13- فبسبب نقض بني إسرائيل عهودهم ، استحقوا الطرد من رحمة الله ، وصارت قلوبهم صلبة لا تلين لقبول الحق ، وأخذوا يصرفون كلام الله في التوراة عن معناه ، إلى ما يوافق أهواءهم ، وتركوا نصيباً وافياً مما أمروا به في التوراة ، وستظل أيها الرسول ترى منهم ألواناً من الغدر ونقض العهد ، إلا نفراً قليلا منهم آمنوا بك فلم يخونوا ولم يغدروا . فتجاوز أيها الرسول عما فرط من هؤلاء ، واصفح وأحسن إليهم ، إن الله يحب المحسنين .
فكأنه قيل : ليت شعري ماذا فعلوا ؟ وهل وفوا بما عاهدوا الله عليه أم نكثوا ؟
فبين أنهم نقضوا ذلك فقال : { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ ْ }
أي : بسببه عاقبناهم بعدة عقوبات : الأولى : أنا { لَعَنَّاهُمْ ْ } أي : طردناهم وأبعدناهم من رحمتنا ، حيث أغلقوا على أنفسهم أبواب الرحمة ، ولم يقوموا بالعهد الذي أخذ عليهم ، الذي هو سببها الأعظم .
الثانية : قوله : { وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً ْ } أي : غليظة لا تجدي فيها المواعظ ، ولا تنفعها الآيات والنذر ، فلا يرغبهم تشويق ، ولا يزعجهم تخويف ، وهذا من أعظم العقوبات على العبد ، أن يكون قلبه بهذه الصفة التي لا يفيده الهدى ، والخير إلا شرا .
الثالثة : أنهم { يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَوَاضِعِهِ ْ } أي : ابتلوا بالتغيير والتبديل ، فيجعلون للكلم الذي أراد الله معنى غير ما أراده الله ولا رسوله .
الرابعة : أنهم { نسوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ْ } فإنهم ذكروا بالتوراة ، وبما أنزل الله على موسى ، فنسوا حظا منه ، وهذا شامل لنسيان علمه ، وأنهم نسوه وضاع عنهم ، ولم يوجد كثير مما أنساهم الله إياه عقوبة منه لهم .
وشامل لنسيان العمل الذي هو الترك ، فلم يوفقوا للقيام بما أمروا به ، ويستدل بهذا على أهل الكتاب بإنكارهم بعض الذي قد ذكر في كتابهم ، أو وقع في زمانهم ، أنه مما نسوه .
الخامسة : الخيانة المستمرة التي { لا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ ْ } أي : خيانة لله ولعباده المؤمنين .
ومن أعظم الخيانة منهم ، كتمهم [ عن ] من يعظهم ويحسن فيهم الظن الحق ، وإبقاؤهم على كفرهم ، فهذه خيانة عظيمة . وهذه الخصال الذميمة ، حاصلة لكل من اتصف بصفاتهم .
فكل من لم يقم بما أمر الله به ، وأخذ به عليه الالتزام ، كان له نصيب من اللعنة وقسوة القلب ، والابتلاء بتحريف الكلم ، وأنه لا يوفق للصواب ، ونسيان حظ مما ذُكِّر به ، وأنه لا بد أن يبتلى بالخيانة ، نسأل الله العافية .
وسمى الله تعالى ما ذكروا به حظا ، لأنه هو أعظم الحظوظ ، وما عداه فإنما هي حظوظ دنيوية ، كما قال تعالى : { فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ْ } وقال في الحظ النافع : { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ْ }
وقوله : { إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ْ } أي : فإنهم وفوا بما عاهدوا الله عليه فوفقهم وهداهم للصراط المستقيم .
{ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ ْ } أي : لا تؤاخذهم بما يصدر منهم من الأذى ، الذي يقتضي أن يعفى عنهم ، واصفح ، فإن ذلك من الإحسان { إن اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ْ } والإحسان : هو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه ، فإنه يراك . وفي حق المخلوقين : بذل النفع الديني والدنيوي لهم .
لقد نقضوا ميثاقهم مع الله . . قتلوا أنبياءهم بغير حق ، وبيتوا القتل والصلب لعيسى عليه السلام - وهو آخر أنبيائهم - وحرفوا كتابهم - التوراة - ونسوا شرائعها فلم ينفذوها ، ووقفوا من خاتم الأنبياء - عليه الصلاة والسلام - موقفا لئيما ماكرا عنيدا ، وخانوا مواثيقهم معه . فباءوا بالطرد من هدى الله ، وقست قلوبهم فلم تعد صالحة لاستقبال هذا الهدى . .
( فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية ، يحرفون الكلم عن مواضعه ، ونسوا حظا مما ذكروا به . . . )
وصدق الله . فهذه سمات يهود التي لا تفارقهم . . لعنة تبدو على سيماهم ، إذ تنضح بها جبلتهم الملعونة المطرودة من الهداية . وقسوة تبدو في ملامحهم الناضبة من بشاشة الرحمة ، وفي تصرفاتهم الخالية من المشاعر الإنسانية ، ومهما حاولوا - مكرا - إبداء اللين في القول عند الخوف وعند المصلحة ، والنعومة في الملمس عند الكيد والوقيعة ، فإن جفاف الملامح والسمات ينضح ويشي بجفاف القلوب والأفئدة . . وطابعهم الأصيل هو تحريف الكلم عن مواضعه . تحريف كتابهم أولا عن صورته التي أنزلها الله على موسى - عليه السلام - إما بإضافة الكثير إليه مما يتضمن أهدافهم الملتوية ويبررها بنصوص من الكتاب مزورة على الله ! وإما بتفسير النصوص الأصلية الباقية وفق الهوى والمصلحة والهدف الخبيث ! ونسيان وإهمال لأوامر دينهم وشريعتهم ، وعدم تنفيذها في حياتهم ومجتمعهم ، لأن تنفيذها يكلفهم الاستقامة على منهج الله الطاهر النظيف القويم .
( ولا تزال تطلع على خائنة منهم ، إلا قليلا منهم . . . ) . .
وهو خطاب للرسول [ ص ] يصور حال يهود في المجتمع المسلم في المدينة . فهم لا يكفون عن محاولة خيانة رسول الله [ ص ] وقد كانت لهم مواقف خيانة متواترة . بل كانت هذه هي حالهم طوال إقامتهم معه في المدينة - ثم في الجزيرة كلها - وما تزال هذه حالهم في المجتمع الإسلامي على مدار التاريخ . على الرغم من أن المجتمع الإسلامي هو المجتمع الوحيد الذي آواهم ، ورفع عنهم الاضطهاد ، وعاملهم بالحسنى ، ومكن لهم من الحياة الرغيدة فيه . ولكنهم كانوا دائما - كما كانوا على عهد الرسول - عقارب وحيات وثعالب وذئابا تضمر المكر والخيانة ، ولا تني تمكر وتغدر . إن أعوزتهم القدرة على التنكيل الظاهر بالمسلمين نصبوا لهم الشباك وأقاموا لهم المصائد ، وتآمروا مع كل عدو لهم ، حتى تحين الفرصة ، فينقضوا عليهم ، قساة جفاة لا يرحمونهم ، ولا يرعون فيهم إلا ولا ذمة . أكثرهم كذلك . . كما وصفهم الله سبحانه في كتابه ، وكما أنبأنا عن جبلتهم التي أورثها إياهم نقضهم لميثاق الله من قديم .
والتعبير القرآني الخاص عن واقع حال اليهود مع رسول الله [ ص ] في المدينة ، تعبير طريف :
( ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم ) . .
الفعلة الخائنة ، والنية الخائنة ، والكلمة الخائنة ، والنظرة الخائنة . . يجملها النص بحذف الموصوف وإثبات الصفة . . ( خائنة ) . . لتبقى الخيانة وحدها مجردة ، تملأ الجو ، وتلقي ظلالها وحدها على القوم . . فهذا هو جوهر جبلتهم ، وهذا هو جوهر موقفهم ، مع الرسول [ ص ] ومع الجماعة المسلمة . .
إن هذا القرآن هو معلم هذه الأمة ومرشدها ورائدها وحادي طريقها على طول الطريق . وهو يكشف لها عن حال أعدائها معها ، وعن جبلتهم وعن تاريخهم مع هدى الله كله . ولو ظلت هذه الأمة تستشير قرآنها ؛ وتسمع توجيهاته ؛ وتقيم قواعده وتشريعاته في حياتها ، ما استطاع أعداؤها أن ينالوا منها في يوم من الأيام . . ولكنها حين نقضت ميثاقها مع ربها ؛ وحين اتخذت القرآن مهجورا - وإن كانت ما تزال تتخذ منه ترانيم مطربة ، وتعاويذ ورقى وأدعية ! - أصابها ما أصابها .
ولقد كان الله - سبحانه - يقص عليها ما وقع لبني إسرائيل من اللعن والطرد وقسوة القلب وتحريف الكلم عن مواضعه ، حين نقضوا ميثاقهم مع الله ، لتحذر أن تنقض هي ميثاقها مع الله ، فيصيبها ما يصيب كل ناكث للعهد ، ناقض للعقد . . فلما غفلت عن هذا التحذير ، وسارت في طريق غير الطريق ، نزع الله منها قيادة البشرية ؛ وتركها هكذا ذيلا في القافلة ! حتى تثوب إلى ربها ؛ وحتى تستمسك بعهدها ، وحتى توفيبعقدها . فيفي لها الله بوعده من التمكين في الأرض ومن القيادة للبشر والشهادة على الناس . . وإلا بقيت هكذا ذيلا للقافلة . . وعد الله لا يخلف الله وعده . .
ولقد كان توجيه الله لنبيه في ذلك الحين الذي نزلت فيه هذه الآية :
( فاعف عنهم واصفح ، إن الله يحب المحسنين ) . .
والعفو عن قبائحهم إحسان ، والصفح عن خيانتهم إحسان . .
ولكن جاء الوقت الذي لم يعد فيه للعفو والصفح مكان . فأمر الله نبيه [ ص ] أن يجليهم عن المدينة . ثم أن يأمر بإجلائهم عن الجزيرة كلها . وقد كان . .
يحتمل أن تكون «ما » زائدة والتقدير «فبنقضهم »{[4489]} ويحتمل أن تكون اسماً نكرة أبدل منه النقض على بدل المعرفة من النكرة ، التقدير : فبفعل هو نقضهم للميثاق ، وهذا هو المعنى في هذا التأويل ، وقد تقدم في النساء نظير هذا ، و { لعناهم } معناه بعدناهم من الخير أجمعه ، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر «قاسية » بالألف وقرأ حمزة والكسائي «قسية » دون ألف ، وزنها فعيلة فحجة الأولى قوله تعالى : { فويل للقاسية قلوبهم }{[4490]} وقوله : { ثم قست قلوبكم من بعد ذلك }{[4491]} والقسوة غلظ القلب ونبوه عن الرقة والموعظة وصلابته حتى لا ينفعل لخير ، ومن قرأ قسيه فهو من هذا المعنى فعيلة بمعنى فاعلة كشاهد وشهيد وغير ذلك من الأمثلة ، وحكى الطبري عن قوم أنهم قالوا «قسية » ليست من معنى القسوة وإنما هي كالقسي من الدراهم ، وهي التي خالطها غش وتدليس ، فكذا القلوب لم تصف للإيمان بل خالطها الكفر والفساد ومن ذلك قول أبي زبيد :
لها صواهل في صم السلام كما *** صاح القسيات في أيدي الصياريف{[4492]}
فما زوداني غير سحق عمامة *** وخمس مئىًء منها قسي وزائف{[4493]}
قال أبو علي : هذه اللفظة معربة وليست بأصل في كلام العرب ، واختلف العلماء في معنى قوله : { يحرفون الكلم } فقال قوم منهم ابن عباس ، تحريفهم هو بالتأويل ولا قدرة لهم على تبديل الألفاظ في التوراة ولا يتمكن لهم ذلك ويدل على ذلك بقاء آية الرجم واحتياجهم إلى أن يضع القارىء يده عليها ، وقالت فرقة : بل حرفوا الكلام وبدلوه أيضاً وفعلوا الأمرين جميعاً بحسب ما أمكنهم .
قال القاضي أبو محمد : وألفاظ القرآن تحتمل المعنيين فقوله تعالى : { فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم }{[4494]} يقتضي التبديل . ولا شك أنهم فعلوا الأمرين . وقرأ جمهور الناس «الكَلِم » بفتح الكاف وكسر اللام وقرأ أبو عبد الرحمن وإبراهيم النخعي «الكلام » بالألف وقرأ أبو رجاء . «الكِلْم » بكسر الكاف وسكون اللام ، وقوله تعالى : { ونسوا حظاً مما ذكروا به } نص على سوء فعلهم بأنفسهم أي قد كان لهم حظ عظيم فيما ذكروا به فنسوه وتركوه ، ثم أخبر تعالى نبيه عليه السلام أنه لا يزال في مؤتنف الزمان يطلع { على خائنة منهم } وغائلة وأمور فاسدة ، واختلف الناس في معنى { خائنة } في هذا الموضع فقالت فرقة { خائنة } مصدر كالعاقبة وكقوله تعالى : { فأهلكوا بالطاغية }{[4495]} فالمعنى على خيانة ، وقال آخرون معناه على فرقة خائنة فهي اسم فاعل صفة المؤنث ، وقال آخرون المعنى على خائن فزيدت الهاء للمبالغة كعلامة ونسابة ومنه قول الشاعر :
حدثت نفسك بالوفاء ولم تكن *** للغدر خائنة ُمغَّل الاصبع{[4496]}
وقرأ الأعمش : «على خيانة منهم » ثم استثنى تبارك وتعالى منهم القليل فيحتمل أن يكون الاستثناء في الأشخاص ، ويحتمل أن يكون في الأفعال ، وقوله تعالى : { فاعف عنهم واصفح } منسوخ بما في براءة من الأمر بقتالهم حتى يؤدوا الجزية{[4497]} وباقي الآية وعد على الإحسان .
قوله : { فبما نقضهم ميثاقهم لعنّاهم } قد تقدّم الكلام على نظيره في قوله تعالى : { فبما نقضهم ميثاقهم وكفرِهم } [ النساء : 155 ] ، وقوله : { فبظلم من الّذين هادوا حرّمنا عليهم طيّبات } في سورة النّساء ( 160 ) .
واللعن هو الإبعاد ، والمراد هنا الإبعادُ من رحمة الله تعالى ومن هديه إذ استوجبوا غضب الله لأجل نقض الميثاق .
{ وجَعلنا قلوبهم قاسية } قساوة القلب مجاز ، إذْ أصلها الصلابة والشدّة ، فاستعيرت لعدم تأثّر القلوب بالمواعظ والنذر . وقد تقدّم في قوله تعالى : { ثمّ قست قلوبكم من بعد ذلك } [ البقرة : 74 ] . وقرأ الجمهور : { قاسية } بصيغة اسم الفاعل . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف : { قَسِيَّة } فيكون بوزن فَعِيلة من قَسَا يَقْسو .
وجملة { يُحرّفون الكَلِم عن مواضعه } استئناف أو حال من ضمير { لَعنّاهم } . والتحريف : الميل بالشيء إلى الحرف ، والحرف هو الجانب . وقد كثر في كلام العرب استعارة معاني السير وما يتعلّق به إلى معاني العمل والهُدى وضدّه ؛ فمن ذلك قولهم : السلوك ، والسيرة ؛ والسعي ؛ ومن ذلك قولهم : الصراط المستقيم ، وصراطاً سوياً ، وسواء السبيل ، وجادّة الطريق ، والطريقة الواضحة ، وسواء الطريق ؛ وفي عكس ذلك قالوا : المراوغة ، والانحراف ، وقالوا : بنيَّات الطريق ، ويعْبُد الله على حرف ، ويشعِّبُ الأمور . وكذلك ما هنا ، أي يعدلون بالكلم النبويّة عن مواضعها فيسيرون بها في غير مسالكها ، وهو تبديل معاني كتبهم السماوية . وهذا التحريف يكون غالباً بسوء التأويل اتّباعاً للهوى ، ويكون بكتمان أحكام كثيرة مجاراة لأهواة العامّة ، قيل : ويكون بتبديل ألفاظ كتبهم . وعن ابن عبّاس : ما يدلّ على أنّ التحريف فساد التأويل . وقد تقدّم القول في ذلك عند قوله تعالى : { من الّذين هادوا يحرّفون الكلم عن مواضعه } في سورة النساء ( 46 ) . وجيء بالمضارع للدلالة على استمرارهم .
وجملة { ونسوا حظّاً } معطوفة على جملة { يحرّفون } . والنسيان مراد به الإهمال المفضي إلى النسيان غالباً . وعبّر عنه بالفعل الماضي لأنّ النسيان لا يتجدّد ، فإذا حصل مضى ، حتّى يُذكّره مُذكِّر . وهو وإن كان مراداً به الإهمال فإنّ في صوغه بصيغة الماضي ترشيحاً للاستعارة أو الكناية لتهاونهم بالذكرى .
والحظّ النصيب ، وتنكيره هنا للتعظيم أو التكثير بقرينة الذمّ . وما ذكّروا به هو التّوراة .
وقد جمعت الآية من الدلائل على قلّة اكتراثهم بالدّين ورقّة اتِّباعهم ثلاثة أصول من ذلك : وهي التعمّد إلى نقض ما عاهدوا عليه من الامتثال ، والغرور بسوء التأويل ، والنسيان الناشىءُ عن قلّة تعهّد الدّين وقلّة الاهتمام به .
والمقصود من هذا أن نعتبر بحالهم ونتّعظ من الوقوع في مثلها . وقد حاط علماء الإسلام رضي الله عنهم هذا الدّين من كلّ مسارب التحريف ، فميّزوا الأحكام المنصوصة والمقيسة ووضعوا ألقاباً للتمييز بينها ، ولذلك قالوا في الحكم الثابت بالقياس : يجوز أن يقال : هو دين الله ، ولا يجوز أن يُقال : قاله الله .
وقوله : { ولا تزال تطّلع على خائنة منهم } انتقال من ذكر نقضهم لعهد الله إلى خيسهم بعهدهم مع النّبيء صلى الله عليه وسلم وفِعل { لا تزال } يدلّ على استمرار ، لأنّ المضارع للدلالة على استمرار الفعل لأنّه في قوة أن يقال : يدوم اطّلاعك . فالاطّلاع مجاز مشهور في العلم بالأمر ، والاطّلاع هنا كناية عن المطّلع عليه ، أي لا يزالون يخونون فتطّلع على خيانتهم .
والاطّلاع افتعال من طَلع . والطلوع : الصعود . وصيغة الافتعال فيه لمجرّد المبالغة ، إذ ليس فعله متعدّياً حتّى يصاغ له مطاوع ، فاطّلع بمنزلة تطّلع ، أي تكلّف الطلوع لقصد الإشراف . والمعنى : ولا تزال تكشف وتشاهد خائنة منهم .
والخائنة : الخيانة فهو مصدر على وزن الفاعلة ، كالعاقبة ، والطاغية . ومنه { يعلم خائنة الأعين } [ غافر : 19 ] . وأصْل الخيانة : عدم الوفاء بالعهد ، ولعلّ أصلها إظهار خلاف الباطن . وقيل : { خائنة } صفة لمحذوف ، أي فرقة خائنة .
واستثنى قليلاً منهم جُبلوا على الوفاء ، وقد نقض يهود المدينة عهدهم مع رسول الله والمسلمين فظاهروا المشركين في وقعة الأحزاب ، قال تعالى : { وأنزَل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم } [ الأحزاب : 26 ] . وأمْره بالعفو عنهم والصفح حمل على مكارم الأخلاق ، وذلك فيما يرجع إلى سوء معاملتهم للنّبيء صلى الله عليه وسلم وليس المقام مقام ذكر المناواة القومية أو الدّينية ، فلا يعارض هذا قوله في براءة { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحقّ من الّذين أوتوا الكتاب حتّى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } [ التوبة : 29 ] لأنّ تلك أحكام التصرّفات العامّة ، فلا حاجة إلى القول بأنّ هذه الآية نسخت بآية براءة .