المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَلَا تَنكِحُواْ ٱلۡمُشۡرِكَٰتِ حَتَّىٰ يُؤۡمِنَّۚ وَلَأَمَةٞ مُّؤۡمِنَةٌ خَيۡرٞ مِّن مُّشۡرِكَةٖ وَلَوۡ أَعۡجَبَتۡكُمۡۗ وَلَا تُنكِحُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤۡمِنُواْۚ وَلَعَبۡدٞ مُّؤۡمِنٌ خَيۡرٞ مِّن مُّشۡرِكٖ وَلَوۡ أَعۡجَبَكُمۡۗ أُوْلَـٰٓئِكَ يَدۡعُونَ إِلَى ٱلنَّارِۖ وَٱللَّهُ يَدۡعُوٓاْ إِلَى ٱلۡجَنَّةِ وَٱلۡمَغۡفِرَةِ بِإِذۡنِهِۦۖ وَيُبَيِّنُ ءَايَٰتِهِۦ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ يَتَذَكَّرُونَ} (221)

221- وإذا كانت مخالطة اليتامى لا حرج فيها فإن الحرج في مخالطة أهل الشرك ، فلا ينكح المؤمن مشركة لا تدين بكتاب سماوي ، ولا يحمل المرء منكم على زواج المشركة مالها وجمالها وحسبها ونسبها . فالمؤمنة التي وقع عليها الرق خير من المشركة الحرة ذات المال والجمال والحسب والنسب ، ولا يزوج المرء منكم من له عليه ولاية من النساء مشركاً لا يؤمن بالكتب السماوية ، ولا يبعث أحدكم على إيثار المشرك غناه وشرفه ، فخير منه العبد المؤمن ، فأولئك المشركون يجتذبون عشراءهم إلى المعصية والشرك فيستوجبون النار . والله إذ يدعوكم إلى اعتزال المشركين في النكاح يدعوكم إلى ما فيه صلاحكم ورشادكم لتنالوا الجنة والمغفرة ، وتسيروا في طريق الخير بتيسيره ، والله يبين شرائعه وهديه للناس لعلهم يعرفون صلاحهم ورشادهم .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَلَا تَنكِحُواْ ٱلۡمُشۡرِكَٰتِ حَتَّىٰ يُؤۡمِنَّۚ وَلَأَمَةٞ مُّؤۡمِنَةٌ خَيۡرٞ مِّن مُّشۡرِكَةٖ وَلَوۡ أَعۡجَبَتۡكُمۡۗ وَلَا تُنكِحُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤۡمِنُواْۚ وَلَعَبۡدٞ مُّؤۡمِنٌ خَيۡرٞ مِّن مُّشۡرِكٖ وَلَوۡ أَعۡجَبَكُمۡۗ أُوْلَـٰٓئِكَ يَدۡعُونَ إِلَى ٱلنَّارِۖ وَٱللَّهُ يَدۡعُوٓاْ إِلَى ٱلۡجَنَّةِ وَٱلۡمَغۡفِرَةِ بِإِذۡنِهِۦۖ وَيُبَيِّنُ ءَايَٰتِهِۦ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ يَتَذَكَّرُونَ} (221)

{ وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ }

أي : { وَلَا تَنْكِحُوا } النساء { الْمُشْرِكَاتِ } ما دمن على شركهن { حَتَّى يُؤْمِنَّ } لأن المؤمنة ولو بلغت من الدمامة ما بلغت خير من المشركة ، ولو بلغت من الحسن ما بلغت ، وهذه عامة في جميع النساء المشركات ، وخصصتها آية المائدة ، في إباحة نساء أهل الكتاب كما قال تعالى : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ }

{ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا } وهذا عام لا تخصيص فيه .

ثم ذكر تعالى ، الحكمة في تحريم نكاح المسلم أو المسلمة ، لمن خالفهما في الدين فقال : { أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ } أي : في أقوالهم أو أفعالهم وأحوالهم ، فمخالطتهم على خطر منهم ، والخطر ليس من الأخطار الدنيوية ، إنما هو الشقاء الأبدي .

ويستفاد من تعليل الآية ، النهي عن مخالطة كل مشرك ومبتدع ، لأنه إذا لم يجز التزوج مع{[139]}  أن فيه مصالح كثيرة فالخلطة المجردة من باب أولى ، وخصوصا ، الخلطة التي فيها ارتفاع المشرك ونحوه على المسلم ، كالخدمة ونحوها .

وفي قوله : { وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ } دليل على اعتبار الولي [ في النكاح ] .

{ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ } أي : يدعو عباده لتحصيل الجنة والمغفرة ، التي من آثارها ، دفع العقوبات وذلك بالدعوة إلى أسبابها من الأعمال الصالحة ، والتوبة النصوح ، والعلم النافع ، والعمل الصالح .

{ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ } أي : أحكامه وحكمها { لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } فيوجب لهم ذلك التذكر لما نسوه ، وعلم ما جهلوه ، والامتثال لما ضيعوه .


[139]:- في أ: لمع.
 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَلَا تَنكِحُواْ ٱلۡمُشۡرِكَٰتِ حَتَّىٰ يُؤۡمِنَّۚ وَلَأَمَةٞ مُّؤۡمِنَةٌ خَيۡرٞ مِّن مُّشۡرِكَةٖ وَلَوۡ أَعۡجَبَتۡكُمۡۗ وَلَا تُنكِحُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤۡمِنُواْۚ وَلَعَبۡدٞ مُّؤۡمِنٌ خَيۡرٞ مِّن مُّشۡرِكٖ وَلَوۡ أَعۡجَبَكُمۡۗ أُوْلَـٰٓئِكَ يَدۡعُونَ إِلَى ٱلنَّارِۖ وَٱللَّهُ يَدۡعُوٓاْ إِلَى ٱلۡجَنَّةِ وَٱلۡمَغۡفِرَةِ بِإِذۡنِهِۦۖ وَيُبَيِّنُ ءَايَٰتِهِۦ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ يَتَذَكَّرُونَ} (221)

221

والأن نواجه النصوص القرآنية بالتفصيل :

( ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ، ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ؛ ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا . ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم . أولئك يدعون إلى النار . والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه ؛ ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون ) . .

النكاح - وهو الزواج - أعمق وأقوى وأدوم رابطة تصل بين اثنين من بني الإنسان ؛ وتشمل أوسع الاستجابات التي يتبادلها فردان . فلا بد إذن من توحد القلوب ، والتقائها في عقدة لا تحل . ولكي تتوحد القلوب يجب أن يتوحد ما تنعقد عليه ، وما تتجه إليه . والعقيدة الدينية هي أعمق وأشمل ما يعمر النفوس ، ويؤثر فيها ، ويكيف مشاعرها ، ويحدد تأثراتها واستجاباتها ، ويعين طريقها في الحياة كلها . وإن كان الكثيرون يخدعهم أحيانا كمون العقيدة أو ركودها . فيتوهمون أنها شعور عارض يمكن الاستغناء عنه ببعض الفلسفات الفكرية ، أو بعض المذاهب الاجتماعية . وهذا وهم وقلة خبرة بحقيقة النفس الإنسانية ، ومقوماتها الحقيقية . وتجاهل لواقع هذه النفس وطبيعتها .

ولقد كانت النشأة الأولى للجماعة المسلمة في مكة لا تسمح في أول الأمر بالانفصال الاجتماعي الكامل الحاسم ، كالانفصال الشعوري الاعتقادي الذي تم في نفوس المسلمين . لأن الأوضاع الاجتماعية تحتاج إلى زمن وإلى تنظيمات متريثة . فلما أن أراد الله للجماعة المسلمة أن تستقل في المدينة ، وتتميز شخصيتها الاجتماعية كما تميزت شخصيتها الاعتقادية . بدأ التنظيم الجديد يأخذ طريقه ، ونزلت هذه الآية . نزلت تحرم إنشاءأي نكاح جديد بين المسلمين والمشركين - فأما ما كان قائما بالفعل من الزيجات فقد ظل إلى السنة السادسة للهجرة حين نزلت في الحديبية آية سورة الممتحنة : يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن . الله أعلم بإيمانهن . فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار . لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن . . ( ولا تمسكوا بعصم الكوافر . . . ) . . . فانتهت آخر الارتباطات بين هؤلاء وهؤلاء .

لقد بات حراما أن ينكح المسلم مشركة ، وأن ينكح المشرك مسلمة . حرام أن يربط الزواج بين قلبين لا يجتمعان على عقيدة . إنه في هذه الحالة رباط زائف واه ضعيف . إنهما لا يلتقيان في الله ، ولا تقوم على منهجه عقدة الحياة . والله الذي كرم الإنسان ورفعه على الحيوان يريد لهذه الصلة ألا تكون ميلا حيوانيا ، ولا اندفاعا شهوانيا . إنما يريد أن يرفعها حتى يصلها بالله في علاه ؛ ويربط بينها وبين مشيئته ومنهجه في نمو الحياة وطهارة الحياة .

ومن هنا جاء ذلك النص الحاسم الجازم :

( ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ) . .

فإذا أمن فقد زالت العقبة الفاصلة ؛ وقد التقى القلبان في الله ؛ وسلمت الآصرة الإنسانية بين الاثنين مما كان يعوقها ويفسدها . سلمت تلك الآصرة ، وقويت بتلك العقدة الجديدة : عقدة العقيدة .

( ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ) . .

فهذا الإعجاب المستمد من الغريزة وحدها ، لا تشترك فيه مشاعر الإنسان العليا ، ولا يرتفع عن حكم الجوارح والحواس . وجمال القلب أعمق وأغلى ، حتى لو كانت المسلمة أمة غير حرة . فإن نسبها إلى الإسلام يرفعها عن المشركة ذات الحسب . إنه نسب في الله وهو أعلى الأنساب .

( ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا . ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم ) . .

القضية نفسها تتكرر في الصورة الأخرى ، توكيدا لها وتدقيقا في بيانها والعلة في الأولى هي العلة في الثانية :

( أولئك يدعون إلى النار ، والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه . ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون ) . .

إن الطريقين مختلفان ، والدعوتين مختلفتان ، فكيف يلتقي الفريقان في وحدة تقوم عليها الحياة ؟

إن طريق المشركين والمشركات إلى النار ، ودعوتهم إلى النار . وطريق المؤمنين والمؤمنات هو طريق الله . والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه . . فما أبعد دعوتهم إذن من دعوة الله !

ولكن أويدعو أولئك المشركون والمشركات إلى النار ؟ ومن الذي يدعو نفسه أو غيره إلى النار ؟ !

ولكنها الحقيقة الأخيرة يختصر السياق إليها الطريق ! ويبرزها من أولها دعوة إلى النار ، بما أن مآلها إلى النار . والله يحذر من هذه الدعوة المردية ( ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون ) . . فمن لم يتذكر ، واستجاب لتلك الدعوة فهو الملوم !

هنا نتذكر أن الله لم يحرم زواج المسلم من كتابية - مع اختلاف العقيدة - ولكن الأمر هنا يختلف . إن المسلم والكتابية يلتقيان في أصل العقيدة في الله . وإن اختلفت التفصيلات التشريعية . .

وهناك خلاف فقهي في حالة الكتابية التي تعتقد أن الله ثالث ثلاثة ، أو أن الله هو المسيح بن مريم ، أو أن العزيز ابن الله . . أهي مشركة محرمة . أم تعتبر من أهل الكتاب وتدخل في النص الذي في المائدة : ( اليوم أحل لكم الطيبات ) . . . ( والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ) . . والجمهور على أنها تدخل في هذا النص . . ولكني أميل إلى اعتبار الرأي القائل بالتحريم في هذه الحالة . وقد رواه البخاري عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : قال ابن عمر : " لا أعلم شركا أعظم من أن تقول ربها عيسى " . .

فأما الأمر في زواج الكتابي من مسلمة فهو محظور ؛ لأنه يختلف في واقعه عن زواج المسلم بكتابية - غير مشركة - ومن هنا يختلف في حكمه . . إن الأطفال يدعون لآبائهم بحكم الشريعة الإسلامية . كما أن الزوجة هي التي تتنقل إلى أسرة الزوج وقومه وأرضه بحكم الواقع . فإذا تزوج المسلم من الكتابية [ غير المشركة ] انتقلت هي إلى قومه ، ودعي أبناؤه منها باسمه ، فكان الإسلام هو الذي يهيمن ويظلل جو المحصن . ويقع العكس حين تتزوج المسلمة من كتابي ، فتعيش بعيدا عن قومها ، وقد يفتنها ضعفها ووحدتها هنالك عن إسلامها ، كما أن أبناءها يدعون إلى زوجها ، ويدينون بدين غير دينها . والإسلام يجب أن يهيمن دائما .

على أن هناك اعتبارات عملية قد تجعل المباح من زواج المسلم بكتابية مكروها . وهذا ما رآه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أمام بعض الاعتبارات :

قال ابن كثير في التفسير : " قال أبو جعفر بن جرير رحمه الله - بعد حكايته الإجماع على إباحة تزويج الكتابيات - وإنما كره عمر ذلك لئلا يزهد الناس في المسلمات ، أو لغير ذلك من المعاني " . .

وروي أن حذيفة تزوج يهودية فكتب إليه عمر : خل سبيلها . فكتب إليه : أتزعم أنها حرام فأخلي سبيلها ؟ فقال : لا أزعم أنها حرام ولكن أخاف أن تعاظلوا المؤمنات منهن . وفي رواية أخرى أنه قال : المسلم يتزوج النصرانية . والمسلمة ؟

ونحن نرى اليوم أن هذه الزيجات شر على البيت المسلم . . فالذي لا يمكن إنكاره واقعيا أن الزوجة اليهودية أو المسيحية أو اللادينية تصبغ بيتها وأطفالها بصبغتها ، وتخرج جيلا أبعد ما يكون عن الإسلام . وبخاصة في هذا المجتمع الجاهلي الذي نعيش فيه ، والذي لا يطلق عليه الإسلام إلا تجوزا في حقيقة الأمر . والذي لا يمسك من الإسلام إلا بخيوط واهية شكلية تقضي عليها القضاء الأخير زوجة تجيء من هناك !

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَلَا تَنكِحُواْ ٱلۡمُشۡرِكَٰتِ حَتَّىٰ يُؤۡمِنَّۚ وَلَأَمَةٞ مُّؤۡمِنَةٌ خَيۡرٞ مِّن مُّشۡرِكَةٖ وَلَوۡ أَعۡجَبَتۡكُمۡۗ وَلَا تُنكِحُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤۡمِنُواْۚ وَلَعَبۡدٞ مُّؤۡمِنٌ خَيۡرٞ مِّن مُّشۡرِكٖ وَلَوۡ أَعۡجَبَكُمۡۗ أُوْلَـٰٓئِكَ يَدۡعُونَ إِلَى ٱلنَّارِۖ وَٱللَّهُ يَدۡعُوٓاْ إِلَى ٱلۡجَنَّةِ وَٱلۡمَغۡفِرَةِ بِإِذۡنِهِۦۖ وَيُبَيِّنُ ءَايَٰتِهِۦ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ يَتَذَكَّرُونَ} (221)

هذا تحريم من الله عزّ وجل على المؤمنين أن يتزوّجوا المشركات من عبدة الأوثان . ثم إن كان عمومُها مرادًا ، وأنَّه يدخل فيها كل مشركة من كتابية ووثنية ، فقد خَص من ذلك نساء أهل الكتاب بقوله : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ [ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ ]{[3808]} } [ المائدة : 5 ] .

قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } استثنى الله من ذلك نساء أهل الكتاب . وهكذا قال مجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، ومكحول ، والحسن ، والضحاك ، وزيد بن أسلم ، والربيع بن أنس ، وغيرهم .

وقيل : بل المراد بذلك المشركون{[3809]} من عبدة الأوثان ، ولم يُردْ أهل الكتاب بالكلية ، والمعنى قريب من الأول ، والله أعلم .

فأما ما رواه ابن جرير : حدثني عبيد بن آدم بن أبي إياس العسقلاني ، حدثنا أبي ، حدثنا عبد الحميد بن بَهْرَام الفزاري ، حدثنا شَهْر بن حَوْشَب قال : سمعت عبد الله بن عباس يقول : نهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن أصناف النساء ، إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات ، وحرّم كل ذات دين غير الإسلام ، قال الله عز وجل : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } [ المائدة : 5 ] . وقد نكح طلحة بن عُبَيد الله يهودية ، ونكح حذيفة بن اليمان نصرانية ، فغضب عمر بن الخطاب غضبًا شديدًا ، حتى هَمَّ أن يسطو عليهما . فقالا نحن نطَلق يا أمير المؤمنين ، ولا تغضب ! فقال : لئن حَلّ طلاقهن لقد حل نكاحهن ، ولكني أنتزعهن منكم صَغَرَة قَمأة{[3810]} - فهو حديث غريب جدًا . وهذا الأثر عن عمر غريب أيضًا .

قال أبو جعفر بن جرير ، رحمه الله ، بعد حكايته الإجماع على إباحة تزويج الكتابيات : وإنما كره عمر ذلك ، لئلا يزهد الناس في المسلمات ، أو لغير ذلك من المعاني ، كما حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا ابن إدريس ، حدثنا الصلت بن بهرام ، عن شقيق قال : تزوج حذيفة يهودية ، فكتب إليه عمر : خَل سبيلها ، فكتب إليه : أتزعم أنها حرام فأخَلي سبيلها ؟ فقال : لا أزعم أنها حرام ، ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهن{[3811]} .

وهذا إسناد صحيح ، وروى الخلال عن محمد بن إسماعيل ، عن وَكِيع ، عن الصلت{[3812]} نحوه .

وقال ابن جرير : حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، حدثنا محمد بن بشر ، حدثنا سفيان{[3813]} بن سعيد ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن زيد بن وهب قال : قال [ لي ]{[3814]} عمر بن الخطاب : المسلم يتزوج النصرانية ، ولا يتزوج النصراني المسلمة .

قال : وهذا أصح إسنادًا من الأول{[3815]} {[3816]} .

ثم قال : وقد حدثنا تميم بن المنتصر ، أخبرنا إسحاق الأزرق{[3817]} عن شريك ، عن أشعث بن سوار ، عن الحسن ، عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نتزوج نساء أهل الكتاب ولا يتزوجون نساءنا " .

ثم قال : وهذا الخبر - وإن كان في إسناده ما فيه - فالقول به لإجماع الجميع من الأمة على صحة القول{[3818]} به{[3819]} .

كذا قال ابن جرير ، رحمه الله .

وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي ، حدثنا وَكِيع ، عن جعفر بن بُرْقان ، عن ميمون بن مِهْران ، عن ابن عمر : أنه كره نكاح أهل الكتاب ، وتأول{[3820]} { وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ }

وقال البخاري : وقال ابن عمر : لا أعلم شركًا أعظم من أن تقول : ربها{[3821]} عيسى{[3822]} .

وقال أبو بكر الخلال الحنبلي : حدثنا محمد بن هارون{[3823]} حدثنا إسحاق بن إبراهيم( ح ) وأخبرني محمد بن علي ، حدثنا صالح بن أحمد : أنهما سألا أبا عبد الله أحمد بن حنبل ، عن قول

الله : { وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } قال : مشركات العرب الذين يعبدون الأوثان{[3824]} .

وقوله : { وَلأمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ } قال السدي : نزلت في عبد الله بن رواحة ، كانت له أمة سوداء ، فغضب عليها فلطمها ، ثم فزع ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبره خبرها . فقال له : " ما هي ؟ " قال : تصوم ، وتصلي ، وتحسن الوضوءَ ، وتشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله . فقال : " يا أبا عبد الله ، هذه مؤمنة " . فقال : والذي بعثك بالحق لأعتقَنَّها ولأتزوجَنها{[3825]} . ففعل ، فطعن عليه ناس من المسلمين ، وقالوا : نكح أمَة . وكانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين ، ويُنكحوهم رغبة في أحسابهم ، فأنزل الله : { وَلأمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ } { وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ }

وقال عبد بن حميد : حدثنا جعفر بن عون ، حدثنا عبد الرحمن بن زياد الإفريقي ، عن عبد الله بن يزيد ، عن عبد الله بن عَمْرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تنكحوا النساء لحسنهن ، فعسى حسنهن أن يرديهن ، ولا تنكحوهن على أموالهن فعسى أموالهن أن تطغيهن{[3826]} وانكحوهن على الدين ، فلأمة سوداء خَرْماء ذات دين أفضل " {[3827]} . والإفريقي ضعيف .

وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " تنكح المرأة لأربع : لمالها ، ولحسبها ولجمالها ، ولدينها ؛ فاظفر بذات الدين تربت يداك " {[3828]} . ولمسلم عن جابر مثله{[3829]} . وله ، عن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الدنيا متاع ، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة " {[3830]} .

وقوله : { وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا } أي : لا تُزَوّجوا الرجال المشركين النساء المؤمنات ، كما قال تعالى : { لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } [ الممتحنة : 10 ] .

ثم قال تعالى : { وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ } أي : ولرجل مؤمن - ولو كان عبدًا حبشيًا - خير من مشرك ، وإن كان رئيسًا سَرِيًا{[3831]} { أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ } أي : معاشَرتهم ومخالطتهم تبعث على حب الدنيا واقتنائها وإيثارها على الدار الآخرة ، وعاقبة ذلك وخيمة { وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ } أي : بشرعه وما أمر به وما نهى عنه { وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ }


[3808]:زيادة من جـ.
[3809]:في أ، و: "المشركين".
[3810]:تفسير الطبري (4/364).
[3811]:تفسير الطبري (4/366).
[3812]:في جـ: "عن الفضل".
[3813]:في أ: "شقيق".
[3814]:زيادة من جـ.
[3815]:في جـ: "وهذا إسناد أصح من الأول".
[3816]:تفسير الطبري (4/367).
[3817]:في أ: "وقد حدثنا تميم بن المنتصر، أخبرنا عثمان بن المنتصر، أخبرنا إسحاق الأزرق".
[3818]:في جـ، أ، و: "الجميع من الأمة عليه".
[3819]:تفسير الطبري (4/367).
[3820]:في جـ: "ولا يتأول".
[3821]:في أ: "ربنا".
[3822]:صحيح البخاري برقم (5285) وهو هنا موصولا عن ابن عمر.
[3823]:في أ، و: "محمد بن أبي هارون".
[3824]:في جـ، أ، و: "الأصنام".
[3825]:في أ: "لأعتقها ولأتزوجنها".
[3826]:في جـ: "أن يطغيهن".
[3827]:المنتخب لعبد بن حميد برقم (328).
[3828]:صحيح البخاري برقم (5090) وصحيح مسلم برقم (1466).
[3829]:صحيح مسلم برقم (715).
[3830]:صحيح مسلم برقم (1457).
[3831]:في جـ: "شريفا".
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَلَا تَنكِحُواْ ٱلۡمُشۡرِكَٰتِ حَتَّىٰ يُؤۡمِنَّۚ وَلَأَمَةٞ مُّؤۡمِنَةٌ خَيۡرٞ مِّن مُّشۡرِكَةٖ وَلَوۡ أَعۡجَبَتۡكُمۡۗ وَلَا تُنكِحُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤۡمِنُواْۚ وَلَعَبۡدٞ مُّؤۡمِنٌ خَيۡرٞ مِّن مُّشۡرِكٖ وَلَوۡ أَعۡجَبَكُمۡۗ أُوْلَـٰٓئِكَ يَدۡعُونَ إِلَى ٱلنَّارِۖ وَٱللَّهُ يَدۡعُوٓاْ إِلَى ٱلۡجَنَّةِ وَٱلۡمَغۡفِرَةِ بِإِذۡنِهِۦۖ وَيُبَيِّنُ ءَايَٰتِهِۦ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ يَتَذَكَّرُونَ} (221)

{ ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } أي ولا تتزوجوهن . وقرئ بالضم أي ولا تزوجوهن من المسلمين ، والمشركات تعم الكتابيات لأن أهل الكتاب مشركون لقوله تعالى : { وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله } إلى قوله : { سبحانه عما يشركون } ولكنها خصت عنها بقوله : { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب } روي ( أنه عليه الصلاة والسلام بعث مرثدا الغنوي إلى مكة ليخرج منها أناسا من المسلمين ، فأتته عناق وكان يهواها في الجاهلية فقالت : ألا تخلو . فقال : إن الإسلام حال بيننا فقالت : هل لك أن تتزوج بي فقال نعم ولكن استأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأمره ) فنزلت { ولأمة مؤمنة خير من مشركة } أي ولامرأة مؤمنة حرة كانت أو مملوكة ، فإن الناس كلهم عبيد الله وإماؤه . { ولو أعجبتكم } بحسنها وشمائلها ، والواو للحال ولو بمعنى إن وهو كثير . { ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا } ولا تزوجوا منهم المؤمنات حتى يؤمنوا ، وهو على عمومه . { ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم } تعليل للنهي عن مواصلتهم ، وترغيب في مواصلة المؤمنين . { أولئك } إشارة إلى المذكورين من المشركين والمشركات . { يدعون إلى النار } أي الكفر المؤدي إلى النار فلا يليق موالاتهم ومصاهرتهم . { والله } أي وأولياؤه ، يعني المؤمنين حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه تفخيما لشأنهم . { يدعو إلى الجنة والمغفرة } أي إلى الاعتقاد والعمل الموصلين إليهما فهم الأحقاء بالمواصلة . { بإذنه } أي بتوفيق الله تعالى وتيسيره ، أو بقضائه وإرادته . { ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون } لكي يتذكروا ، أو ليكونوا بحيث يرجى منهم التذكر لما ركز في العقول من ميل الخير ومخالفة الهوى .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَلَا تَنكِحُواْ ٱلۡمُشۡرِكَٰتِ حَتَّىٰ يُؤۡمِنَّۚ وَلَأَمَةٞ مُّؤۡمِنَةٌ خَيۡرٞ مِّن مُّشۡرِكَةٖ وَلَوۡ أَعۡجَبَتۡكُمۡۗ وَلَا تُنكِحُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤۡمِنُواْۚ وَلَعَبۡدٞ مُّؤۡمِنٌ خَيۡرٞ مِّن مُّشۡرِكٖ وَلَوۡ أَعۡجَبَكُمۡۗ أُوْلَـٰٓئِكَ يَدۡعُونَ إِلَى ٱلنَّارِۖ وَٱللَّهُ يَدۡعُوٓاْ إِلَى ٱلۡجَنَّةِ وَٱلۡمَغۡفِرَةِ بِإِذۡنِهِۦۖ وَيُبَيِّنُ ءَايَٰتِهِۦ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ يَتَذَكَّرُونَ} (221)

كان المسلمون أيام نزول هذه السورة ما زالوا مختلطين مع المشركين بالمدينة وما هم ببعيد عن أقربائهم من أهل مكة فربما رغب بعضهم في تزوج المشركات أو رغب بعض المشركين في تزوج نساء مسلمات فبين الله الحكم في هذه الأحوال ، وقد أوقع هذا البيان بحكمته في أرشق موقعه وأسعده به وهو موقع تعقيب حكم مخالطة اليتامى ، فإن للمسلمين يومئذٍ أقاربَ وموالي لم يزالوا مشركين ومنهم يتامى فقَدوا آباءهم في يوم بدر وما بعده فلما ذكر الله بيان مخالطة اليتامى ، وكانت المصاهرة من أعظم أحوال المخالطة تطلعت النفوس إلى حكم هاته المصاهرة بالنسبة للمشركات والمشركين ، فعطف حكم ذلك على حكم اليتامى لهاته المناسبة .

روى الواحدي وغيره من المفسرين أن سبب نزول هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا مَرْثَد الغَنَوي ويقال مَرْثدا بن أبي مَرْثد واسمه كنَّاز بن حُصَين وكان حليفاً لبني هاشم فبعثه إلى مكة سراً ليخرج رجلاً من المسلمين فسمعت بقدومه امرأة يقال لها عَنَاق وكانت خليلة له في الجاهلية فأتتْه فقالت : ويحك يا مَرثد ألا تخلو ؟ فقال : إن الإسلام حَرَّم ما كان في الجاهلية فقالت : فتزوجني قال : حتى أستأذن رسول الله فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنه فنهاه عن التزوج بها ، لأنها مشركة فنزلت هذه الآية بسببه .

والنكاح في كلام العرب حقيقة في العقد على المرأة ، ولذلك يقولون نكح فلان فلانة ويقولون نكحت فلانة فلاناً فهو حقيقة في العقد ، لأن الكثرة من أمارات الحقيقة وأما استعماله في الوطء فكناية ، وقيل هو حقيقة في الوطء مجاز في العقد . واختاره فقهاء الشافعية وهو قول ضعيف في اللغة ، وقيل حقيقة فيهما فهو مشترك وهو أضعف . قالوا ولم يرد في القرآن إلاّ بمعنى العقد فقيل إلاّ في قوله تعالى : { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره } [ البقرة : 230 ] ، لأنه لا يكفي العقد في تحليل المبتوتة حتى يبني بها زوجها كما في حديث زوجة رفاعة ولكن الأصوبُ أن تلك الآية بمعنى العقد وإنما بينت السنة أنه لا بد مع العقد من الوطء وهذا هو الظاهر ، والمنع في هذه الآية متعلق بالعقد بالاتفاق .

والمشرك في لسان الشرع من يدين بتعدد آلهة مع الله سبحانه ، والمراد به في مواضعه من القرآن مشركو العرب الذين عبدوا آلهة أخرى مع الله تعالى ويقابلهم في تقسيم الكفار أهلُ الكتاب وهم الذين آمنوا بالله ورسله وكتبه ولكنهم أنكروا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم .

ونص هذه الآية تحريم تزوج المسلم المرأةَ المشركة وتحريم تزويج المسلمة الرجلَ المشركَ فهي صريحة في ذلك ، وأما تزوج المسلم المرأة الكتابية وتزويج المسلمة الرجلَ الكتابي فالآية ساكتة عنه ، لأن لفظ المشرك لقب لا مفهوم له إلاّ إذا جَرى على موصوف كما سنبينه عند قوله تعالى : { خير من مشرك } ، وقد أذن القرآن بجواز تزوج المسلم الكتابية في قوله : { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } [ المائدة : 5 ] في سورة العقود فلذلك قال جمهور العلماء بجواز تزوج المسلم الكتابية دون المشركة والمجوسية وعلى هذا الأئمة الأربعة والأوزاعي والثوري ، فبقي تزويج المسلمة من الكتابي لا نص عليه ومنعه جميع المسلمين إما استناداً منهم إلى الاقتصار في مقام بيان التشريع وإما إلى أدلة من السنة ومن القياس وسنشير إليه أو من الإجماع وهو أظهر . وذهبت طوائف من أهل العلم إلى الاستدلال لفقه هذه المسألة بطريقة أخرى فقالوا أهل الكتاب صاروا مشركين لقول اليهود عزير ابن الله ولقول النصارى المسيح ابن الله وأبوة الإله تقتضي ألوهية الابن ، وإلى هذا المعنى جنح عبد الله بن عمر ففي « الموطأ » عنه « لا أعلم شركاً أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى » ولكن هذا مسلك ضعيف جداً ، لأن إدخال أهل الكتاب في معنى المشركين بعيد عن الاصطلاح الشرعي ، ونزلت هذه الآية وأمثالها وهو معلوم فاش ، ولأنه إذا تم في النصارى باطراد فهو لا يتم في اليهود ، لأن الذين قالوا عزير ابن الله إنما هم طائفة قليلة من اليهود وهم أتباع ( فنحاص ) كما حكاه الفخر فإذا كانت هذه الآية تمنع أن يتزوج المسلم امرأة يهودية أو نصرانية وأن يزوج أحد من اليهود والنصارى مسلمة فإن آية سورة العقود خصصت عموم المنع بصريح قوله : { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } [ المائدة : 5 ] ، وقد علم الله قولهم المسيح ابن الله وقول الآخرين عزير ابن الله فبقي تزويج المسلمة إياهم مشمولاً لعموم آية البقرة ، وهذا مسلك سلكه بعض الشافعية .

ومن علماء الإسلام من كره تزوج الكتابية وهو قول مالك في رواية ابن حبيب وهو رواية عن عمر بن الخطاب أنه كتب إلى حذيفة بن اليمان وقد بلغه أنه تزوج يهودية أو نصرانية أن خل سبيلها ، فكتب إليه حذيفة أتزعم أنها حرام ؟ فقال عمر : لا ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهن .

وقال شذوذ من العلماء بمنع تزوج المسلم الكتابية ، وزعموا أن آية سورة العقود نسختها آية سورة البقرة ، ونقل ذلك عن ابن عمر وابن عباس وفي رواية ضعيفة عن عمر بن الخطاب أنه فرق بين طلحة بن عبيد الله ويهودية تزوجها وبين حذيفة بن اليمان ونصرانية تزوجها ، فقالا له نُطلِّق يا أمير المؤمنين ولا تَغْضَبْ فقال : لو جاز طلاقكما لجاز نكاحكما ، ولكنْ أفرق بينكما صُغْرَةً وقَماءَةً ، قال ابن عطية وهذا لا يسند جيداً والأثر الآخر عن عمر أسندُ منه ، وقال الطبري هو مخالف لما أجمعت عليه الأمة وقد روي عن عمر بن الخطاب من القول بخلاف ذلك ما هو أصح منه وإنما كره عمر لهما تزوجهما حذراً من أن يقتدي بهما الناس فيزهدوا في المسلمات .

و { حتى يؤمن } غاية للنهي فإذا آمنَّ زال النهي ولذلك إذا أسلم المشرك ولم تسلم زوجته تبين منه إلاّ إذا أسلمت عقب إسلامه بدون تأخير .

وقوله : { ولأمة مؤمنة خير من مشركة } تنبيه على دناءة المشركات وتحذير من تزوجهن ومن الاغترار بما يكون للمشركة من حسب أو جمال أو مال وهذه طرائق الإعجاب في المرأة المبالغ عليه بقوله : { ولو أعجبكم } وأن من لم يستطع تزوج حرة مؤمنة فليتزوج أمة مؤمنة خير له من أن يتزوج حرة مشركة ، فالأمة هنا هي المملوكة ، والمشركة الحرة بقرينة المقابلة بقوله : { ولأمة مؤمنة } فالكلام وارد مورد التناهي في تفضيل أقل أفراد هذا الصنف على أتم أفراد الصنف الآخر ، فإذا كانت الأمة المؤمنة خيراً من كل مشركة فالحرة المؤمنة خير من المشركة بدلالة فحوى الخطاب التي يقتضيها السياق ، ولظهور أنه لا معنى لتفضيل الأمة المؤمنة على الأمة المشركة فإنه حاصل بدلالة فحوى الخطاب لا يشك فيه المخاطبون المؤمنون ولقوله : { ولو أعجبكم } فإن الإعجاب بالحرائر دون الإماء .

والمقصود من التفضيل في قوله : { خير } التفضيل في المنافع الحاصلة من المرأتين ؛ فإن في تزوج الأمة المؤمنة منافع دينية وفي الحرة المشركة منافع دنيوية ومعاني الدين خير من أعراض الدنيا المنافية للدين فالمقصود منه بيان حكمة التحريم استئناساً للمسلمين .

ووقع في « الكشاف » حمل الأمة على مطلق المرأة ، لأن الناس كلهم إماء الله وعبيده وأصله منقول عن القاضي أبي الحسن الجرجاني كما في القرطبي وهذا باطل من جهة المعنى ومن جهة اللفظ ، أما المعنى فلأنه يصير تكراراً مع قوله : { ولا تنكحوا المشركات } إذ قد علم الناس أن المشركة دون المؤمنة ، ويُفيت المقصود من التنبيه على شرفِ أقلِّ أَفرادِ أحد الصنفين على أشرَف أفراد الصنف الآخر ، وأما من جهة اللفظ فلأنه لم يرد في كلام العرب إطلاق الأمة على مطلق المرأة ، ولا إطلاق العبد على الرجل إلاّ مقيَّدين بالإضافة إلى اسم الجلالة في قولهم يا عبدَ الله ويا أمةَ الله ، وكونُ الناس إماءَ الله وعبيدَه إنما هو نظر للحقائق لا للاستعمال ، فكيف يخرَّج القرآن عليه .

وضمير { ولو أعجبتكم } يعود إلى المشركة ، و ( لو ) وصلية للتنبيه على أقصى الأحوال التي هي مظنة تفضيل المشركة ، فالأمة المؤمنة أفضل منها حتى في تلك الحالة وقد مضى القول في موقع لو الوصلية والواو التي قبلها والجملة التي بعدها عند قوله تعالى : { أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون } [ البقرة : 170 ] .

وقوله : { ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا } تحريم لتزويج المسلمة من المشرك ، فإن كان المشرك محمولاً على ظاهره في لسان الشرع فالآية لم تتعرض لحكم تزويج المسلمة من الكافر الكتابي فيكون دليل تحريم ذلك الإجماعَ وهو إما مستند إلى دليل تلقاه الصحابة من النبي صلى الله عليه وسلم وتواتر بينهم ، وإما مستند إلى تضافر الأدلة الشرعية كقوله تعالى : { فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن } [ الممتحنة : 10 ] فعلق النهي بالكفر وهو أعم من الشرك وإن كان المراد حينئذٍ المشركين ، وكقوله تعالى هنا : { أولئك يدعون إلى النار } كما سنبينه .

وقوله : { حتى يؤمنوا } غاية للنهي ، وأخذ منه أن الكافر إذا أسلمت زوجته يفسخ النكاح بينهما ثم إذا أسلم هو كان أحق بها ما دامت في العدة .

وقوله : { ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم } هو كقوله : { ولأمة مؤمنة خير من مشركة } وأن المراد به المملوك وليس المراد الحر المشرك وقد تقدم ذلك .

وقوله : { أولئك يدعون إلى النار } الإشارة إلى المشركات والمشركين ، إذ لا وجه لتخصيصه بالمشركين خاصة لصلوحيته للعود إلى الجميع ، والواو في { يدعون } واو جماعة الرجال ووزنه يفعون ، وغُلِّب فيه المذكر على المؤنث كما هو الشائع ، والجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً لتعليل النهي عن نكاح المشركات وإنكاح المشركين ، ومعنى الدعاء إلى النار الدعاء إلى أسبابها فإسناد الدعاء إليهم حقيقة عقلية ، ولفظ النار مجاز مرسل أطلق على أسباب الدخول إلى النار فإن ما هم عليه يجر إلى النار من غير علم ، ولما كانت رابطة النكاح رابطة اتصال ومعاشرة نهي عن وقوعها مع من يدعون إلى النار خشية أن تؤثر تلك الدعوة في النفس ، فإن بين الزوجين مودة وإلفاً يبعثان على إرضاء أحدهما الآخر ولما كانت هذه الدعوة من المشركين شديدة لأنهم لا يوحدون الله ولا يؤمنون بالرسل ، كان البون بينهم وبين المسلمين في الدين بعيداً جداً لا يجمعهم شيء يتفقون عليه ، فلم يبح الله مخالطتهم بالتزوج من كلا الجانبين . أما أهل الكتاب فيجمع بينهم وبين المسلمين اعتقاد وجود الله وانفراده بالخلق والإيمان بالأنبياء ويفرق بيننا وبين النصارى الاعتقاد ببنوة عيسى والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ويفرق بيننا وبين اليهود الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وتصديق عيسى ، فأباح الله تعالى للمسلم أن يتزوج الكتابية ولم يبح تزوج المسلمة من الكتابي اعتداداً بقوة تأثير الرجل على امرأته ، فالمسلم يؤمن بأنبياء الكتابية وبصحة دينها قبل النسخ فيوشك أن يكون ذلك جالباً إياها إلى الإسلام ، لأنها أضعف منه جانباً وأما الكافر فهو لا يؤمن بدين المسلمة ولا برسولها فيوشك أن يجرها إلى دينه ، لذلك السبب وهذا كان يجيب به شيخنا الأستاذ سالم أبو حاجب عن وجه إباحة تزوج الكتابية ومنع تزوج الكتابي المسلمة .

وقوله : { والله يدعوا إلى الجنة } الآية أي إن الله يدعو بهذا الدين إلى الجنة فلذلك كانت دعوة المشركين مضادة لدعوة الله تعالى ، والمقصود من هذا تفظيع دعوتهم وأنها خلاف دعوة الله ، والدعاء إلى الجنة والمغفرة دعاء لأسبابهما كما تقدم في قوله : { يدعون إلى النار } .

والمغفرة هنا مغفرة ما كانوا عليه من الشرك .

وقوله : { بإذنه } الإذن فيه إما بمعنى الأمر كما هو الشائع فيكون بإذنه ظرفاً مستقراً حالاً من ( الجنة ) والمغفرة أي حاصلتين بإذنه أي إرادته وتقديره بما بين من طريقهما . ومن المفسرين من حمل الإذن على التيسير والقضاء والباء على أنها ظرف لغو فرأى هذا القيد غير جزيل الفائدة فتأوَّل قوله : { والله يدعوا } بمعنى وأولياء الله يدعون وهم المؤمنون .

وجملة { ويبين } معطوفة على { يدعو } يعني يدعو إلى الخير مع بيانه وإيضاحه حتى تتلقاه النفوس بمزيد القبول وتمام البصيرة فهذا كقوله : { كذلك يبين الله لكم الآيات } [ البقرة : 219 ] ففيها معنى التذييل وإن كانت واردة بغير صيغته . ولعل مستعملة في مثله مجاز في الحصول القريب .