{ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا } وهم الذين هاجروا في سبيل اللّه ، وجاهدوا أعداءهم ، وبذلوا مجهودهم في اتباع مرضاته ، { لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } أي : الطرق الموصلة إلينا ، وذلك لأنهم محسنون .
{ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } بالعون والنصر والهداية . دل هذا ، على أن أحرى الناس بموافقة الصواب أهل الجهاد ، وعلى أن من أحسن فيما أمر به أعانه اللّه ويسر له أسباب الهداية ، وعلى أن من جد واجتهد في طلب العلم الشرعي ، فإنه يحصل له من الهداية والمعونة على تحصيل مطلوبه أمور إلهية ، خارجة عن مدرك اجتهاده ، وتيسر له أمر العلم ، فإن طلب العلم الشرعي من الجهاد في سبيل اللّه ، بل هو أحد نَوْعَي الجهاد ، الذي لا يقوم به إلا خواص الخلق ، وهو الجهاد بالقول واللسان ، للكفار والمنافقين ، والجهاد على تعليم أمور الدين ، وعلى رد نزاع المخالفين للحق ، ولو كانوا من المسلمين .
ثم قال { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا } يعني : الرسول ، صلوات الله وسلامه عليه ، وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين { لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } ، أي : لنُبَصرنهم سبلنا ، أي : طرقنا في الدنيا والآخرة .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن أبي الحَواري ، حدثنا عباس الهمداني أبو أحمد - من أهل عكا - في قول الله{[22695]} : { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } قال : الذين يعملون بما يعلمون ، يهديهم لما لا يعلمون . قال أحمد بن أبي الحواري : فحدثت به أبا سليمان الداراني فأعجبه ، وقال : ليس ينبغي لِمَنْ ألهم شيئا من الخير أن يعمل به حتى يسمعه في الأثر ، فإذا سمعه في الأثر عمل به ، وحمد الله حين وافق ما في نفسه{[22696]} .
وقوله : { وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } ، قال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبي ، حدثنا عيسى بن جعفر - قاضي الري - حدثنا أبو جعفر الرازي ، عن المغيرة ، عن{[22697]} الشعبي قال : قال عيسى بن مريم ، عليه السلام : إنما الإحسان أن تحسن إلى مَنْ أساء إليك ، ليس{[22698]} الإحسان أن تحسن إلى مَنْ أحسن إليك . [ وفي حديث جبريل لما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإحسان قال : " أخبرني عن الإحسان " . قال : " أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " .
[ انتهى تفسير سورة العنكبوت ، ولله الحمد والمنة{[22699]}-{[22700]} ]
{ والذين جاهدوا فينا } في حقنا وإطلاق المجاهدة ليعم جهاد الأعادي الظاهرة والباطنة بأنواعه . { لنهدينهم سبلنا } سبل السير إلينا والوصول إلى جنابنا ، أو لنزيدنهم هداية إلى سبيل الخير وتوفيقا لسلوكها كقوله تعالى : { والذين اهتدوا زادهم هدى } وفي الحديث " من عمل بما عمل ورثه الله علم ما لم يعلم " . { وإن الله لمع المحسنين } بالنصر والإعانة .
خُتم توبيخ المشركين وذمُّهم بالتنويه بالمؤمنين إظهاراً لمزيد العناية بهم فلا يخلو مقام ذم أعدائهم عن الثناء عليهم ، لأن ذلك يزيد الأعداء غيظاً وتحقيراً . و { الذين جاهدوا } في الله هم المؤمنون الأولون فالموصول بمنزلة المعرّف بلام العهد . وهذا الجهاد هو الصبر على الفتن والأذى ومدافعة كيد العدو وهو المتقدم في قوله أول السورة [ العنكبوت : 6 ] { ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه } إذ لم يكن يومئذ جهاد القتال كما علمت من قبل . وجيء بالموصول للإِيماء إلى أن الصلة سبب الخبر . ومعنى { جاهدوا فينا } جاهدوا في مرضاتنا ، والدِّين الذي اخترناه لهم . والظرفية مجازية ، يقال : هي ظرفية تعليل تفيد مبالغة في التعليل .
والهداية : الإرشاد والتوفيق بالتيسير القلبي والإرشاد الشرعي ، أي لنزيدنهم هُدى . وسُبُل الله : الأعمال الموصلة إلى رضاه وثوابه ، شبهت بالطرق الموصلة إلى منزل الكريم المكرم للضيف .
والمراد ب { المحسنين } جميع الذين كانوا محسنين ، أي كان عمل الحسنات شعارهم وهو عامّ . وفيه تنويه بالمؤمنين بأنهم في عداد من مضى من الأنبياء والصالحين . وهذا أوقع في إثبات الفوز لهم مما لو قيل : فأولئك المحسنون لأن في التمثيل بالأمور المقررة المشهورة تقريراً للمعاني ولذلك جاء في تعليم الصلاة على النبيء صلى الله عليه وسلم قوله : « كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم » . والمعية : هنا مجاز في العناية والاهتمام بهم . والجملة في معنى التذييل بما فيها من معنى العموم . وإنما جيء بها معطوفة للدلالة على أن المهم من سَوقها هو ما تضمنته من أحوال المؤمنين ، فعطفت على حالتهم الأخرى وأفادت التذييل بعموم حكمها .
وفي قوله { لنهدينهم سبلنا } إيماء إلى تيسير طريق الهجرة التي كانوا يتأهبون لها أيام نزول هذه السورة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{والذين جاهدوا فينا} يعني عملوا بالخير لله عز وجل، مثلها في آخر الحج، {لنهدينهم سبلنا} يعني ديننا {وإن الله لمع المحسنين}، لهم في العون لهم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: والذين قاتلوا هؤلاء المفترين على الله كذبا من كفار قريش، المكذّبين بالحقّ لما جاءهم "فينا": مُبتغين بقتالهم علوّ كلمتنا، ونُصرة ديننا، "لَنَهْدِيَنّهُمْ سُبُلَنا "يقول: لنوفقنهم لإصابة الطريق المستقيمة، وذلك إصابة دين الله الذي هو الإسلام الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم. "وَإنّ اللّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ" يقول: وإن الله لمع من أحسن من خلقه، فجاهد فيه أهل الشرك، مُصَدّقا رسوله فيما جاء به من عند الله بالعون له، والنصرة على من جاهد من أعدائه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} يشبه أن يكون هذا صلة قوله: {وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب} [الآية: 64] أي ليس من أجهد نفسه في طلب الدنيا والعمل لها إلا لاهيا ولاعبا، وأما من أجهد نفسه لله، وطلب مرضاته، فهو حق، وله دار الحياة التي لا موت فيها ولا انقطاع.
ويشبه أن يكون على الابتداء لا على الصلة بالأول، يقول: والذين جاهدوا أنفسهم في هواها وشهواتها وأمانيها حقيقة ابتغاء مرضاة الله وطلب الهداية والدين وسبيله {لنهدينهم سبلنا}.
ذكر السبيل ههنا لما سبق ذكر الجماعة؛ يقول: والذين جاهدوا في الله {لنهدينهم سبلنا} أي لنهدين كلا سبيلا، فيكون سبيلا للكل، وأما قوله: {ولا تتبعوا السبل} [الأنعام: 153] فإن السبل على الإطلاق على [غير] تقدم ذكر من الهدى أو شيء من الإضافة إلى الله، فهي سبيل الشيطان، والله أعلم.
{وإن الله لمع المحسنين} في التوفيق لهم في الإحسان والأعمال الصالحة، أو مع المحسنين في النصر لهم والمعونة لهم على أعدائهم، أو مع المحسنين يحفظهم، ويتولاهم. ثم لم يفهم أحد من الخلق من قوله: {لمع المحسنين} وقوله: {مع المتقين} [البقرة: 194] ما يفهم من الخلق وذوي الأجسام والجُثَّاتِ. كيف فهم بعض الناس من قوله: {ثم استوى على العرش} [الأعراف: 54و...] [وقوله]: {وجاء ربك} [الفجر: 22] وقوله: {أن يأتيهم الله في} [البقرة: 210] كذا ما يفهم من استواء الخلق ومجيئهم وإتيانهم؟ فليعلم أن فهم ذلك ما يفهم من الخلق بعيد محال، وبالله العصمة، والله أعلم...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
(والذين جاهدوا فينا)... تحقيق الإخلاص في الأعمال، وهو حقيقة قوله تعالى: (فينا).
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
المجاهدة: جعلها الله سبحانه مقدمة للهداية حيث قال تعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا}، من أراد أن يكون من سالكي طريق الآخرة، وساعده التوفيق حتى اشتغل بالعمل ولازم التقوى ونهى النفس عن الهوى، واشتغل بالرياضة والمجاهدة، انفتحت له أبواب من الهداية تكشف عن حقائق هذه العقيدة بنور إلهي يقذف في قلبه بسبب المجاهدة، تحقيقا لوعده عز وجل إذ قال: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين} وهو الجوهر النفيس الذي هو غاية إيمان الصديقين والمقربين، وإليه الإشارة بالسر الذي وقر في صدر أبي بكر الصديق رضي الله عنه، حيث فضل به الخلق، وانكشاف ذلك السر، بل تلك الأسرار، له درجات بحسب درجات المجاهدة ودرجات الباطن في النظافة والطهارة عما سوى الله تعالى وفي الاستضاءة بنور اليقين، وذلك كتفاوت الخلق في أسرار الطب والفقه وسائر العلوم، إذ يختلف ذلك باختلاف الاجتهاد واختلاف الفطرة في الذكاء والفطنة، وكما لا تنحصر تلك الدرجات فكذلك هذه. (نفسه: 1/113)
{والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} فالمجاهدة: أعمال الجوارح، والهداية أعمال القلوب، وقد جعل إحداهما مرقاة إلى الأخرى، فعلم أنها مرآة لها، وأن تلك هي المراد لعينها. (مدخل السلوك إلى منازل الملوك: 34)...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
أطلق المجاهدة ولم يقيدها بمفعول. ليتناول كل ما يجب مجاهدته من النفس الأمّارة بالسوء والشيطان وأعداء الدين.
{فِينَا} في حقنا ومن أجلنا ولوجهنا خالصاً {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} لنزيدنهم هداية إلى سبل الخير وتوفيقاً، كقوله تعالى: {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى} [محمد: 17].
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم ذكر تعالى حال أوليائه والمجاهدين فيه، وقرر ذلك بذكر الكفرة والظلمة ليبين تباين الحالتين، وقوله {فينا}، معناه في مرضاتنا وبغية ثوابنا. قال السدي وغيره: نزلت هذه الآية قبل فرض القتال.
فهي قبل الجهاد العرفي وإنما هو جهاد عام في دين الله وطلب مرضاته،... وقال أبو سليمان الداراني: ليس الجهاد في هذه الآية قتال العدو فقط بل هو نصر الدين والرد على المبطلين وقمع الظالمين، وعظمه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنه مجاهدة النفوس في طاعة الله عز وجل...
و «السبل» ها هنا يحتمل أن تكون طرق الجنة ومسالكها، ويحتمل أن تكون سبل الأعمال المؤدية إلى الجنة والعقائد النيرة...
لما فرغ من التقرير والتقريع ولم يؤمن الكفار سلى قلوب المؤمنين بقوله: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} أي من جاهد بالطاعة هداه سبل الجنة {وإن الله لمع المحسنين} إشارة إلى ما قال: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} فقوله: {لنهدينهم} إشارة إلى الحسنى وقوله: {وإن الله لمع المحسنين} إشارة إلى المعية والقربة التي تكون للمحسن زيادة على حسناته، وفيه وجه آخر حكمي وهو أن يكون المعنى {والذين جاهدوا فينا} أي الذين نظروا في دلائلنا {لنهدينهم سبلنا} أي لنحصل فيهم العلم بنا.
وقوله: {وإن الله لمع المحسنين} إشارة إلى درجة أعلى من الاستدلال كأنه تعالى قال من الناس من يكون بعيدا لا يتقرب وهم الكفار، ومنهم من يتقرب بالنظر والسلوك فيهديهم ويقربهم ومنهم من يكون الله معه ويكون قريبا منه يعلم الأشياء منه ولا يعلمه من الأشياء، ومن يكون مع الشيء كيف يطلبه فقوله: {ومن أظلم} إشارة إلى الأول وقوله: {والذين جاهدوا فينا} إشارة إلى الثاني وقوله: {وإن الله لمع المحسنين} إشارة إلى الثالث...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}، أي: لنُبَصرنهم سبلنا، أي: طرقنا في الدنيا والآخرة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان هذا كله في الذين فتنوا فلم يجاهدوا أنفسهم، كان المعنى: فالذين فتناهم فوجدوا كاذبين ضلوا فصاروا لا يعقلون ولا يعلمون، لكونهم لم يكونوا من المجاهدين، فعطف عليه قوله: {والذين جاهدوا} أي أوقعوا الجهاد بغاية جهدهم على ما دل عليه بالمفاعلة {فينا} أي بسبب حقنا ومراقبتنا خاصة بلزوم الطاعات من جهاد الكفار وغيرهم من كل ما ينبغي الجهاد فيه بالقول والفعل في الشدة والرخاء، ومخالفة الهوى عند هجوم الفتن، وشدائد المحن، مستحضرين لعظمتنا. ولما كان الكفار ينكرون فلاحهم وكان المفلح والظافر في كل شيء هو المهتدي، قال معبراً بالسبب عن المسبب: {لنهدينهم} بما نجعل لهم من النور الذي لا يضل من صحبه، هداية يليق بعظمتنا {سبلنا} أي لا سبل غيرها، علماً وعملاً، ونكون معهم بلطفنا ومعونتنا، لأنهم أحسنوا المجاهدة فهنيئاً لمن قاتل في سبيل الله ولو فواق ناقة لهذه الآية وقوله تعالى (والذين قاتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم سيهديهم ويصلح بالهم} [محمد: 4]، ولهذا كان سفيان بن عيينة يقول: إذا اختلف الناس فانظروا ما عليه أهل الغزو.
ولما كان المحسن كلما توفر حظه في مقام الإحسان نقص حظه من الدنيا، فظن الأغبياء أنه ليس لله به عناية، عظم التأكيد في قوله، لافتاً الكلام عن أسلوب الجلال إلى أجلّ عنه بما زاد من الجمال {وإن الله} أي بعظمته وجلاله وكبريائه وجميع كماله لمعهم -هكذا كان الأصل، ولكنه أراد الإعلام بإحسانهم وتعليق الحكم بالوصف والتعميم فأظهر قائلاً: {لمع المحسنين} أي كلهم بالنصر والمعونة في دنياهم، والثواب والمغفرة في عقباهم، بسبب جهادهم لأنه شكر يقتضي الزيادة، ومن كان معه سبحانه فاز بكل مطلوب، وإن رأى الجاهل خلاف ذلك، فإنه يجعل عزهم من وراء ذل ويستر غناهم بساتر فقر، حماية لهم مما يجر إليه دائم العز من الكبر، ويحمل عليه عظيم الغنى من الطغيان، وما أحسن ما نقل الأستاذ أبو القاسم القشيري في الرسالة عن الحارث المحاسبي أنه قال: من صحح باطنه بالمراقبة والإخلاص زين الله ظاهره بالمجاهدة واتباع السنة، والآية من الاحتباك: أثبت أولاً الجهاد دليلاً على حذفه ثانياً، وثانياً أنه مع المحسنين دليلاً على حذف المعية والإحسان أولاً، فقد عانق أول السورة هذا الآخر، وكان إليه أعظم ناظر، فنسأل الله العافية من الفتن، والمجاهدة إن كان لا بد من المحن، وإليه المآب...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
دل هذا، على أن أحرى الناس بموافقة الصواب أهل الجهاد، وعلى أن من أحسن فيما أمر به أعانه اللّه ويسر له أسباب الهداية، وعلى أن من جد واجتهد في طلب العلم الشرعي، فإنه يحصل له من الهداية والمعونة على تحصيل مطلوبه أمور إلهية، خارجة عن مدرك اجتهاده، وتيسر له أمر العلم، فإن طلب العلم الشرعي من الجهاد في سبيل اللّه، بل هو أحد نَوْعَي الجهاد، الذي لا يقوم به إلا خواص الخلق، وهو الجهاد بالقول واللسان، للكفار والمنافقين، والجهاد على تعليم أمور الدين، وعلى رد نزاع المخالفين للحق، ولو كانوا من المسلمين...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويختم السورة بصورة الفريق الآخر. الذين جاهدوا في الله ليصلوا إليه؛ ويتصلوا به. الذين احتملوا في الطريق إليه ما احتملوا فلم ينكصوا ولم ييأسوا. الذين صبروا على فتنة النفس وعلى فتنة الناس. الذين حملوا أعباءهم وساروا في ذلك الطريق الطويل الشاق الغريب.. أولئك لن يتركهم الله وحدهم ولن يضيع إيمانهم، ولن ينسى جهادهم. إنه سينظر إليهم من عليائه فيرضاهم. وسينظر إلى جهادهم إليه فيهديهم. وسينظر إلى محاولتهم الوصول فيأخذ بأيديهم. وسينظر إلى صبرهم وإحسانهم فيجازيهم خير الجزاء: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا. وإن الله لمع المحسنين)...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
خُتم توبيخ المشركين وذمُّهم بالتنويه بالمؤمنين إظهاراً لمزيد العناية بهم فلا يخلو مقام ذم أعدائهم عن الثناء عليهم، لأن ذلك يزيد الأعداء غيظاً وتحقيراً.
و {الذين جاهدوا} في الله هم المؤمنون الأولون فالموصول بمنزلة المعرّف بلام العهد. وهذا الجهاد هو الصبر على الفتن والأذى ومدافعة كيد العدو وهو المتقدم في قوله أول السورة [العنكبوت: 6] {ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه} إذ لم يكن يومئذ جهاد القتال كما علمت من قبل. وجيء بالموصول للإِيماء إلى أن الصلة سبب الخبر.
ومعنى {جاهدوا فينا} جاهدوا في مرضاتنا، والدِّين الذي اخترناه لهم. والظرفية مجازية، يقال: هي ظرفية تعليل تفيد مبالغة في التعليل. والهداية: الإرشاد والتوفيق بالتيسير القلبي والإرشاد الشرعي، أي لنزيدنهم هُدى. وسُبُل الله: الأعمال الموصلة إلى رضاه وثوابه، شبهت بالطرق الموصلة إلى منزل الكريم المكرم للضيف. والمراد ب {المحسنين} جميع الذين كانوا محسنين، أي كان عمل الحسنات شعارهم وهو عامّ. وفيه تنويه بالمؤمنين بأنهم في عداد من مضى من الأنبياء والصالحين.
وهذا أوقع في إثبات الفوز لهم مما لو قيل: فأولئك المحسنون لأن في التمثيل بالأمور المقررة المشهورة تقريراً للمعاني ولذلك جاء في تعليم الصلاة على النبيء صلى الله عليه وسلم قوله: « كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم». والمعية: هنا مجاز في العناية والاهتمام بهم. والجملة في معنى التذييل بما فيها من معنى العموم. وإنما جيء بها معطوفة للدلالة على أن المهم من سَوقها هو ما تضمنته من أحوال المؤمنين، فعطفت على حالتهم الأخرى وأفادت التذييل بعموم حكمها. وفي قوله {لنهدينهم سبلنا} إيماء إلى تيسير طريق الهجرة التي كانوا يتأهبون لها أيام نزول هذه السورة...
أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن للشنقيطي 1393 هـ :
ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أن الذين جاهدوا فيه، أنه يهديهم إلى سبل الخير والرشاد، وأقسم على ذلك بدليل اللام في قوله: {لَنَهْدِيَنَّهُمْ}.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
الأولى: ـالجهاد والإخلاص: يستفاد من الآية المتقدمة بصورة جيدة أنّنا إذا أصبنا بأي نوع من الهزيمة عدم الموفقية، فسبب ذلك وعلته أحد أمرين: إمّا أنا قصّرنا في جهادنا، أو لم يكن لدينا إخلاص في العمل، وإذا اجتمع الجهاد والإخلاص ـ فبناء على وعد الله ـ فإن النصر والهداية حتميّان. ولو فكّرنا جيداً لاستطعنا أن نعزو جميع المشاكل والمصائب في المجتمع الإسلامي إلى التقاعد عن الجهاد وعدم الإخلاص، فهما مصدرها. فلم تأخر المسلمون، الذين كانوا متقدمين بالأمس!؟ ولم يمدون يد الحاجة إلى الأجانب في كل شيء، حتى في الثقافة والقوانين، وحتى نظمهم الخاصة. ولم يعتمدون على غيرهم من أجل حفظ أنفسهم من التيارات السياسية والهجومات العسكرية. لم كان الآخرون جالسين يوماً على مائدة المسلمين التي كان خوانها مبسوطاً بالعلم والثقافة والمعرفة، واليوم أصبح المسلمون جالسين على مائدة الآخرين؟!! وأخيراً، لم نرى المسلمين أسرى في قبضة الآخرين، وأراضيهم مغصوبة من قبل الظالمين؟ الإجابة على جميع هذه الأسئلة منحصرة في سبب واحد، هو «نسيانهم الجهاد» أو «عدم الخلوص في النية». أجل، لقد أهملوا الجهاد في الميادين العلمية والثقافية والسياسية والاقتصادية والعسكرية، وتغلّب عليهم حب النفس وعشق الدنيا وطلب الراحة والنظرة الضيقة والأغراض الشخصيّة، حتى أصبح قتلاهم على أيديهم أكثر من قتلاهم على أيدي أعدائهم!.
إنّ استغراب بعض المسلمين الذين انبهروا بحضارة الغرب الرأسمالي أو الشرق الاشتراكي، وعمالة بعض الرؤساء والزعماء، ويأس وانزواء العلماء والمفكرين كل ذلك سلبهم التوفيق إلى الجهاد، وكذلك حرمهم من الإخلاص. ومتى ما ظهر قليل من الإخلاص بين صفوفنا، وتحرك مجاهدونا حركة ذاتية، فإن النصر يكون حليفنا واحداً بعد الآخر... وتتقطع غلال الأسر... ويتبدل اليأس إلى أمل مشرق، وسوء الخط إلى حسن الحظ، والذلة إلى العزة ورفعة الرأس، كما تتبدل الفرقة والشتات إلى الوحدة والانسجام. وما أعظم ما قاله القرآن! وما أبلغ إلهامه! إذ جمع في جملة واحدة الداء والدواء معاً. أجل إن الذين يجاهدون في سبيل الله تشملهم هدايته، ومن البديهي أنّه مع هداية الله، فلا ضلال ولا خسران، ولا انهزام.
والناس ثلاثة أصناف: فصنف لجوج معاند لا تنفعه أية هداية. وصنفٌ مجد دؤوب مخلص، وهذا الصنف يصل إلى الحق. وصنفٌ ثالث أعلى من الصنف الثاني، فهذا الصنف ليس بعيداً حتى يقترب من الحق، ولا منفصلا عنه حتى يتصل به، لأنّه معه أبداً. فالآية المتقدمة (ومن أظلم ممن افترى) إشارة إلى الصنف الأوّل. وجملة (والذين جاهدوا فينا) إشارة إلى الصنف الثّاني. وجملة (إن الله لمع المحسنين) إشارة إلى الصنف الثّالث. ويستفاد ـ ضمناً ـ من هذا التعبير أن مقام «المحسنين» أسمى من مقام «المجاهدين»، لأنّ المحسنين إضافة إلى جهادهم في سبيل الله لنجاة أنفسهم، فهم مؤثرون غيرهم على أنفسهم، ويحسنون إلى الآخرين، ويسعون لإعانتهم...