ثم قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ } [ أي : ] بالأقوال والأفعال ، وذلك بالقيام بدين الله ، والحرص على إقامته{[1089]} على الغير ، وجهاد من عانده ونابذه ، بالأبدان والأموال ، ومن نصر الباطل بما يزعمه من العلم ورد الحق ، بدحض حجته ، وإقامة الحجة عليه ، والتحذير منه .
ومن نصر دين الله ، تعلم كتاب الله وسنة رسوله ، والحث على ذلك ، [ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ] .
ثم هيج الله المؤمنين بالاقتداء بمن قبلهم من الصالحين بقوله : { كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ } أي : قال لهم عارضا ومنهضا{[1090]} من يعاونني ويقوم معي في نصرتي لدين الله ، ويدخل مدخلي ، ويخرج مخرجي ؟ . فابتدر الحواريون ، فقالوا : { نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ } فمضى عيسى عليه السلام على أمر الله ونصر دينه ، هو ومن معه من الحواريين ، { فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ } بسبب دعوة عيسى والحواريين ، { وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ } منهم ، فلم ينقادوا لدعوتهم ، فجاهد المؤمنون الكافرين ، { فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ } أي : قويناهم ونصرناهم عليهم .
{ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ } عليهم وقاهرين [ لهم ] ، فأنتم يا أمة محمد ، كونوا أنصار الله ودعاة دينه ، ينصركم الله كما نصر من قبلكم ، ويظهركم على عدوكم .
تمت ولله الحمد{[1091]} .
يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين أن يكونوا أنصار الله في جميع أحوالهم ، بأقوالهم وأفعالهم وأنفسهم وأموالهم ، وأن يستجيبوا لله ولرسوله ، كما استجاب الحواريون لعيسى حين قال : { مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ } ؟ أي : معيني في الدعوة إلى الله عز وجل ؟ ، { قَالَ الْحَوَارِيُّونَ } - وهم أتباع عيسى عليه السلام - : { نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ } أي : نحن أنصارك على ما أرسلت به ومُوَازروك على ذلك ؛ ولهذا بعثهم دعاةً إلى الناس في بلاد الشام في الإسرائيليين واليونانيين . وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في أيام الحج : " من رجل يُؤويني حتى أبلغ رسالة ربي ، فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ رسالة ربي " {[28799]} حتى قيَّض الله عز وجل له الأوس والخزرج من أهل المدينة ، فبايعوه ووازروه ، وشارطوه أن يمنعوه من الأسود والأحمر إن هو هاجر إليهم ، فلما هاجر إليهم بمن معه من أصحابه وَفَوا له بما عاهدوا الله عليه ؛ ولهذا سماهم الله ورسوله : الأنصار ، وصار ذلك علما عليهم ، رضي الله عنهم ، وأرضاهم . وقوله : { فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ } أي : لما بلغ عيسى ابن مريم عليه السلام رسالة ربه إلى قومه ، ووازره من وازره من الحواريين ، اهتدت طائفة من بني إسرائيل بما جاءهم به ، وضلت طائفة فخرجت عما جاءهم به ، وجحدوا نبوته ، ورموه وأمه بالعظائم ، وهم اليهود - عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة - وغلت فيه طائفة ممن اتبعه ، حتى رفعوه فوق ما أعطاه الله من النبوة ، وافترقوا فِرَقا وشِيَعا ، فمن قائل منهم : إنه ابن الله . وقائل : إنه ثالث ثلاثة : الأب ، والابن ، وروح القدس . ومن قائل : إنه الله . وكل هذه الأقوال مفصلة في سورة النساء .
وقوله : { فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ } أي : نصرناهم على من عاداهم من فِرَق النصارى ، { فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ } أي : عليهم ، وذلك ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم ، كما قال الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله .
حدثني أبو السائب ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن المِنْهال - يعني ابن عمرو - عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما أراد الله عز وجل أن يرفع عيسى إلى السماء ، خرج إلى أصحابه وهم في بيت اثنا عشر رجلا من عين في البيت ، ورأسه يقطر ماء ، فقال : إن منكم من يكفر بي اثنتي عشر{[28800]} مرة بعد أن آمن بي . قال : ثم قال : أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني ، ويكون معي في درجتي ؟ قال : فقام شاب من أحدثهم سنا فقال : أنا . قال : فقال له : اجلس . ثم أعاد عليهم ، فقام الشاب فقال : أنا . فقال له : اجلس . ثم عاد عليهم فقام الشاب ، فقال : أنا . فقال : نعم ، أنت ذاك . قال : فألقي عليه شبه عيسى ، ورُفع عيسى عليه السلام من روزَنة في البيت إلى السماء ، قال : وجاء الطلَبُ من اليهود ، فأخذوا شِبهَه فقتلوه وصلبوه ، وكفر به بعضهم اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن به ، فتفرقوا فيه ثلاث فرق . فقالت فرقة : كان الله فينا ما شاء ، ثم صعد إلى السماء . وهؤلاء اليعقوبية . وقالت فرقة : كان فينا ابن الله ما شاء ، ثم رفعه إليه وهؤلاء النسطورية ، وقالت فرقة كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء الله ثم رفعه اليه ، وهؤلاء المسلمون فتظاهرت الكافرتان على المسلمة ، فقتلوها ، فلم يزل الإسلام طامسا حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم ، { فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ } يعني : الطائفة التي كفرت من بني إسرائيل في زمن عيسى ، والطائفة التي آمنت في زمن عيسى ، { فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ } بإظهار محمد صلى الله عليه وسلم دينهم على دين الكفار { فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ } .
هذا لفظه في كتابه عند تفسير هذه الآية الكريمة . وهكذا رواه النسائي عند تفسير هذه الآية من سننه ، عن أبي كُرَيْب عن محمد بن العلاء ، عن أبي معاوية ، بمثله سواء{[28801]} .
فأمة محمد صلى الله عليه وسلم لا يزالون ظاهرين على الحق ، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك ، وحتى يقاتل آخرهم الدجال مع المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام ، كما وردت [ بذلك ]{[28802]} الأحاديث الصحاح ، والله أعلم .
وقوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أنْصَارَ اللّهِ }اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة : «كُونُوا أنْصَارا للّهِ » بتنوين الأنصار . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة بإضافة الأنصار إلى الله .
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب ، ومعنى الكلام : يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله ، كونوا أنصار الله ، كما قال عيسى ابن مريم للحواريين : { مَنْ أنْصَاري إلى اللّهِ } ، يعني من أنصاري منكم إلى نصرة الله لي . وكان قتادة يقول في ذلك ما :
حدثني به بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أنْصَارَ اللّهِ كما قال عيسَى ابنُ مَرْيَمَ للْحَوَارِيّينَ مَنْ أنْصَارِي إلى اللّهِ قال الْحَوَارِيّونَ نَحْنُ أنْصَارُ اللّهِ }قال : قد كانت لله أنصار من هذه الأمة تجاهد على كتابه وحقه . وذُكر لنا أنه بايعه ليلة العقبة اثنان وسبعون رجلاً من الأنصار ، ذُكر لنا أن بعضهم قال : هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل ؟ إنكم تبايعون على محاربة العرب كلها أو يُسلموا . وذُكر لنا أن رجلاً قال : يا نبيّ الله اشترط لربك ولنفسك ما شئت ، قال : أُشْتَرِطُ لربيّ أَنْ تَعبدوه ، ولا تُشْرِكُوا به شيئا ، وأَشْترطُ لنفسي أن تمنَعوني مما مَنَعْتُم منه أنفسَكُم وأبناءَكم » قالوا : فإذا فعلنا ذلك فما لنا يا نبيّ الله ؟ قال : «لكم النصر في الدنيا ، والجنة في الاَخرة » ، ففعلوا ، ففعل الله .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، قال : تلا قتادة { كُونُوا أنْصَارَ اللّهِ كمَا قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ للْحَوَارِيّينَ مَنْ أنْصَارِي إلى اللّهِ } قال : قد كان ذلك بحمد الله ، جاءه سبعون رجلاً ، فبايعوه عند العقبة ، فنصروه وآوَوْه حتى أظهر الله دينه قالوا : ولم يسمّ حيّ من السماء اسما لم يكن لهم قبل ذلك غيرهم .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : إن الحواريين كلهم من قريش : أبو بكر ، وعمر ، وعليّ ، وحمزة ، وجعفر ، وأبو عُبيدة ، وعثمان بن مظعون ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص ، وعثمان ، وطلحة بن عبيد الله ، والزبير بن العوّام .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : { مَنْ أنْصَارِي إلى اللّهِ }قال : من يتبعني إلى الله .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن ميسرة ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جُبَير ، قال : سئل ابن عباس عن الحواريين ، قال : سُمّوا لبياض ثيابهم كانوا صيادي السمك .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : الحواريون : هم الغسالون بالنبطية يقال للغسال : حوارى ، وقد تقدم بياننا في معنى الحوارى بشواهده واختلاف المختلفين فيه قبل فيما مضى ، فأغنى عن إعادته .
وقوله : { قالَ الْحَوَارِيّونَ نَحْنُ أنْصَارُ اللّهِ }يقول : قالوا : نحن أنصار الله على ما بعث به أنبياءه من الحقّ . وقوله : { فآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وكَفَرَتْ طائِفَةٌ } يقول جلّ ثناؤه : فآمنت طائفة من بني إسرائيل بعيسى ، وكفرت طائفة منهم به ، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس ، قال : لما أراد الله أن يرفع عيسى إلى السماء خرج إلى أصحابه وهم في بيت اثنا عشر رجلاً من عين في البيت ورأسه يقطر ماء قال : فقال : إن منكم من سيكفر بي اثنتي عشرة مرّة بعد أن آمن بي قال : ثم قال : أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني ، ويكون معي في درجتي ؟ قال : فقام شاب من أحدثهم سنا ، قال : فقال أنا ، فقال له : اجلس ثم أعاد عليهم ، فقام الشاب ، فقال أنا قال : نعم أنت ذاك فأُلقى عليه شبه عيسى ، ورفع عيسى من رَوْزَنة في البيت إلى السماء قال : وجاء الطلب من اليهود ، وأخذوا شبهه . فقتلوه وصلبوه ، وكفر به بعضهم اثنتي عشرة مرّة بعد أن آمن به ، فتفرّقوا ثلاث فرق ، فقالت فرقة : كان الله فينا ما شاء ، ثم صعد إلى السماء ، وهؤلاء اليعقوبية . وقالت فرقة : كان فينا ابن الله ما شاء الله ، ثم رفعه إليه ، وهؤلاء النسطورية . وقالت فرقة . كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء الله ، ثم رفعه الله إليه ، وهؤلاء المسلمون ، فتظاهرت الطائفتان الكافرتان على المسلمة ، فقتلوها ، فلم يزل الإسلام طامسا حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم ، فآمنت طائفة من بني إسرائيل ، وكفرت طائفة ، يعني الطائفة التي كفرت من بني إسرائيل في زمن عيسى ، والطائفة التي آمنت في زمن عيسى ، فأيدنا الذين آمنوا على عدوّهم ، فأصبحوا ظاهرين في إظهار محمد على دينهم دين الكفار ، فأصبحوا ظاهرين .
وقوله : { فأيّدْنا الّذِينَ آمَنُوا على عَدُوّهِمْ }يقول : فقوّينا الذين آمنوا من الطائفتين من بني إسرائيل على عدوّهم ، الذي كفروا منهم بمحمد صلى الله عليه وسلم لتصديقه إياهم ، أن عيسى عبد الله ورسوله ، وتكذيبه من قال هو إله ، ومن قال : هو ابن الله تعالى ذكره ، فأصبحوا ظاهرين ، فأصبحت الطائفة المؤمنون ظاهرين على عدوّهم الكافرين منهم ، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
حدثني محمد بن عبد الله الهلالي ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد { فأيّدْنا الّذِينَ آمَنُوا على عَدُوّهِمْ }قال : قوّينا .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن سماك ، عن إبراهيم { فآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وكَفَرَتْ طائِفَةٌ }قال : لما بعث الله محمدا ، ونزل تصديق من آمن بعيسى ، أصبحت حجة من آمن به ظاهرة .
قال : ثنا جرير ، عن مغيرة ، عن سماك ، عن إبراهيم ، في قوله : { فأيّدْنا الّذِينَ آمَنُوا على عَدُوّهِمْ فأصْبَحُوا ظاهِرِينَ }قال : أيدوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، فصدّقهم ، وأخبر بحجتهم .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، في قوله : { فأصْبَحُوا ظاهِرِينَ }قال : أصبحت حجة من آمن بعيسى ظاهرة بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم كلمة الله وروحه .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : { فأصْبَحُوا ظاهِرِينَ }من آمن مع عيسى صلى الله عليه وسلم .