{ 33 } { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ }
هذا استفهام بمعنى النفي المتقرر أي : لا أحد أحسن قولا . أي : كلامًا وطريقة ، وحالة { مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ } بتعليم الجاهلين ، ووعظ الغافلين والمعرضين ، ومجادلة المبطلين ، بالأمر بعبادة الله ، بجميع أنواعها ، والحث عليها ، وتحسينها مهما أمكن ، والزجر عما نهى الله عنه ، وتقبيحه بكل طريق يوجب تركه ، خصوصًا من هذه الدعوة إلى أصل دين الإسلام وتحسينه ، ومجادلة أعدائه بالتي هي أحسن ، والنهي عما يضاده من الكفر والشرك ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر .
ومن الدعوة إلى الله ، تحبيبه إلى عباده ، بذكر تفاصيل نعمه ، وسعة جوده ، وكمال رحمته ، وذكر أوصاف كماله ، ونعوت جلاله .
ومن الدعوة إلى الله ، الترغيب في اقتباس العلم والهدى من كتاب الله وسنة رسوله ، والحث على ذلك ، بكل طريق موصل إليه ، ومن ذلك ، الحث على مكارم الأخلاق ، والإحسان إلى عموم الخلق ، ومقابلة المسيء بالإحسان ، والأمر بصلة الأرحام ، وبر الوالدين .
ومن ذلك ، الوعظ لعموم الناس ، في أوقات المواسم ، والعوارض ، والمصائب ، بما يناسب ذلك الحال ، إلى غير ذلك ، مما لا تنحصر أفراده ، مما تشمله الدعوة إلى الخير كله ، والترهيب من جميع الشر .
ثم قال تعالى : { وَعَمِلَ صَالِحًا } أي : مع دعوته الخلق إلى الله ، بادر هو بنفسه ، إلى امتثال أمر الله ، بالعمل الصالح ، الذي يُرْضِي ربه . { وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } أي : المنقادين لأمره ، السالكين في طريقه ، وهذه المرتبة ، تمامها للصديقين ، الذين عملوا على تكميل أنفسهم وتكميل غيرهم ، وحصلت لهم الوراثة التامة من الرسل ، كما أن من أشر الناس ، قولاً ، من كان من دعاة الضالين{[775]} السالكين لسبله .
وبين هاتين المرتبتين المتباينتين ، اللتين ارتفعت إحداهما إلى أعلى عليين ، ونزلت الأخرى ، إلى أسفل سافلين ، مراتب ، لا يعلمها إلا الله ، وكلها معمورة بالخلق { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ }
ويختم هذا الشوط برسم صورة الداعية إلى الله ، ووصف روحه ولفظه ، وحديثه وأدبه . ويوجه إليها رسوله [ صلى الله عليه وسلم ] وكل داعية من أمته . وكان قد بدأ السورة بوصف جفوة المدعوين وسوء أدبهم ، وتبجحهم النكير . ليقول للداعية : هذا هو منهجك مهما كانت الأمور :
( ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال : إنني من المسلمين ! ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن ، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم . وما يلقاها إلا الذين صبروا ، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم . وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله ، إنه هو السميع العليم ) .
إن النهوض بواجب الدعوة إلى الله ، في مواجهة التواءات النفس البشرية ، وجهلها ، واعتزازها بما ألفت ، واستكبارها أن يقال : إنها كانت على ضلالة ، وحرصها على شهواتها وعلى مصالحها ، وعلى مركزها الذي قد تهدده الدعوة إلى إله واحد ، كل البشر أمامه سواء .
إن النهوض بواجب الدعوة في مواجهة هذه الظروف أمر شاق . ولكنه شأن عظيم :
( ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله ، وعمل صالحاً ، وقال : إنني من المسلمين ) .
إن كلمة الدعوة حينئذ هي أحسن كلمة تقال في الأرض ، وتصعد في مقدمة الكلم الطيب إلى السماء . ولكن مع العمل الصالح الذي يصدق الكلمة ؛ ومع الاستسلام لله الذي تتوارى معه الذات . فتصبح الدعوة خالصة لله ليس للداعية فيها شأن إلا التبليغ .
ولا على الداعية بعد ذلك أن تتلقى كلمته بالإعراض ، أو بسوء الأدب ، أو بالتبجح في الإنكار . فهو إنما يتقدم بالحسنة . فهو في المقام الرفيع ؛ وغيره يتقدم بالسيئة . فهو في المكان الدون :
يقول تعالى : { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ } أي : دعا عباد الله إليه ، { وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } أي : وهو في نفسه مهتد بما يقوله ، فنفعه لنفسه ولغيره لازم ومُتَعَدٍ ، وليس هو من الذين يأمرون بالمعروف ولا يأتونه ، وينهون عن المنكر ويأتونه ، بل يأتمر بالخير ويترك الشر ، ويدعو الخلق إلى الخالق تبارك وتعالى . وهذه عامة في كل من دعا إلى خير ، وهو في نفسه مهتد ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أولى الناس بذلك ، كما قال محمد بن سيرين ، والسدي ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم .
وقيل : المراد بها المؤذنون الصلحاء ، كما ثبت في صحيح مسلم : " المؤذنون أطول الناس أعناقا يوم القيامة " {[25723]} وفي السنن مرفوعا : " الإمام ضامن ، والمؤذن مؤتمن ، فأرشد الله الأئمة ، وغفر للمؤذنين " {[25724]} .
وقال{[25725]} ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن عَرُوبَة الهروي ، حدثنا غسان قاضي هراة وقال أبو زرعة : حدثنا إبراهيم بن طهمان ، عن مطر ، عن الحسن ، عن سعد بن أبي وقاص أنه قال : " سهام المؤذنين عند الله يوم القيامة كسهام المجاهدين ، وهو بين الأذان والإقامة كالمتشحط في سبيل الله في دمه " .
قال : وقال ابن مسعود : " لو كنت مؤذنا ما باليت ألا أحج ولا أعتمر ولا أجاهد " .
قال : وقال عمر بن الخطاب : لو كنت مؤذنا لكمل أمري ، وما باليت ألا أنتصب لقيام الليل ولا لصيام النهار ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " اللهم اغفر للمؤذنين " ثلاثا ، قال : فقلت : يا رسول الله ، تركتنا ، ونحن نجتلد على الأذان بالسيوف . قال : " كلا يا عمر ، إنه يأتي {[25726]} على الناس زمان يتركون الأذان على ضعفائهم ، وتلك لحوم حرمها الله على النار ، لحوم المؤذنين " {[25727]} .
قال : وقالت عائشة : ولهم هذه الآية : { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } قالت : فهو المؤذن إذا قال : " حي على الصلاة " فقد دعا إلى الله .
وهكذا قال ابن عمر ، وعكرمة : إنها نزلت في المؤذنين .
وقد ذكر البغوي عن أبي أمامة الباهلي ، رضي الله عنه ، أنه قال في قوله : { وَعَمِلَ صَالِحًا } قال : يعني صلاة ركعتين بين الأذان والإقامة .
ثم أورد البغوي حديث " عبد الله بن المغفل " قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بين كل أذانين صلاة " . ثم قال في الثالثة : " لمن شاء " {[25728]} وقد أخرجه الجماعة في كتبهم ، من حديث عبد الله بن بريدة ، عنه{[25729]} وحديث الثوري ، عن زيد العمي ، عن أبي إياس معاوية بن قرة ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، قال الثوري : لا أراه إلا وقد رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم : " الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة " .
ورواه أبو داود والترمذي ، والنسائي في " اليوم والليلة " كلهم من حديث الثوري ، به{[25730]} . وقال الترمذي : هذا حديث حسن .
ورواه النسائي أيضا من حديث سليمان التيمي ، عن قتادة ، عن أنس ، به{[25731]} .
والصحيح أن الآية عامة في المؤذنين وفي غيرهم ، فأما حال نزول هذه الآية فإنه لم يكن الأذان مشروعا بالكلية ؛ لأنها مكية ، والأذان إنما شرع بالمدينة بعد الهجرة ، حين أريه عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري في منامه ، فقصه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمره أن يلقيه على بلال فإنه أندى صوتا ، كما هو مقرر في موضعه ، فالصحيح إذًا أنها عامة ، كما قال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الحسن البصري : أنه تلا هذه الآية : { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } فقال : هذا حبيب الله ، هذا ولي الله ، هذا صفوة الله ، هذا خِيَرَة الله ، هذا أحب أهل الأرض إلى الله ، أجاب الله في دعوته ، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته ، وعمل صالحا في إجابته ، وقال : إنني من المسلمين ، هذا خليفة الله .
وقوله تعالى : { ومن أحسن قولاً } الآية ابتداء توصية محمد عليه السلام ، وهو لفظ يعم كل من دعا قديماً وحديثاً إلى الله تعالى وإلى طاعته من الأنبياء والمؤمنين ، والمعنى : لا أحد أحسن قولاً ممن هذه حاله ، وإلى العموم ذهب الحسن ومقاتل وجماعة ، وبين أن حالة محمد عليه السلام كانت كذلك مبرزة إلى تخصيصه بالآية ذهب السدي وابن زيد وابن سيرين . وقال قيس بن أبي حازم وعائشة أم المؤمنين وعكرمة : نزلت هذه الآية في المؤذنين . قال قيس : { وعمل صالحاً } هو الصلاة بين الآذان والإقامة . وذكر النقاش ذلك عن ابن عباس . ومعنى القول بأنها في المؤذنين أنهم داخلون فيها ، وأما نزولها فبمكة بلا خلاف ولم يكن بمكة آذان وإنما ترتب بالمدينة ، وإن الآذان لمن الدعاء إلى الله تعالى ولكنه جزء منه . والدعاء إلى الله بقوة كجهاد الكفار وردع الطغاة وكف الظلمة وغيره أعظم غناء من تولي الأذان إذ لا مشقة فيه ، والأصوب أن يعتقد أن الآية نزلت عامة . قال زيد بن علي المعنى : دعا إلى الله بالسيف .
وقرأ الجمهور : «إنني » بنونين . وقرأ ابن أبي عبلة : «إني » بنون واحدة .
وقال فضيل بن رفيدة{[10077]} : كنت مؤذناً في أصحاب ابن مسعود ، فقال لي عاصم بن هبيرة : إذا أكملت الآذان فقل : { إنني من المسلمين } ثم تلا هذه الآية .