسفُكون » بضم الفاء ، وقرأ أبو نهيك «تُسفِّكون » بضم التاء وكسر الفاء وتضعيفها ، وإعراب { لا تسفكون } كما تقدم في { لا تعبدون } ، و { دماءكم } جمع دم ، وهو اسم منقوص أصله دمي ، وتثنيته دميان ، وقيل أصله دمْي بسكون الميم ، وحركت في التثنية لتدل الحركة على التغيير الذي في الواحد .
وقوله تعالى { ولا تخرجون أنفسكم من دياركم } معناه ولا ينفي بعضكم بعضاً بالفتنة والبغي ، ولما كانت ملتهم واحدة وأمرهم واحداً وكانوا في الأمم كالشخص الواحد ، جعل قتل بعضهم لبعض ونفي بعضهم بعضاً قتلاً لأنفسهم ونفياً لها ، وكذلك حكم كل جماعة تخاطب بهذا اللف في القول( {[885]} ) ، وقيل { لا تسفكون دماءكم } أي لا يقتل أحد فيقتل قصاصاً ، فكأنه سفك دم نفسه لما سبب ذلك ولا يفسد في الأرض فينفى فيكون قد أخرج نفسه من دياره ، وهذا تأويل فيه تكلف ، وإنما كان الأمر أن الله تعالى قد أخذ على بني إسرائيل في التوراة ميثاقاً أن لا يقتل بعضهم بعضاً ولا ينفيه ولا يسترقه ولا يدعه يسترق إلى غير ذلك من الطاعات .
وقوله تعالى { ثم أقررتم } أي خلفاً بعد سلف أن هذا الميثاق أخذ عليكم والتزمتموه فيتجه في هذه اللفظة أن تكون من الإقرار الذي هو ضد الجحد وتتعدى بالباء ، وأن تكون من الإقرار الذي هو إبقاء الأمر على حاله ، أي أقررتم هذا الميثاق ملتزماً .
وقوله { وأنتم تشهدون }( {[886]} ) قيل الخطاب يراد به من سلف منهم والمعنى وأنتم شهود أي حضور أخذ الميثاق والإقرار ، وقيل إن المراد من كان في مدة محمد صلى الله عليه وسلم ، والمعنى وأنتم شهداء أي بينة أن هذا الميثاق أخذ على أسلافكم فمن بعدهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وإذ أخذنا ميثاقكم}... يعني: ولقد أخذنا ميثاقكم في التوراة {لا تسفكون دماءكم}، يقول: لا يقتل بعضكم بعضا. {ولا تخرجون أنفسكم}، يعني لا يخرج بعضكم بعضا {من دياركم} {ثم أقررتم} بهذا. {وأنتم تشهدون} أن هذا في التوراة...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله: {وَإذْ أخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ} في المعنى والإعراب نظير قوله: {وَإذْ أخَذْنا مِيثَاقَ بَنِي إسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إلاّ اللّهَ}. وأما سفك الدم، فإنه صبه وإراقته.
فإن قال قائل: وما معنى قوله:"لا تَسْفِكونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ"؟ وقال: أَوَ كان القوم يقتلون أنفسهم، ويخرجونها من ديارها، فنهوا عن ذلك؟ قيل: ليس الأمر في ذلك على ما ظننتَ، ولكنهم نهوا عن أن يقتل بعضهم بعضا، فكان في قتل الرجل منهم الرجلَ قتلُ نفسه، إذْ كانت ملّتهما بمنزلة رجل واحد، كما قال عليه الصلاة والسلام: «إنّمَا المُؤْمِنُونَ فِي تَرَاحُمِهمْ وَتَعَاطُفِهِمْ بَيْنَهُمْ بمَنْزِلَةِ الجَسَدِ الوَاحِدِ إذَا اشْتَكَى بَعْضُهُ تَدَاعَى لَهُ سائرُ الجَسَدِ بِالحُمّى وَالسّهَرِ».
وقد يجوز أن يكون معنى قوله: {لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ} أي لا يقتل الرجل منكم الرجل منكم، فيقاد به قصاصا، فيكون بذلك قاتلاً نفسه لأنه كان الذي سبب لنفسه ما استحقت به القتل، فأضيف بذلك إليه قتل وليّ المقتول إياه قصاصا بوليه، كما يقال للرجل يركب فعلاً من الأفعال يستحقّ به العقوبة فيعاقب العقوبة: أنت جنيت هذا على نفسك.
{ثُمّ أقْرَرْتُمْ}: بالميثاق الذي أخذنا عليكم {لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ}.
اختلف أهل التأويل فيمن خوطب بقوله {وأنْتُمْ تَشْهَدُونَ}.
فقال بعضهم: ذلك خطاب من الله تعالى ذكره لليهود الذين كانوا بين ظهرانَيْ مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام هجرته إليه مؤنبا لهم على تضييع أحكام ما في أيديهم من التوراة التي كانوا يقرّون بحكمها، فقال الله تعالى لهم: "ثُمّ أقْرَرْتُمْ "يعني بذلك إقرار أوائلكم وسلفكم. "وأنْتُمُ تَشْهَدُونَ "على إقراركم بأخذ الميثاق عليهم، بأن لا يسفكوا دماءهم، ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم، ويصدقون بأن ذلك حقّ من ميثاقي عليهم.
وقال آخرون: بل ذلك خبر من الله جل ثناؤه عن أوائلهم، ولكنه تعالى ذكره أخرج الخبر بذلك عنهم مخرج المخاطبة على النحو الذي وصفنا في سائر الآيات التي هي نظائرها التي قد بينا تأويلها فيما مضى. وتأولوا قوله "وأنْتُمْ تَشْهَدُونَ" على معنى: وأنتم شهود...
وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب عندي أن يكون قوله: {وأنْتُمْ تَشْهَدُونَ} خبرا عن أسلافهم، وداخلاً فيه المخاطبون منهم الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما كان قوله: {وَإذْ أخَذْنا ميثاقَكُمْ} خبرا عن أسلافهم وإن كان خطابا للذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن الله تعالى أخذ ميثاق الذين كانوا على عهد رسول الله موسى صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل على سبيل ما قد بينه لنا في كتابه، فألزم جميع من بعدهم من ذريتهم من حكم التوراة مثل الذي ألزم منه من كان على عهد موسى منهم. ثم أنّب الذين خاطبهم بهذه الآيات على نقضهم ونقض سلفهم ذلك الميثاق، وتكذيبهم ما وكدوا على أنفسهم له بالوفاء من العهود، بقوله: {ثُمّ أقْرَرْتُمْ وأنْتُمْ تَشْهَدُونَ}، فإنْ كان خارجا على وجه الخطاب للذين كانوا على عهد نبينا صلى الله عليه وسلم منهم، فإنه معنيّ به كل من واثق بالميثاق منهم على عهد موسى ومن بعده، وكل من شهد منهم بتصديق ما في التوراة لأن الله جل ثناؤه لم يخصص بقوله: {ثُمّ أقْرَرْتُمْ وأنْتُمْ تَشْهَدُونَ} وما أشبه ذلك من الآي بعضهم دون بعض والآية محتملة أن يكون أريد بها جميعهم. فإنْ كان ذلك كذلك، فليس لأحد أن يدعي أنه أريد بها بعض منهم دون بعض. وكذلك حكم الآية التي بعدها، أعني قوله: {ثُمّ أنْتُمُ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أنْفُسَكُمْ} الآية، لأنه قد ذكر لنا أن أوائلهم قد كانوا يفعلون من ذلك ما كان يفعله أواخرهم الذين أدركوا عصر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وذكر نقض العهد في هؤلاء، وإن كان في أوائلهم، بوجهين: أحدهما: لما رضي هؤلاء بفعل آبائهم. والثاني بقولهم: {إنا وجدنا آباءنا على أمة [وإنا على آثارهم مهتدون} و {مقتدون} [الزخرف: 22 و 23].
وقوله: {ولا تخرجون أنفسكم من دياركم} يحتمل أيضا وجهين:
يحتمل ولا يخرج بعضكم بعضا، ويحتمل لا تخرجوا غيركم من دياركم فتخرجوا من دياركم.
وقوله: {ثم أقررتم وأنتم تشهدون} يحتمل: ثم أقررتم، وأنتم معرضون بالعهد والميثاق، وتشهدون أنه في التوراة.
وهذا الذي أخبر الله به من حكم شريعة التوراة مما كان يكتمه اليهود لما عليهم في ذلك من الوكس ويلزمهم في ذلك من الذمّ، فأطْلَع الله نبيَّهُ عليه وجعله دلالة وحجة عليهم في جحْدِهم نبوته، إذ لم يكن عليه السلام ممن قرأ الكتب ولا عرف ما فيها إلا بإعلام الله تعالى إياه. وكذلك جميع ما حكى الله بعد هذه الآيات عنهم من قوله: {وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا} وسائر ما ذمّهم هو توْقِيفٌ منه له على ما كانوا يكتمون وتقريعٌ لهم على ظلمهم وكفرهم وإظهار قبائحهم، وجميعه دلالة على نبوته عليه السلام.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
أما النفس فمأخوذة من النفاسة، وهي الجلالة، فنفس الإنسان أنفس ما فيه، وأما الديار فالمنزل، الذي فيه أبنية المقام، بخلاف منزل الارتحال، وقال الخليل: كل موضع حَلَّهُ قوم، فهو دار لهم، وإن لم يكن فيه أبنية.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وقال بعض المفسرين: نزلت هذه الآية في بني قريظة والنضير. يقول: حرم الله في الكتاب أن تسفكوا دماءكم، أي لا تقتتلوا فيقتل بعضكم بعضا، ولا تتركوا أسيرا في يد الآسرين ليقتلوه. {ولا تخرجوا أنفسكم من دياركم} معناه لا تغلبوا أحدا على داره، فتخرجوه، فقبلتم ذلك وأقررتم به. وهو أخذ الميثاق {وأنتم تشهدون} بذلك.
وقيل أيضا: إن معنى قوله: {ثم أقررتم وأنتم تشهدون} إن إقرارهم هو الرضاء به والصبر عليه.
اعلم أن هذه الآية تدل على نوع آخر من نعم الله عليهم وهو أنه تعالى كلفهم هذا التكليف وأنهم أقروا بصحته ثم خالفوا العهد فيه...
أما قوله تعالى: {ولا تخرجون أنفسكم} ففيه وجهان، [أحدهما أن] لا تفعلوا ما تستحقون بسببه أن تخرجوا من دياركم...
أما قوله تعالى: {ثم أقررتم وأنتم تشهدون} ففيه وجوه، أحدها: وهو الأقوى، أي: ثم أقررتم بالميثاق واعترفتم على أنفسكم بلزومه، وأنتم تشهدون عليها.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
يقول، تبارك وتعالى، منكرًا على اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وما كانوا يعانونه من القتال مع الأوس والخزرج، وذلك أن الأوس والخزرج، وهم الأنصار، كانوا في الجاهلية عُبَّاد أصنام، وكانت بينهم حروب كثيرة، وكانت يهود المدينة ثلاثَ قبائل: بنو قينقاع. وبنو النضير حلفاء الخزرج. وبنو قريظة حلفاء الأوس. فكانت الحرب إذا نشبت بينهم قاتل كل فريق مع حلفائه، فيقتل اليهودي أعداءه، وقد يقتل اليهوديّ الآخرُ من الفريق الآخر، وذلك حرام عليهم في دينه ونص كتابه، ويخرجونهم من بيوتهم وينهبون ما فيها من الأثاث والأمتعة والأموال، ثم إذا وضعت الحرب أوزارها استفكّوا الأسارى من الفريق المغلوب، عملا بحكم التوراة؛ ولهذا قال تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} ولهذا قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} أي: لا يقتل بعضكم بعضًا، ولا يخرجه من منزله، ولا يظاهر عليه، كما قال تعالى: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} [البقرة: 54].
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان أكبر الكبائر بعد الشرك القتل، تلاه بالتذكير بما أخذ عليهم فيه من العهد، وقرن به الإخراج من الديار لأن المال عديل الروح والمنزل أعظم المال وهو للجسد كالجسد للروح فقال: {وإذ أخذنا ميثاقكم} [الآية...
ولما كانوا قد نكصوا عند حقوقِ الأمر فلم يقبلوا ما أتاهم من الخير حتى خافوا الدمار بسقوط الطور عليهم أشار إلى ذلك بقوله:
{ثم أقررتم} أي بذلك كله بعد ليّ وتوقف، والإقرار إظهار الالتزام بما خفي أمره -قاله الحرالي: {وأنتم تشهدون} بلزومه وتعاينون تلك الآيات الكبار الملجئة لكم إلى ذلك.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
كان التذكير في الآية السابقة بأهم المأمورات التي أخذ الله تعالى الميثاق على بني إسرائيل بها بعد توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة وبيان أنهم نقضوا ميثاق الله تعالى ولم يأتمروا بها، وفي هاتين الآيتين التذكير بأهم المنهيات التي أخذ لله تعالى الميثاق عليهم باجتنابها، وبيان أنهم نقضوا ميثاقه ولم ينتهوا عنها، وقد قال هناك {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل} أي الذين نزلت عليهم التوراة، ثم التفت إلى خطاب الحاضرين في زمن التنزيل فقال {ثم توليتم} وقال هنا {وإذ أخذنا ميثاقكم} تماديا في سياق الالتفات وتذكيرا بوحدة الأمة واعتبارها كالشخص الواحد يصيب الخلف أثر ما كان عليه السلف من خير وشر ما استنوا بسنتهم. وجروا على طريقتهم، كما تؤثر أعمال الشخص السابقة في قواه النفسية، وطبع ملكاته بعد انحلال مادة تلك الأعضاء التي ابتدأت العمل وحلول مواد أخرى في محلها تتمرن على مثل ذلك العمل، فما يفعله الشخص في صغره، يبقى أثره في قواه في كبره، فكذلك الأمم.
وقد أورد النهي عن سفك بعضهم دم بعض وإخراج بعضهم بعضا من ديارهم وأوطانهم بعبارة تؤكد معنى وحدة الأمة، وتحدث في النفس أثرا شريفا يبعثها على الامتثال إن كان هناك قلب يشعر، ووجدان يتأثر، فقال {لا تسفكون دماءكم} فجعل دم كل فرد من أفراد الأمة كأنه دم الآخر عينه حتى إذا سفكه كان كأنه بخع نفسه وانتحر بيده. وقال {ولا تخرجون أنفسكم من دياركم} على هذا النسق. وهذا التعبير المعجز ببلاغته خاص بالقرآن. فهذه الأحكام لا تزال محفوظة عند الإسرائيليين في الكتاب وإن لم يجروا عليها في العمل، ولكن العبارة عنها عندهم لا تطاول هذه العبارة التي تدهش صاحب الذوق السليم، والوجدان الرقيق: فهذا إرشاد حكيم طلع من ثنايا الأحكام يهدي إلى أسرارها، ويومئ إلى مشرق أنوارها، من تدبره علم أنه لا قوام للأمم، إلا بالتحقق بما تضمنته هذه الحكم، وشعور كل فرد من أفرادها بأن نفسه نفس الآخرين ودمه دمهم. لا فرق في الاحترام بين الروح التي تجول في بدنه والدم الذي يجري في عروقه وبين الأرواح والدماء التي يحيا بها إخوانه الذين وحدت بينه وبينهم الشريعة العادلة والمصالح العامة، هذا هو الوجه الوجيه في الآية، وقيل: معناها لا ترتكبوا من الجرائم ما تجازون عليه بالقتل والإحراج من الديار. ويقال في قوله {لا تسفكون} كما قيل قبله في قوله {لا تعبدون إلا الله} من تضمن صيغة الخبر للتأكيد.
وقوله تعالى {ثم أقررتم وأنتم تشهدون} فيه وجهان (أحدهما) أنه يخاطبهم بما كان من اعتراف سلفهم بالميثاق وقبوله وشهودهم الوحي الذي نزل به على موسى عليه الصلاة والسلام. و (ثانيهما) أن المراد الحاضرون أنفسهم، أي أنكم أيها المخاطبون بالقرآن قد أقررتم بهذا الميثاق وتعتقدونه في قلوبكم، ولا تنكرونه بألسنتكم، بل تشهدون به وتعلنونه، فالحجة ناهضة عليكم به.
القرآن يريد أن يقول لهم إنكم غيرتم وبدلتم فيما تعرفون...
فالذي جاء على هواكم طبقتموه... والذي لم يأت على هواكم لم تطبقوه.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
حقّ الإنسان في الحياة والحرية:
وأخذ اللّه عليهم الميثاق باحترام النفس، فلا يعتدى عليها بالقتل، واحترام حرية الإنسان في بقائه في داره، فلا يخرج منها قهراً بدون حقّ...
أمّا السرّ في التركيز على هذين الجانبين، فلأنهما يمثّلان في الظنّ الغالب العنصرين الأساسيين من عناصر الحريات الإنسانية، وهما عنصر حرية الحياة في امتدادها إلى ما يشاء اللّه من دون اعتداء، وحرية بقاء الإنسان في أرضه وداره، لأنَّ الحريات الأخرى متفرعة عنهما كما يظهر بالتأمّل.
[و] لقد أخذ اللّه عليهم الميثاق بالالتزام بهاتين الحرّيتين فيما بينهم، فماذا كانت النتيجة؟ إنها تماماً كالنتيجة في الميثاق الأول، فلقد انطبعت حياتهم بالعدوان على النفس، وبدأت سياسة الغلبة والقوّة تتحكم بهم، فضيَّقوا على حرية الضعفاء الذين لا يخضعون لطغيانهم وبغيهم، فأخرجوهم من ديارهم بالإثم والعدوان. وهنا تأتي المفارقة التي تمثّل ازدواجية المواقف إزاء علاقاتهم العامة، فهم في الوقت الذي يستبيحون قتلهم وإخراجهم من ديارهم، نراهم في موقف آخر يمارسون سلوكاً يوحي باحترام الإنسان، وذلك عندما يقع هؤلاء الضعفاء أسرى في يد أعدائهم، فإنهم يعملون على دفع الفداء عنهم لينقذوهم من الأسر. إنها مفارقة تلفت النظر؛ فإذا كانوا يؤمنون باحترام الإنسان في نفسه وأرضه، فما معنى السلوك الأول؟ وإذا كانوا لا يؤمنون بذلك، فما معنى السلوك الثاني؟ إنه السلوك الذي لا يرتكز على قاعدةٍ فكرية ثابتة، بل يخضع للعوامل الطارئة من العصبية والحميَّة وغيرهما من حالات الانفعال الإنساني في العلاقات العامة، ولهذا ينطلق القرآن ليشجب هذا الواقع، كما في قوله تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}، فإنَّ الالتزام بالكتاب يفرض الالتزام بمفاهيمه ومواقفه وتشريعاته، باعتباره القاعدة الأساسية للتفكير والموقف والعمل. هذا بالإضافة إلى أنَّ الأخذ ببعض الكتاب والكفر ببعض آخر، يشوّه الصورة الحقيقية للفكرة، وذلك كما يفعله بعض الحكام الذين يأخذون بقوانين العقوبات في الإسلام كالحدود، فيجلدون شارب الخمر، ويقطعون يد السارق، ولكنَّهم لا يأخذون بالتشريعات الإسلامية في العدالة الاجتماعية، والنظام الأخلاقي، والتخطيط الاقتصادي، بحيث لا ينطلق السارق من حاجةٍ اقتصاديةٍ ضاغطة بل من عقدةٍ ذاتية مستعصية، الأمر الذي يعطي الصورة المشوّهة القاسية عن الإسلام من خلال الواقع الضاغط أمام التشريع الصعب.
وربما كانت المسألة تمثّل الازدواجية بين العقدة الذاتية المتحكمة في علاقات بعضهم ببعض، في خلافاتهم العميقة الشديدة التي يمثّلها قوله تعالى: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر: 14] وبين الهيكلية الاجتماعية في موقفهم الموحد أمام الآخر الذي يهدّد وجودهم فينتصرون لبعضهم البعض في مواجهته.
جواهر التفسير للخليلي 2001 هـ :
ما مضى كان بيانا للميثاق الذي أخذه الله على بني إسرائيل في الواجبات العملية سواء ما كان منها حقا لله تعالى وحده أو حقا للعباد، وما هنا بيان للميثاق الذي أخذه عليهم في الواجبات التركية، وقد اختلف أسلوب البيانين، فأسلوب أولهما غيبي، وأسلوب آخرهما خطابي للتفنن وتعميم الفائدة والعبرة فيما مضى لاشتراك الأمم في تلك التكاليف، وقد مهد للعود إلى الأسلوب الخطابي المعهود في الآيات السوابق عند قصد بيان هتكهم الواجبات التركية بما اختتمت به الآية السابقة من الالتفات إليهم بقوله: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ}، ومن فائدة هذا الانتقال بعث الشعور بالخطأ في نفوس المعاصرين منهم لنزول القرآن لأنهم المقصودون بالموعظة، وهم أجدر بالاعتبار بأحوال سالفيهم.