تحدثت هذه السورة الكريمة عن بعث الناس وحسابهم ، وعن القيامة وأهوالها ، ثم طمأنت الرسول صلى الله عليه وسلم على جمع القرآن في صدره ، ووجهت الردع إلى من يحبون العاجلة ويذرون الآخرة ، ووازنت بين وجوه المؤمنين الناضرة ، ووجوه الكافرين الباسرة ، وتحدثت كذلك عن حال المحتضر ، وما كان من تقصيره في الواجبات حتى كأنه يظن أن لا حساب عليه ، وختمت بالأدلة التي توجب الإيمان بالبعث .
1 - أقسم وأؤكد القسم بيوم القيامة - وهو الحق الثابت - وأقسم وأؤكد القسم بالنفس التي تلوم صاحبها على الذنب والتقصير ، لتبعثن بعد جمع ما تفرق من عظامكم ، أيحسب الإنسان - بعد أن خلقناه من عدم - أن لن نجمع ما بلى وتفرق من عظامه ؟ .
{ 1 - 6 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ * أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ * بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ * يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ }
ليست { لا } [ ها ] هنا نافية ، [ ولا زائدة ] وإنما أتي بها للاستفتاح والاهتمام بما بعدها ، ولكثرة الإتيان بها مع اليمين ، لا يستغرب الاستفتاح بها ، وإن لم تكن في الأصل موضوعة للاستفتاح .
فالمقسم به في هذا الموضع ، هو المقسم عليه ، وهو البعث بعد الموت ، وقيام الناس من قبورهم ، ثم وقوفهم ينتظرون ما يحكم به الرب عليهم .
سورة القيامة مكية وآياتها أربعون
هذه السورة الصغيرة تحشد على القلب البشري من الحقائق والمؤثرات والصور والمشاهد ، والإيقاعات واللمسات ، ما لا قبل له بمواجهته ولا التفلت منه . . تحشدها بقوة ، في أسلوب خاص ، يجعل لها طابعا قرآنيا مميزا ، سواء في أسلوب الأداء التعبيري ، أو أسلوب الأداء الموسيقي ، حيث يجتمع هذا وذاك على إيقاع تأثير شعوري قوي ، تصعب مواجهته ويصعب التفلت منه أيضا !
إنها تبدأ في الآيتين الأوليين منها بإيقاع عن القيامة ، وإيقاع عن النفس : ( لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة ) . . ثم يستطرد الحديث فيها متعلقا بالنفس ومتعلقا بالقيامة ، من المطلع إلى الختام ، تزاوج بين النفس وبين القيامة حتى تنتهي . وكأن هذا المطلع إشارة إلى موضوع السورة . أو كأنه اللازمة الإيقاعية التي ترتد إليها كل إيقاعات السورة ، بطريقة دقيقة جميلة . .
من تلك الحقائق الكبيرة التي تحشدها هذه السورة في مواجهة القلب البشري ، وتضرب بها عليه حصارا لا مهرب منه . . حقيقة الموت القاسية الرهيبة التي تواجه كل حي ، فلا يملك لها ردا ، ولا يملك لها أحد ممن حوله دفعا . وهي تتكرر في كل لحظة ، ويواجهها الكبار والصغار ، والأغنياء والفقراء ، والأقوياء والضعاف ، ويقف الجميع منها موقفا واحدا . . لا حيلة . ولا وسيلة . ولا قوة . ولا شفاعة . ولا دفع . ولا تأجيل . . مما يوحي بأنها قادمة من جهة عليا لا يملك البشر معها شيئا . ولا مفر من الاستسلام لها ، والاستسلام لإرادة تلك الجهة العليا . . وهذا هو الإيقاع الذي تمس به السورة القلوب وهي تقول : ( كلا ! إذا بلغت التراقي ، وقيل : من راق ? وظن أنه الفراق . والتفت الساق بالساق . . إلى ربك يومئذ المساق ) . .
ومن تلك الحقائق الكبيرة التي تعرضها السورة ، حقيقة النشأة الأولى ، ودلالتها على صدق الخبر بالنشأة الأخرى ، وعلى أن هناك تدبيرا في خلق هذا الإنسان وتقديرا . . وهي حقيقة يكشف الله للناس عن دقة أدوارها وتتابعها في صنعة مبدعة ، لا يقدر عليها إلى الله ، ولا يدعيها أحد ممن يكذبون بالآخرة ويتمارون فيها . فهي قاطعة في أن هناك إلها واحدا يدبر هذا الأمر ويقدره ؛ كما أنها بينة لا ترد على يسر النشأة الآخرة ، وإيحاء قوي بضرورة النشأة الأخرى ، تمشيا مع التقدير والتدبير الذي لا يترك هذا الإنسان سدى ، ولا يدع حياته وعمله بلا وزن ولا حساب . . وهذا هو الإيقاع الذي تمس السورة به القلوب وهي تقول في أولها : ( أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه ? )ثم تقول في آخرها : ( أيحسب الإنسان أن يترك سدى ? ألم يك نطفة من مني يمنى ? ثم كان علقة فخلق فسوى ? فجعل منه الزوجين : الذكر والأنثى ? أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى ? ) . .
ومن المشاهد المؤثرة التي تحشدها السورة ، وتواجه بها القلب البشري مواجهة قوية . . مشهد يوم القيامة وما يجري فيه من انقلابات كونية ، ومن اضطرابات نفسية ، ومن حيرة في مواجهة الأحداث الغالبة حيث يتجلى الهول في صميم الكون ، وفي أغوار النفس وهي تروغ من هنا ومن هناك كالفأر في المصيدة ! وذلك ردا على تساؤل الإنسان عن يوم القيامة في شك واستبعاد ليومها المغيب ، واستهانة بها ولجاج في الفجور . فيجيء الرد في إيقاعات سريعة ، ومشاهد سريعة ، وومضات سريعة : ( بل يريد الإنسان ليفجر أمامه . يسأل : أيان يوم القيامة ? فإذا برق البصر ، وخسف القمر ، وجمع الشمس والقمر ، يقول الإنسان يومئذ : أين المفر ? كلا ! لا وزر ، إلى ربك يومئذ المستقر ، ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر . بل الإنسان على نفسه بصيرة ، ولو ألقى معاذيره ! ) . .
ومن هذه المشاهد مشهد المؤمنين المطمئنين إلى ربهم ، المتطلعين إلى وجهه الكريم في ذلك الهول . ومشهد الآخرين المقطوعي الصلة بالله ، وبالرجاء فيه ، المتوقعين عاقبة ما أسلفوا من كفر ومعصية وتكذيب . وهو مشهد يعرض فيه قوة وحيوية كأنه حاضر لحظة قراءة القرآن . وهو يعرض ردا على حب الناس للعاجلة ، وإهمالهم للآخرة . وفي الآخرة يكون هذا الذي يكون : ( كلا ! بل تحبون العاجلة ، وتذرون الآخرة . وجوه يومئذ ناضرة ، إلى ربها ناظرة . ووجوه يومئذ باسرة ، تظن أن يفعل بها فاقرة ! ) . .
وفي ثنايا السورة وحقائقها تلك ومشاهدها تعترض أربع آيات تحتوي توجيها خاصا للرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وتعليما له في شأن تلقي هذا القرآن . ويبدو أن هذا التعليم جاء بمناسبة حاضرة في السورة ذاتها . إذ كان الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] يخاف أن ينسى شيئا مما يوحى إليه ، فكان حرصه على التحرز من النسيان يدفعه إلى استذكار الوحي فقرة فقرة في أثناء تلقيه ؛ وتحريك لسانه به ليستوثق من حفظه . فجاء هذا التعليم : ( لا تحرك به لسانك لتعجل به ، إن علينا جمعه وقرآنه ، فإذا قرأناه ، فاتبع قرآنه ، ثم إن علينا بيانه ) . . جاءه هذا التعليم ليطمئنه إلى أن أمر هذا الوحي ، وحفظ هذا القرآن ، وجمعه ، وبيان مقاصده . . كل أولئك موكول إلى صاحبه . ودوره هو ، هو التلقي والبلاغ . فليطمئن بالا ، وليتلق الوحي كاملا ، فيجده في صدره منقوشا ثابتا . . وهكذا كان . . فأما هذا التعليم فقد ثبت في موضعه حيث نزل . . أليس من قول الله ? وقول الله ثابت في أي غرض كان ? ولأي أمر أراد ? وهذه كلمة من كلماته تثبت في صلب الكتاب شأنها شأن بقية الكتاب . . ودلالة إثبات هذه الآيات في موضعها هذا من السورة دلالة عميقة موحية على حقيقة لطيفة في شأن كل كلمات الله في أي إتجاه . . وفي شأن هذا القرآن وتضمنه لكل كلمات الله التي أوحى بها إلى الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] لم يخرم منها حرف ، ولم تند منها عبارة . فهو الحق والصدق والتحرج والوقار !
وهكذا يشعر القلب - وهو يواجه هذه السورة - أنه محاصر لا يهرب . مأخوذ بعمله لا يفلت . لا ملجأ له من الله ولا عاصم . مقدرة نشأته وخطواته بعلم الله وتدبيره ، في النشأة الأولى وفي النشأة الآخرة سواء ، بينما هو يلهو ويلعب ويغتر ويتبطر : ( فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى . ثم ذهب إلى أهله يتمطى ) . .
وفي مواجهة تلك الحشود من الحقائق والمؤثرات واللمسات والإيحاءات يسمع التهديد الملفوف : ( أولى لك فأولى . ثم أولى لك فأولى )فيكون له وقعه ومعناه !
وهكذا تعالج السورة عناد هذا القلب وإعراضه وإصراره ولهوه . وتشعره بالجد الصارم الحازم في هذا الشأن ، شأن القيامة ، وشأن النفس وشأن الحياة المقدرة بحساب دقيق . ثم شأن هذا القرآن الذي لا يخرم منه حرف ، لأنه من كلام العظيم الجليل ، الذي تتجاوب جنبات الوجود بكلماته ، وتثبت في سجل الكون الثابت ، وفي صلب هذا الكتاب الكريم .
وقد عرضنا نحن لحقائق السورة ومشاهدها فرادى لمجرد البيان . وهي في نسق السورة شيء آخر . إذ أن تتابعها في السياق ، والمزاوجة بينها هنا وهناك ، ولمسة القلب بجانب من الحقيقة مرة ، ثم العودة إليه بالجانبالآخر بعد فترة . . كل ذلك من خصائص الأسلوب القرآني في مخاطبة القلب البشري ؛ مما لا يبلغ إليه أسلوب آخر ، ولا طريقة أخرى . .
لا أقسم بيوم القيامة ، ولا أقسم بالنفس اللوامة ، أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه ? بلى قادرين على أن نسوي بنانه ، بل يريد الإنسان ليفجر أمامه ، يسأل : أيان يوم القيامة ? فإذا برق البصر ، وخسف القمر ، وجمع الشمس والقمر . . يقول الإنسان يومئذ : أين المفر ? كلا لا وزر . إلى ربك يومئذ المستقر ، ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر ، بل الإنسان على نفسه بصيرة ، ولو ألقى معاذيره . .
هذا التلويح بالقسم مع العدول عنه أوقع في الحس من القسم المباشر ؛ وهذا الوقع هو المقصود من العبارة ، وهو يتم أحسن تمام بهذا الأسلوب الخاص ، الذي يتكرر في مواضع مختلفة من القرآن . . ثم تبرز من ورائه حقيقة القيامة وحقيقة النفس اللوامة .