فعلم { مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ْ } أي : أمورهم الماضية والمستقبلة ، فلا خروج لهم عن علمه ، كما لا خروج لهم عن أمره وتدبيره .
ومن جزئيات وصفهم ، بأنهم لا يسبقونه بالقول ، أنهم لا يشفعون لأحد بدون إذنه ورضاه ، فإذا أذن لهم ، وارتضى من يشفعون فيه ، شفعوا فيه ، ولكنه تعالى لا يرضى من القول والعمل ، إلا ما كان خالصا لوجهه ، متبعا فيه الرسول ، وهذه الآية من أدلة إثبات الشفاعة ، وأن الملائكة يشفعون .
{ وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ْ } أي : خائفون وجلون ، قد خضعوا لجلاله ، وعنت وجوههم لعزه وجماله .
{ يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم } لا تخفى عليه خافية مما قدموا وأخروا وهو كالعلة لما قبله والتمهيد لما بعده فإنهم لإحاطتهم بذلك يضبطون أنفسهم ويراقبون أحوالهم . { ولا يشفعون إلا لمن أرتضى } أن يشفع له مهابة منه . { وهم من خشيته } عظمته ومهابته . { مشفقون } مرتعدون ، وأصل الخشية خوف مع تعظيم ولذلك خص بها العلماء . والإشفاق خوف مع اعتناء فإن عدي بمن فمعنى الخوف فيه أظهر وإن عدي بعلى فبالعكس .
قوله تعالى { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم } تقدم نظيره في سورة البقرة ( 255 ) .
وقوله تعالى { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } تخصيص بالذكر لبعض ما شمله قوله تعالى { لا يسبقونه بالقول } اهتماماً بشأنه لأنه مما كفروا بسببه إذ جعلوا الآلهة شفعاء لهم عند الله .
وحذف مفعول { ارتضى } لأنه عائد صلة منصوب بفعل ، والتقدير : لمن ارتضاه ، أي ارتضى الشفاعة له بأن يأذن الملائكة أن يشفعوا له إظهاراً لكرامتهم عند الله أو استجابةً لاستغفارهم لمن في الأرض ، كما قال تعالى { والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض } في سورة الشورى ( 5 ) . وذلك الاستغفار من جملة ما خلقوا لأجله فليس هو من التقدم بالقول .
ثم زاد تعظيمهم ربهم تقريراً بقوله تعالى : وهم من خشيته مشفقون } ، أي هم يعظمونه تعظيم من يخاف بطشته ويحذر مخالفة أمره .
و { مِن } في قوله تعالى { من خشيته } للتعليل ، والمجرور ظرف مستقر ، وهو حال من المبتدأ . و { مشفقون } خبر ، أي وهم لأجل خشيته ، أي خشيتهم إياه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم}: يعلم ما كان قبل أن يخلق الملائكة، ويعلم ما كان بعد خلقهم.
{ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} يقول: لا تشفع الملائكة إلا لمن رضي الله أن يشفع له، يعني: من أهل التوحيد الذين لا يقولون إن الملائكة بنات الله عز وجل، لأن كفار مكة زعموا أن الملائكة تشفع لهم في الآخرة إلى الله عز وجل، ثم قال سبحانه يعني الملائكة: {وهم من خشيته مشفقون}، يعني: خائفين.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: يعلم ما بين أيدي ملائكته ما لم يبلغوه ما هو وما هم فيه قائلون وعاملون، "وَمَا خَلْفَهُمْ "يقول: وما مضى من قبل اليوم مما خلفوه وراءهم من الأزمان والدهور ما عملوا فيه، قالوا: ذلك كله مُحْصًى لهم وعليهم، لا يخفى عليه من ذلك شيء...
"وَلا يَشْفَعُونَ إلاّ لِمَنِ ارْتَضَى" يقول: ولا تشفع الملائكة إلا لمن رضي الله عنه...
وقوله: "وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ" يقول: وهم من خوف الله وحذار عقابه أن يحلّ بهم مشفقون، يقول: حذرون أن يعصوه ويخالفوا أمره ونهيه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} كقوله في آية أخرى: {يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمان ورضي له قولا} [طه: 109] فيكون تأويل قوله: {إلا لمن ارتضى} أي إلا لمن أذن له. ثم يتوجه قوله: {إلا لمن ارتضى} إلى الشفيع، أي لا يؤذن لأحد بالشفاعة إلا من كان مرضيا مرتضى دينا وعملا. ويتوجه قوله: {إلا لمن ارتضى} إلى المشفوع له {إلا لمن ارتضى} عنه الرب مذهبا وعملا حتى لم يدخل في عمله تقصير...
{وهم من خشيته مشفقون} هذا، والله أعلم، كأنه صلة قوله: {لا يسبقونه بالقول} أي من خشية عذابه وهيبته لا يتقدمون بقول، ولا فعل، ولا أمر، ولا نهي خوفا منه وهيبة، والله أعلم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وجميع ما يأتون ويذرون مما قدّموا وأخروا بعين الله، وهو مجازيهم عليه، فلإحاطتهم بذلك يضبطون أنفسهم، ويراعون أحوالهم، ويعمرون أوقاتهم. ومن تحفظهم أنهم لا يجسرون أن يشفعوا إلا لمن ارتضاه الله وأهَّله للشفاعة في ازدياد الثواب والتعظيم، ثم أنهم مع هذا كله من خشية الله {مُشْفِقُونَ} أي متوقعون من أمارة ضعيفة، كائنون على حذر ورقبة لا يأمنون مكر الله.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
«والمشفق»: البالغ في الخوف المحترق من الفزع على أمر ما.
وحقيقة المعنى أنهم يتقلبون تحت قدرته في ملكوته وهو محيط بهم، وإذا كانت هذه حالتهم فكيف... يتقدمون بين يدي الله تعالى فيشفعون لمن لم يأذن الله تعالى له؟ ثم كشف عن هذا المعنى فقال: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى}.
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
{وهم من خشيته} عظمته ومهابته... وأصل الخشية خوف مع تعظيم ولذلك خص بها العلماء. والإشفاق خوف مع اعتناء، فإن عدي بمن فمعنى الخوف فيه أظهر، وإن عدي بعلى فبالعكس.
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
والإشفاق: الخوف مع التوقع والحذر.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} تخصيص بالذكر لبعض ما شمله قوله تعالى {لا يسبقونه بالقول} اهتماماً بشأنه لأنه مما كفروا بسببه إذ جعلوا الآلهة شفعاء لهم عند الله.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ومن بديع اللغة العربية، أنّ «الخشية» من ناحية الأصل اللغوي لا تعني كلّ خوف، بل الخوف المقترن بالتعظيم والاحترام.
وكلمة «مشفق» من مادّة الإشفاق، بمعنى التوجّه الممتزج بالخوف، لأنّها في الأصل مأخوذة من الشفق، وهو الضياء الممتزج بالظلمة.
فبناءً على هذا، فإنّ خوف الملائكة ليس كخوف الإنسان من حادثة مرعبة مخيفة، وكذلك إشفاقهم فإنّه لا يشبه خوف الإنسان من موجود خطر، بل إنّ خوفهم وإشفاقهم ممزوجان بالاحترام، والعناية والتوجّه، والمعرفة والإحساس بالمسؤولية.