المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَإِذۡ غَدَوۡتَ مِنۡ أَهۡلِكَ تُبَوِّئُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ مَقَٰعِدَ لِلۡقِتَالِۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (121)

121- واذكر - أيها النبي - حين خرجت مبكراً من عند أهلك إلى أُحُد قاصداً إنزال المؤمنين في مراكز القتال . والله سميع لأقوالكم ، عليم بنياتكم .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَإِذۡ غَدَوۡتَ مِنۡ أَهۡلِكَ تُبَوِّئُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ مَقَٰعِدَ لِلۡقِتَالِۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (121)

{ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ *إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ }

هذه الآيات نزلت في وقعة " أُحد " وقصتها مشهورة في السير والتواريخ ، ولعل الحكمة في ذكرها في هذا الموضع ، وأدخل في أثنائها وقعة " بدر " لما أن الله تعالى قد وعد المؤمنين أنهم إذا صبروا واتقوا نصرهم ، ورد كيد الأعداء عنهم ، وكان هذا حكما عاما ووعدا صادقا لا يتخلف مع الإتيان بشرطه ، فذكر نموذجا من هذا في هاتين القصتين ، وأن الله نصر المؤمنين في " بدر " لما صبروا واتقوا ، وأدال عليهم العدو لما صدر من بعضهم من الإخلال بالتقوى ما صدر ، ومن حكمة الجمع بين القصتين أن الله يحب من عباده إذا أصابهم ما يكرهون أن يتذكروا ما يحبون ، فيخف عنهم البلاء ويشكروا الله على نعمه العظيمة التي إذا قوبلت بما ينالهم من المكروه الذي هو في الحقيقة خير لهم ، كان المكروه بالنسبة إلى المحبوب نزرا يسيرا ، وقد أشار تعالى إلى هذه الحكمة في قوله { أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها } وحاصل قضية " أحد " وإجمالها أن المشركين لما رجع فلهم من " بدر " إلى مكة ، وذلك في سنة اثنتين من الهجرة ، استعدوا بكل ما يقدرون عليه من العدد بالأموال والرجال والعدد ، حتى اجتمع عندهم من ذلك ما جزموا بحصول غرضهم وشفاء غيظهم ، ثم وجهوا من مكة للمدينة في ثلاثة آلاف مقاتل ، حتى نزلوا قرب المدينة ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم إليهم هو وأصحابه بعد المراجعة والمشاورة حتى استقر رأيهم على الخروج ، وخرج في ألف ، فلما ساروا قليلا رجع عبد الله بن أبي المنافق بثلث الجيش ممن هو على مثل طريقته ، وهمت طائفتان من المؤمنين أن يرجعوا وهم بنو سلمة وبنو حارثة فثبتهم الله ، فلما وصلوا إلى أحد رتبهم النبي صلى الله عليه وسلم في مواضعهم وأسندوا ظهورهم إلى أحد ، ورتب النبي صلى الله عليه وسلم خمسين رجلا من أصحابه في خلة في جبل " أحد " وأمرهم أن يلزموا مكانهم ولا يبرحوا منه ليأمنوا أن يأتيهم أحد من ظهورهم ، فلما التقى المسلمون والمشركون انهزم المشركون هزيمة قبيحة وخلفوا معسكرهم خلف ظهورهم ، واتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون ، فلما رآهم الرماة الذين جعلهم النبي صلى الله عليه وسلم في الجبل ، قال بعضهم لبعض : الغنيمة الغنيمة ، ما يقعدنا هاهنا والمشركون قد انهزموا ، ووعظهم أميرهم عبد الله بن جبير عن المعصية فلم يلتفتوا إليه ، فلما أخلوا موضعهم فلم يبق فيه إلا نفر يسير ، منهم أميرهم عبد الله بن جبير ، جاءت خيل المشركين من ذلك الموضع واستدبرت المسلمين وقاتلت ساقتهم ، فجال المسلمون جولة ابتلاهم الله بها وكفر بها عنهم ، وأذاقهم فيها عقوبة المخالفة ، فحصل ما حصل من قتل من قتل منهم ، ثم إنهم انحازوا إلى رأس جبل " أحد " وكف الله عنهم أيدي المشركين وانكفأوا إلى بلادهم ، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة قال الله تعالى { وإذ غدوت من أهلك } والغدو هاهنا مطلق الخروج ، ليس المراد به الخروج في أول النهار ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يخرجوا إلا بعدما صلوا الجمعة { تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال } أي : تنزلهم وترتبهم كل في مقعده اللائق به ، وفيها أعظم مدح للنبي صلى الله عليه وسلم حيث هو الذي يباشر تدبيرهم وإقامتهم في مقاعد القتال ، وما ذاك إلا لكمال علمه ورأيه ، وسداد نظره وعلو همته ، حيث يباشر هذه الأمور بنفسه وشجاعته الكاملة صلوات الله وسلامه عليه { والله سميع } لجميع المسموعات ، ومنه أنه يسمع ما يقول المؤمنون والمنافقون كل يتكلم بحسب ما في قلبه { عليم } بنيات العبيد ، فيجازيهم عليها أتم الجزاء ، وأيضا فالله سميع عليم بكم ، يكلؤكم ، ويتولى تدبير أموركم ، ويؤيدكم بنصره كما قال تعالى لموسى وهارون { إنني معكما أسمع وأرى } .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَإِذۡ غَدَوۡتَ مِنۡ أَهۡلِكَ تُبَوِّئُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ مَقَٰعِدَ لِلۡقِتَالِۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (121)

ثم شَرَعَ تعالى في ذكر قصة أحد ، وما كان فيها من الاختبار لعباده المؤمنين ، والتمييز بين المؤمنين والمنافقين ، وبيان صَبْر الصابرين ، فقال تعالى :

{ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }

المرادُ بهذه الوقعة يوم أُحُد عند الجمهور ، قاله ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، والسُّدِّي ، وغير واحد . وعن الحسن البصري : المراد بذلك يوم الأحزاب . رواه ابن جرير ، وهو غريب لا يُعَوَّل{[5612]} عليه .

وكانت وقعةُ أحد يومَ السبت من شوال سنة ثلاث من الهجرة . قال [ قتادة ]{[5613]} لإحدى عشرة ليلة خَلَتْ من شَوَّال . وقال عِكْرِمة : يوم السبت للنصف من شوال ، فالله أعلم .

وكان سببها أن المشركين حين قُتل من قتل من أشرافهم يوْمَ بَدْر ، وسَلمَت العيرُ بما فيها من التجارة التي كانت مع أبي سُفْيان ، فلما رجع قفَلُهُم{[5614]} إلى مكة قال أبناء من قُتل ، ورؤساء من بقي لأبي سفيان : ارصد هذه الأموال لقتال محمد ، فأنفقوها في ذلك ، وجمعوا الجموع والأحابيش وأقبلوا في قريب من ثلاثة آلاف ، حتى نزلوا قريبًا من أحد تِلْقاء المدينة ، فصلى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يومَ الجمعة ، فلما فَرَغَ منها صَلى على رجل من بني النجار ، يقال له : مالك بن عَمْرو ، واستشار{[5615]} الناس : أيخرج إليهم أم يمكث بالمدينة ؟ فأشار عبد الله بن أُبيّ بالمقام بالمدينة ، فإن أقاموا أقاموا بشِرِّ مَحْبس{[5616]} وإن دخلوها قاتلهم الرجال في وجوههم ، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم ، وإن رجعوا رجعوا خائبين . وأشار آخرون من الصحابة ممن لم يشهد بدرا بالخروج إليهم ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلبس لأمَتَه وخرج عليهم ، وقد نَدم بعضهم وقالوا : لعلنا استكرَهْنَا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا رسول الله ، إن شئت أن نمكث ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ إِذَا لَبِسَ لأمَتَه أنْ يَرْجِعَ حَتى يَحْكُمَ اللهُ لَه " .

فسار ، عليه السلام{[5617]} في ألف من أصحابه ، فلما كان بالشَّوط رجع عبد الله بن أبيّ في ثُلُث الجيش مُغْضَبا ؛ لكونه لم يرجع إلى قوله ، وقال هو وأصحابه : لو نعلم اليوم قتالا لاتبعناكم ، ولكنا لا نراكم تقاتلون اليوم .

واستمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سائرا حتى نزل الشِّعْب من أُحُد في عَدْوَةِ الوادي . وجعل ظهره وعسكره إلى أحد وقال : " لا يُقَاتِلَنَّ أَحَدٌ حتى نَأْمُرَهُ بِالْقِتَالِ " .

وتهيأ رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتال وهو في سبعمائة من أصحابه ، وأمَّر على الرماة عبد الله بن جُبَيْر أخا بني عَمْرو بن عوف ، والرماة يومئذ خمسون رجلا فقال لهم : " انْضَحُوا الخَيْلَ عَنَّا ، وَلا نُؤْتَيَنَّ مِنْ قِبَلِكُمْ . والْزَمُوا مَكَانَكُمْ إنْ كَانَتِ النَّوْبَةُ لَنَا أوْعَلَيْنَا ، وإنْ رَأيْتُمُونَا تَخَطَّفُنا الطَّيْرُ فَلا تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ " .

وظاهر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بين درعين ، وأعطى اللواء مُصْعَب بن عُمَير أخا بني عبد الدار . وأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الغِلْمان يومئذ وأرجأ آخرين ، حتى أمضاهم يوم الخندق بعد هذا اليوم بقريب من سنتين .

وتعبَّأت قريش وهم ثلاثة آلاف ، ومعهم مائتا فَرَس قد جَنَبوها {[5618]}فجعلوا على مَيْمَنة الخيل خالد بن الوليد : وعلى الميسرة عِكْرِمة بن أبي جَهْل ، ودفعوا إلى بني عبد الدار اللواء . ثم كان بين الفريقين ما سيأتي تفصيله في مواضعه عند هذه الآيات ، إن شاء الله تعالى .

ولهذا قال تعالى : { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } أي : بَيّن لهم منازلهم ونجعلهم{[5619]} مَيْمَنة ومَيْسَرة وحيث أمرتهم { وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي : سميع لما تقولون ، عليم بضمائركم .

وقد أورد ابن جرير هاهنا سؤالا حاصله : كيف يقولونَ : إن النبي صلى الله عليه وسلم سار{[5620]} إلى أحد يوم الجمعة بعد الصلاة ، وقد قال الله [ تعالى ]{[5621]} { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } ؟ ثم كان جوابه عنه : أن غدوه ليبوئهم{[5622]} مقاعد ، إنما كان يوم السبت أول النهار .


[5612]:في ر: "نعول".
[5613]:زيادة من جـ.
[5614]:في أ، و: "كلهم".
[5615]:في جـ، أ: فاستشار".
[5616]:في جـ، ر، أ: "مجلس".
[5617]:في أ: "صلى الله عليه وسلم".
[5618]:في ر: "حينوها".
[5619]:في جـ، أ، و: "تنزلهم منازلهم وتجعلهم"، وفي ر: "ينزلهم منازلهم ويجعلهم".
[5620]:في أ، و: "خرج".
[5621]:زيادة من جـ، ر.
[5622]:في جـ: "تبوئهم".
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَإِذۡ غَدَوۡتَ مِنۡ أَهۡلِكَ تُبَوِّئُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ مَقَٰعِدَ لِلۡقِتَالِۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (121)

{ وإذ غدوت } أي واذكر إذ غدوت . { من أهلك } أي من حجرة عائشة رضي الله عنها . { تبوئ المؤمنين } تنزلهم . أو تسوي وتهيئ لهم ويؤيده القراءة باللام . { مقاعد للقتال } مواقف وأماكن له ، وقد يستعمل المقعد والمقام بمعنى المكان على الاتساع كقوله تعالى : { في مقعد صدق } وقوله تعالى : { قبل أن تقوم من مقامك } . { والله سميع } لأقوالكم . { عليم } بنياتكم روي ( أن المشركين نزلوا بأحد يوم الأربعاء- ثاني عشر من شوال سنة ثلاث من الهجرة- فاستشار الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه ، وقد دعا عبد الله بن أبي بن سلول ولم يدعه قبل فقال هو وأكثر الأنصار : أقم يا رسول الله بالمدينة ولا تخرج إليهم ، فوالله ما خرجنا منها إلى عدو إلا أصاب منا ، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه فكيف وأنت فينا ؟ فدعهم فإن أقاموا أقاموا بشر محبس ، وإن دخلوا قاتلهم الرجال ورماهم النساء والصبيان بالحجارة ، وإن رجعوا رجعوا خائبين . وأشار بعضهم إلى الخروج فقال عليه الصلاة والسلام : " رأيت في منامي بقرة مذبوحة حولي فأولتها خيرا ، ورأيت في ذباب سيفي ثلما فأولته هزيمة ، ورأيت كأني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة ، فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم ، فقال رجال فاتتهم بدر وأكرمهم الله بالشهادة يوم أحد اخرج بنا إلى أعدائنا . وبالغوا حتى دخل ولبس لامته ، فلما رأوا ذلك ندموا على مبالغتهم وقالوا : اصنع يا رسول الله ما رأيت فقال " لا ينبغي لنبي أن يلبس لامته فيضعها حتى يقاتل " . فخرج بعد صلاة الجمعة وأصبح بشعب أحد يوم السبت ، ونزل في عدوة الوادي وجعل ظهره وعسكره إلى أحد وسوى صفهم ، وأمر عبد الله بن جبير على الرماة وقال : انضحوا عنا بالنبل لا يأتونا من ورائنا ) .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَإِذۡ غَدَوۡتَ مِنۡ أَهۡلِكَ تُبَوِّئُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ مَقَٰعِدَ لِلۡقِتَالِۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (121)

ذهب الطبري رحمه الله إلى أن هذه الآية متصلة بمعنى ما تقدمها من الآيات والظاهر أنها استقبال أمر آخر ، لأن تلك مقاولة في شأن منافقي اليهود ، وهذا ابتداء عتب المؤمنين في أمر أحد ، فالعامل في { إذ } فعل مضمر تقديره واذكر ، وقال الحسن : هذا الغدو المذكور في هذه الآية «لتبويء المؤمنين » الذي كان في غزوة الأحزاب .

قال القاضي أبو محمد : وخالفه الناس ، والجمهور على أن ذلك كان في غزوة أحد ، وفيها نزلت هذه الآيات كلها ، وكان من أمر غزوة أحد أن المشركين اجتمعوا في ثلاثة آلاف رجل ، وقصدوا المدينة ليأخذوا بثأرهم في يوم بدر ، فنزلوا عند أحد يوم الأربعاء الثاني عشر من شوال سنة ثلاث من الهجرة ، على رأس أحد وثلاثين شهراُ من الهجرة ، وأقاموا هنالك يوم الخميس ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة يدير وينتظر أمر الله تعالى ، فلما كان في صبيحة يوم الجمعة جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس واستشارهم وأخبرهم أنه كان يرى بقرة تذبح وثلماً في ذباب سيفه ، وأنه يدخل يده في درع حصينة ، وأنه تأولها المدينة ، وقال لهم ، أرى أن لا نخرج إلى هؤلاء الكفار ، فقال له عبد الله بن أبي بن سلول : أقم يا رسول الله ولا تخرج إليهم بالناس ، فإن هم أقاموا أقاموا بشر محبس وإن انصرفوا مضوا خائبين ، وإن جاؤونا إلى المدينة قاتلناهم في الأفنية ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من الآطام ، فوالله ما حاربنا قط عدواً في هذه المدينة إلا غلبناه ، ولا خرجنا منها إلى عدو إلا غلبنا ، فوافق هذا الرأي رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورأي جماعة عظيمة من المهاجرين والأنصار ، وقال قوم من صلحاء المؤمنين ممن كان فاتته بدر : يا رسول الله اخرج بنا إلى عدونا ، وشجعوا الناس ودعوا إلى الحرب ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بالناس صلاة الجمعة وقد جشمه هؤلاء الداعون إلى الحرب ، فدخل إثر صلاته بيته ولبس سلاحه ، فندم اولئك القوم وقالوا : أكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما خرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم في سلاحه ، قالوا : يا رسول الله أقم إن شئت ، فإنّا لا نريد أن نكرهك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما ينبغي لنبي إذا لبس سلاحه أن يضعها حتى يقاتل ثم خرج بالناس ، وسار حتى قرب من عسكر المشركين ، هناك وبات تلك الليلة ، وقد غضب عبد الله بن أبي بن سلول وقال : أطاعهم وعصاني ، فلما كان في صبيحة يوم السبت ، اعتزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على السير إلى مناجزة المشركين ، فنهض وهو في ألف رجل ، فانعزل عنه عند ذلك عبد الله بن أبي بن سلول بثلاثمائة رجل من الناس ، من منافق ومتبع ، وقالوا : نظن أنكم لا تلقون قتالاً ، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في سبعمائة ، فهمت عند ذلك بنو حارثة من الأوس وبنو سلمة من الخزرج بالانصراف ، ورأوا كثافة المشركين وقلة المسلمين ، وكادوا أن يجبنوا ويفشلوا فعصمهم الله تعالى ، وذمر{[3474]} بعضهم بعضاً ، ونهضوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أطل على المشركين ، فتصافَّ الناس ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر على الرماة عبد الله بن جبير ، وكانوا خمسين رجلاً ، وجعلهم يحمون الجبل وراء المسلمين ، وأسند هو إلى الجبل ، فلما أضرمت الحرب انكشف المشركون وانهزموا ، وجعل نساء المشركين تبدو خلاخلهن وهن يسندن في صفح{[3475]} جبل ، فلما رأى الرماة ذلك قالوا : الغنيمة الغنيمة أيها المسلمون ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال لهم : لا تبرحوا من هنا ولو رأيتمونا تتخطفنا الطير ، فقال لهم عبد الله بن جبير وقوم منهم : اتقوا الله واثبتوا كما أمركم نبيكم ، فعصوا وخالفوا وزالوا متبعين ، وكان خالد بن الوليد قد تجرد في جريدة خيل وجاء من خلف المسلمين حيث كان الرماة ، فحمل على الناس ووقع التخاذل وصيح في المسلمين من مقدمتهم ومن ساقتهم ، وصرخ صارخ : قتل محمد ، فتخاذل الناس واستشهد من المسلمين نيف على سبعين ، قال مكي : قال مالك رحمه الله : قتل من المهاجرين يوم أحد أربعة ، ومن الأنصار سبعون وتحيز رسول الله صلى الله عليه وسلم في أعلى الجبل وتجاوز الناس ، هذا مختصر من القصة يتركب عليه تفسير الآية ، وأمر «أحد » بطوله وما تخلله من الأفعال والأقوال ، مستوعب في كتب السير ، وليس هذا التعليق مما يقتضي ذكره وحكى مكي عن السدي ما يظهر منه أن القتال كان يوم الجمعة ، وحكى عنه الطبري ، أن نزول أبي سفيان بأحد كان في الثالث من شوال ، وذلك كله ضعيف ، وقال النقاش ، وقعة «أحد » في الحادي عشر من شوال ، وذلك خطأ ، قال الطبري وغيره : فغدو رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة إلى التدبير مع الناس واستشارتهم هو الذي عبر عنه بقوله تعالى : { تبوىء المؤمنين مقاعد للقتال } .

قال القاضي : ولا سيما أن غدو النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان ورأيه أن لا يخرج الناس ، فكان لا يشك في نفسه أن يقسم أقطار المدينة على قبائل الأنصار ، وقال غير الطبري : بل نهوض النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة بعد الصلاة ، هو غدوه ، وبوأ المؤمنين في وقت حضور القتال ، وقيل ذلك في ليلته ، وسماه «غدواً » إذ كان قد اعتزم التدبير ، والشروع في الأمر من وقت الغدو .

قال القاضي أبو محمد : ولا سيما أن صلاة الجمعة ربما كانت قبل الزوال ، حسبما وردت بذلك أحاديث{[3476]} ، فيجيء لفظ الغدو متمكناً ، وقيل إن «الغدو » المذكور هو «غدوة » يوم السبت إلى القتال ، ومن حيث لم يكن في تلك الليلة موافقاً للغدو فهو كأنه كان في أهله وبوأ المسلمين بأمره الرماة وبغير ذلك من تدبيره مصاف الناس و { تبوىء } معناه : تعين لهم مقاعد يتمكنون فيها ويثبتون تقول : تبوأت مكان كذا ، إذا حللته حلولاً متمكناً تثبت فيه ، ومنه قوله تعالى : { نتبوأ من الجنة حيث نشاء }{[3477]} ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار »{[3478]} ، ومنه قول الشاعر : [ مجزوء الكامل مرفل ]

كم صاحب ليَ صالحٍ . . . بَوَّأْتُهُ بيديَّ لحْدا{[3479]}

ومنه قول الأعشى : [ الطويل ]

وَمَا بَوَّأ الرَّحْمَنُ بَيْتَكَ مَنْزلاً . . . بِشَرْقِيّ أجْيَادِ الصَّفَا والْمحَرَّمِ{[3480]}

وقوله تعالى : { مقاعد } جمع مقعد وهو مكان القعود ، وهذا بمنزلة قولك مواقف ، ولكن لفظة القعود أدل على الثبوت ، ولا سيما أن الرماة إنما كانوا قعوداً ، وكذلك كانت صفوف المسلمين أولاً ، والمبارزة والسرعان{[3481]} يجولون ، وقوله : { والله سميع } أي ما تقول ويقال لك وقت المشاورة وغيره .


[3474]:- ذمره: بالتخفيف والتشديد: لامه وحضه وحثّه، وتذامر القوم في الحرب: تحاضوا، والقوم يتذامرون: أي يحض بعضهم بعضا على الجد في القتال. "اللسان"، قال عنترة: لما رأيت القوم أقبل جمعهم يتذامرون كررت غير مذمم
[3475]:- الصفح: الجانب، ومن الجبل مضطجعه، وهو لغة في السفح الذي هو عرض الجبل حيث يسفح فيه الماء. وقيل السفح: أصل الجبل. وقيل: هو الحضيض الأسفل. "اللسان".
[3476]:- من ذلك ما أخرجه الإمام أحمد، ومسلم، والنسائي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة ثم نذهب إلى جمالنا فنريحها حين تزول الشمس. "نيل الأوطار".
[3477]:- من الآية 74 من سورة الزمر، ومنه قوله تعالى: [لنبوئنهم من الجنة غرفا]
[3478]:- أخرجه الإمام أحمد، والبخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة عن أنس. "الجامع الصغير 2/553".
[3479]:- البيت من قصيدة لعمرو بن معد يكرب الزبيدي ومطلعها: ليس الجمال بمئزر فاعلم وإن رديت بردا وبوأته: أنزلته، واللحد: الحفرة وهو القبر.
[3480]:- رواية البيت في الديوان: وما جعل الرحمان بيتك في العلى بأجياد غربي الصفا والمحرم وأجياد: أرض بمكة، أو جبل بها لكونه موضع خيل تبع. "قاموس". والبيت من قصيدة هجا بها الأعشى عمير بن عبد الله بن المنذر بن عبدان لما جمع بينه وبين جهنام ليهاجيه "الديوان. 400 ط الشركة اللبنانية للكتاب".
[3481]:- وسرعان الناس محركة: أوائلهم المستبقون، وتسكن الراء- وفي السين ثلاث لغات: الفتح والضم والكسر. ومن الخيل أوائلها. "قاموس".
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَإِذۡ غَدَوۡتَ مِنۡ أَهۡلِكَ تُبَوِّئُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ مَقَٰعِدَ لِلۡقِتَالِۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (121)

وجود حرف العطف في قوله : { وإذ غدوت } مانع من تعليق الظرف ببعض الأفعال المتقدّمة مثل { ودوا ما عنتم } [ آل عمران : 118 ] ومثل { يفرحوا بها } [ آل عمران : 120 ] وعليه فهو آت كما أتَتْ نظائره في أوائل الآي والقِصص القرآنية ، وهو من عطف جملة على جملة وقصة على قصة وذلك انتقال اقتضابي فالتقدير : واذكر إذ غدوت . ولا يأتي في هذا تعلّق الظرف بفعل ممَّا بعده لأنّ قوله : { تبوِّىء } لاَ يستقيم أن يكون مبدأ الغرض ، وقوله : { همت } لا يصلح لتعليق { إذ غدوت } لأنَّه مدخول ( إذْ ) أخرى .

ومناسبة ذكر هذه الوقعة عقب ما تقدّم أنَّها من أوضح مظاهر كيد المخالفين في الدّين ، المنافقين ، ولمَّا كان شأن المنافقين من اليهود وأهل يثرب واحداً ، ودخيلتهما سواء ، وكانوا يعملون على ما تدبّره اليهود ، جمع الله مكائد الفريقين بذكر غزوة أحُد ، وكان نزول هذه السورة عقب غزوة أحُد كما تقدّم . فهذه الآيات تشير إلى وقعة أحُد الكائنة في شوّال سنة ثلاث من الهجرة حين نزل مشركو مكَّة ومن معهم من أحلافهم سَفْحَ جبل أحُد ، حول المدينة ، لأخذ الثَّأر بما نالهم يوم بدر من الهزيمة ، فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه فيما يفعلون وفيهم عبد الله بنُ أبي ابن سَلُول رأسُ المنافقين ، فأشار جمهورهم بالتحصّن بالمدينة حتَّى إذا دخل عليهم المشركون المدينة قاتلوهم في الديار والحصون فغلبوهم ، وإن رجعوا رجعوا خائبين ، وأشار فريق بالخروج ورغبوا في الجهاد وألحُّوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم برأي المشيرين بالخروج ، ولبس لأْمته ، ثُمّ عرضَ للمسلمين تردّد في الخروج فراجعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " لا ينبغي لنبيء أن يلبس لأمته فيضعها حتَّى يحكم الله بينه وبين عدُوّه "