المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{مِنۡ أَجۡلِ ذَٰلِكَ كَتَبۡنَا عَلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ أَنَّهُۥ مَن قَتَلَ نَفۡسَۢا بِغَيۡرِ نَفۡسٍ أَوۡ فَسَادٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعٗا وَمَنۡ أَحۡيَاهَا فَكَأَنَّمَآ أَحۡيَا ٱلنَّاسَ جَمِيعٗاۚ وَلَقَدۡ جَآءَتۡهُمۡ رُسُلُنَا بِٱلۡبَيِّنَٰتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرٗا مِّنۡهُم بَعۡدَ ذَٰلِكَ فِي ٱلۡأَرۡضِ لَمُسۡرِفُونَ} (32)

32- بسبب ذلك الطغيان وحب الاعتداء في بعض النفوس أوجبنا قتل المعتدي ، لأنه من قتل نفساً بغير ما يوجب القصاص ، أو بغير فساد منها في الأرض ، فكأنه قتل الناس جميعاً ، لأنه هتك حرمة دمائهم ، وجرّأ عليها غيره ، وقتل النفس الواحدة كقتل الجميع في استجلاب غضب الله وعذابه ، ومن أحياها بالقصاص لها ، فكأنما أحيا الناس كلهم ، لصيانته دماء البشر ، فيستحق عليهم عظيم الثواب من ربه . ولقد أرسلنا إليهم رسلنا مؤكدين حكمنا لهم بالأدلة والبراهين ، ثم إن كثيراً من بني إسرائيل بعد ذلك البيان المؤكد أسرفوا في إفسادهم في الأرض{[53]} .


[53]:في هذه الآية الشريفة ما يدل على أن الاعتداء على النفس الواحدة بالقتل اعتداء على المجتمع وهو يبرر كون الدعوة عن حق المجتمع يباشرها عنه النائب العام ووكلاؤه أو أية سلطة تقيمها الدولة لهذه الوظيفة في التشريعات الحديثة، وهذا هو المقابل لحق الله في التشريع الإسلامي، فالتشريع في هذه المسألة له فضل السبق. ومن أحسن إلى فرد بإنقاذ حياته من الهلاك فقد أحسن إلى المجتمع، فالآية بما اشتملت عليه من معنيين تؤكد أن الإسلام يرعى القواعد فغي المجتمع الصالح، وقواعد التعاون بين الأفراد والمجتمعات، وفي هذا كله محافظة على الأمن والسلام والتعاون بين الأفراد والجماعات.
 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{مِنۡ أَجۡلِ ذَٰلِكَ كَتَبۡنَا عَلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ أَنَّهُۥ مَن قَتَلَ نَفۡسَۢا بِغَيۡرِ نَفۡسٍ أَوۡ فَسَادٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعٗا وَمَنۡ أَحۡيَاهَا فَكَأَنَّمَآ أَحۡيَا ٱلنَّاسَ جَمِيعٗاۚ وَلَقَدۡ جَآءَتۡهُمۡ رُسُلُنَا بِٱلۡبَيِّنَٰتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرٗا مِّنۡهُم بَعۡدَ ذَٰلِكَ فِي ٱلۡأَرۡضِ لَمُسۡرِفُونَ} (32)

{ 32 } { مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ }

يقول تعالى { مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ } الذي ذكرناه في قصة ابني آدم ، وقتل أحدهما أخاه ، وسنه القتل لمن بعده ، وأن القتل عاقبته وخيمة وخسارة في الدنيا والآخرة . { كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ } أهل الكتب السماوية { أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ } أي : بغير حق { فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا } ؛ لأنه ليس معه داع يدعوه إلى التبيين ، وأنه لا يقدم على القتل إلا بحق ، فلما تجرأ على قتل النفس التي لم تستحق القتل علم أنه لا فرق عنده بين هذا المقتول وبين غيره ، وإنما ذلك بحسب ما تدعوه إليه نفسه الأمارة بالسوء . فتجرؤه على قتله ، كأنه قتل الناس جميعا .

وكذلك من أحيا نفسا أي : استبقى أحدا ، فلم يقتله مع دعاء نفسه له إلى قتله ، فمنعه خوف الله تعالى من قتله ، فهذا كأنه أحيا الناس جميعا ، لأن ما معه من الخوف يمنعه من قتل من لا يستحق القتل .

ودلت الآية على أن القتل يجوز بأحد أمرين :

إما أن يقتل نفسا بغير حق متعمدا في ذلك ، فإنه يحل قتله ، إن كان مكلفا مكافئا ، ليس بوالد للمقتول .

وإما أن يكون مفسدا في الأرض ، بإفساده لأديان الناس أو أبدانهم أو أموالهم ، كالكفار المرتدين والمحاربين ، والدعاة إلى البدع الذين لا ينكف شرهم إلا بالقتل .

وكذلك قطاع الطريق ونحوهم ، ممن يصول على الناس لقتلهم ، أو أخذ أموالهم .

{ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ } التي لا يبقى معها حجة لأحد . { ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ } أي : من الناس { بَعْدِ ذَلِكَ } البيان القاطع للحجة ، الموجب للاستقامة في الأرض { لَمُسْرِفُونَ } في العمل بالمعاصي ، ومخالفة الرسل الذين جاءوا بالبينات والحجج .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{مِنۡ أَجۡلِ ذَٰلِكَ كَتَبۡنَا عَلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ أَنَّهُۥ مَن قَتَلَ نَفۡسَۢا بِغَيۡرِ نَفۡسٍ أَوۡ فَسَادٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعٗا وَمَنۡ أَحۡيَاهَا فَكَأَنَّمَآ أَحۡيَا ٱلنَّاسَ جَمِيعٗاۚ وَلَقَدۡ جَآءَتۡهُمۡ رُسُلُنَا بِٱلۡبَيِّنَٰتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرٗا مِّنۡهُم بَعۡدَ ذَٰلِكَ فِي ٱلۡأَرۡضِ لَمُسۡرِفُونَ} (32)

27

وهنا يلتقط السياق الآثار العميقة التي تتركها في النفس رواية النبأ بهذا التسلسل ، ليجعل منها ركيزة شعورية للتشريع الذي فرض لتلافي الجريمة في نفس المجرم ؛ أو للقصاص العادل إن هو أقدم عليها بعد أن يعلم آلام القصاص التي تنتظره :

( من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل : أنه من قتل نفسا - بغير نفس أو فساد في الأرض - فكأنما قتل الناس جميعا ؛ ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا . ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ؛ ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون ) .

من أجل ذلك . . من أجل وجود هذه النماذج في البشرية . . من أجل الاعتداء على المسالمين الوادعين الخيرين الطيبين ، الذين لا يريدون شرا ولا عدوانا . . ومن أجل أن الموعظة والتحذير لا يجديان في بعض الجبلات المطبوعة على الشر ؛ وأن المسالمة والموادعة لا تكفان الاعتداء حين يكون الشر عميق الجذور في النفس . . من أجل ذلك جعلنا جريمة قتل النفس الواحدة كبيرة كبيرة ، تعدل جريمة قتل الناس جميعا ؛ وجعلنا العمل على دفع القتل واستحياء نفس واحدة عملا عظيما يعدل إنقاذ الناس جميعا . . وكتبنا ذلك على بني إسرائيل فيما شرعنا لهم من الشريعة [ وسيأتي في الدرس التالي في سياق السورة بيان شريعة القصاص مفصلة ] .

إن قتل نفس واحدة - في غير قصاص لقتل ، وفي غير دفع فساد في الأرض - يعدل قتل الناس جميعا . لأن كل نفس ككل نفس ؛ وحق الحياة واحد ثابت لكل نفس . فقتل واحدة من هذه النفوس هو اعتداء على حق الحياة ذاته ؛ الحق الذي تشترك فيه كل النفوس . كذلك دفع القتل عن نفس ، واستحياؤها بهذا الدفع - سواء كان بالدفاع عنها في حالة حياتها أو بالقصاص لها في حالة الاعتداء عليها لمنع وقوع القتل على نفس أخرى - هو استحياء للنفوس جميعا ، لأنه صيانة لحق الحياة الذي تشترك فيه النفوس جميعا .

وبالرجوع إلى البيان الذي قدمنا به لهذه الأحكام ، يتبين أن هذا التقرير ينطبق - فقط - على أهل دار الإسلام - من مسلمين وذميين ومستأمنين - فأما دم أهل دار الحرب فهو مباح - ما لم تقم بينهم وبين أهل دار الإسلام معاهدة - وكذلك ما لهم . فيحسن أن نكون دائما على ذكر من هذه القاعدة التشريعية ؛ وأن نتذكر كذلك أن دار الإسلام هي الأرض التي تقام فيها شريعة الإسلام ، ويحكم فيها بهذه الشريعة ، وأن دار الحرب هي الأرض التي لا تقام فيها شريعة الله ، ولا يحكم فيها بهذه الشريعة . .

ولقد كتب الله ذلك المبدأ على بني إسرائيل ؛ لأنهم كانوا - في ذلك الحين - هم أهل الكتاب ؛ الذين يمثلون " دار الإسلام " ما أقاموا بينهم شريعة التوراة بلا تحريف ولا التواء . . ولكن بني إسرائيل تجاوزوا حدود شريعتهم - بعد ما جاءتهم الرسل بالبينات الواضحة - وكانوا على عهد رسول الله [ ص ] وما يزالون يكثر فيهم المسرفون المتجاوزون لحدود شريعتهم . والقرآن يسجل عليهم هذا الإسراف والتجاوز والاعتداء ؛ بغير عذر ؛ ويسجل عليهم كذلك انقطاع حجتهم على الله وسقوطها بمجيء الرسل إليهم ، وببيان شريعتهم لهم :

( ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ؛ ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون ) . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{مِنۡ أَجۡلِ ذَٰلِكَ كَتَبۡنَا عَلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ أَنَّهُۥ مَن قَتَلَ نَفۡسَۢا بِغَيۡرِ نَفۡسٍ أَوۡ فَسَادٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعٗا وَمَنۡ أَحۡيَاهَا فَكَأَنَّمَآ أَحۡيَا ٱلنَّاسَ جَمِيعٗاۚ وَلَقَدۡ جَآءَتۡهُمۡ رُسُلُنَا بِٱلۡبَيِّنَٰتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرٗا مِّنۡهُم بَعۡدَ ذَٰلِكَ فِي ٱلۡأَرۡضِ لَمُسۡرِفُونَ} (32)

يقول تعالى : { مِنْ أَجْلِ } قَتْل ابن آدم أخاه ظلما وعدوانًا : { كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ } أي : شرعنا لهم وأعلمناهم { أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا } أي : ومن قتل نفسًا بغير سبب من قصاص ، أو فساد في الأرض ، واستحل قتلها بلا سبب ولا جناية ، فكأنما قتل الناس جميعًا ؛ لأنه لا فرق عنده بين نفس ونفس ، { وَمَنْ أَحْيَاهَا } أي : حرم قتلها واعتقد ذلك ، فقد سلم الناس كلهم منه بهذا الاعتبار ؛ ولهذا قال : { فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا } .

وقال الأعمش وغيره ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : دخلت على عثمان يوم الدار فقلت : جئت لأنصرك وقد طاب الضرب يا أمير المؤمنين . فقال : يا أبا هريرة ، أيسرك أن تَقْتُل{[9683]} الناس جميعًا وإياي معهم ؟ قلت : لا . قال فإنك إن قتلت رجلا واحدًا فكأنما قتلت الناس جميعًا ، فانْصَرِفْ مأذونًا لك ، مأجورًا غير مأزور . قال : فانصرفت ولم أقاتل .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : هو كما قال الله تعالى : { مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا } وإحياؤها : ألا يقتل نفسًا حَرّمها الله ، فذلك الذي أحيا الناس جميعًا ، يعني : أنه من حَرّم قتلها إلا بحق ، حَيِي الناس منه [ جميعا ]{[9684]}

وهكذا قال مجاهد : { وَمَنْ أَحْيَاهَا } أي : كف عن قتلها .

وقال العَوْفِيّ عن ابن عباس ، في قوله : { فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا } يقول : من قتل نفسًا واحدة حرمها الله ، فهو مثل من قتل الناس جميعًا . وقال سعيد بن جبير : من استحل دمَ مُسْلِم فكأنما استحل دماء الناس جميعًا ، ومن حرم دم مسلم فكأنما حرم دماء الناس جميعًا .

هذا قول ، وهو الأظهر ، وقال عِكْرمة والعوفي ، عن ابن عباس [ في قوله : { فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا } يقول ]{[9685]} من قتل نبيًا أو إمام عَدْل ، فكأنما قتل الناس جميعًا ، ومن شَدّ على عَضد نبي أو إمام عَدل ، فكأنما أحيا الناس جميعًا . رواه ابن جرير .

وقال مجاهد في رواية أخرى عنه : من قتل نفسًا بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعًا ؛ وذلك لأنه من قتل النفس فله النار ، فهو كما لو قتل الناس كلهم .

وقال ابن جُرَيْج{[9686]} عن الأعرج ، عن مجاهد في قوله : { فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا } من قتل النفس المؤمنة متعمدا ، جعل الله جزاءه جهنم ، وغضب الله عليه ولعنه ، وأعد له عذابًا عظيمًا ، يقول : لو قتل الناس جميعًا لم يزد على مثل ذلك العذاب .

قال ابن جريج : قال مجاهد { وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا } قال : من لم يقتل أحدًا فقد حيي الناس منه .

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : من قتل نفسًا فكأنما قتل الناس [ جميعا ]{[9687]} يعني : فقد وجب عليه القصاص ، فلا{[9688]} فرق بين الواحد والجماعة { وَمَنْ أَحْيَاهَا } أي : عفا عن قاتل وليه ، فكأنما أحيا الناس جميعًا . وحكي ذلك عن أبيه . رواه ابن جرير .

وقال مجاهد - في رواية - : { وَمَنْ أَحْيَاهَا } أي : أنجاها من غَرق أو حَرق أو هَلكة .

وقال الحسن وقتادة في قوله : { أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا } هذا تعظيم لتعاطي القتل - قال قتادة : عَظُم والله وزرها ، وعظم والله أجرها .

وقال ابن المبارك ، عن سلام بن مسكين ، عن سليمان بن علي الرِّبْعِي قال : قلت للحسن : هذه الآية لنا يا أبا سعيد ، كما كانت لبني إسرائيل ؟ فقال : إي والذي لا إله غيره ، كما كانت لبني إسرائيل . وما جعل دماء بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا .

وقال الحسن البصري : { فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا } قال : وزرًا . { وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا } قال : أجرًا .

وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لَهِيعَة ، حدثنا حُيَي{[9689]} بن عبد الله ، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي ، عن عبد الله بن عمرو قال : جاء حمزة بن عبد المطلب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، اجعلني على شيء أعيش به . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا حمزة ، نفس تحييها أحب إليك أم نفس تميتها ؟ " قال : بل نفس أحييها : قال : " عليك بنفسك " . {[9690]} {[9691]}

وقوله : { وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ } أي : بالحجج والبراهين والدلائل الواضحة { ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأرْضِ لَمُسْرِفُونَ } وهذا تقريع لهم وتوبيخ على ارتكابهم المحارم بعد علمهم بها ، كما كانت بنو قُرَيْظَة والنَّضير وغيرهم من بني قَيْنُقاع ممن حول المدينة من اليهود ، الذين كانوا يقاتلون مع الأوس والخزرج إذا وقعت بينهم الحروب في الجاهلية ، ثم إذا وضعت الحروب أوزارها فدوا من أسروه ، وودوا من قتلوه ، وقد أنكر الله عليهم ذلك في سورة البقرة ، حيث يقول : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ{[9692]} إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [ البقرة : 84 ، 85 ] .


[9683]:في أ: "يقتل".
[9684]:زيادة من أ.
[9685]:زيادة من أ.
[9686]:في أ: "وقال ابن جرير".
[9687]:زيادة من أ.
[9688]:في ر: "ولا".
[9689]:في ر: "يحيى".
[9690]:في ر: "عليك نفسك".
[9691]:المسند (2/175)
[9692]:في أ: "تردون".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{مِنۡ أَجۡلِ ذَٰلِكَ كَتَبۡنَا عَلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ أَنَّهُۥ مَن قَتَلَ نَفۡسَۢا بِغَيۡرِ نَفۡسٍ أَوۡ فَسَادٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعٗا وَمَنۡ أَحۡيَاهَا فَكَأَنَّمَآ أَحۡيَا ٱلنَّاسَ جَمِيعٗاۚ وَلَقَدۡ جَآءَتۡهُمۡ رُسُلُنَا بِٱلۡبَيِّنَٰتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرٗا مِّنۡهُم بَعۡدَ ذَٰلِكَ فِي ٱلۡأَرۡضِ لَمُسۡرِفُونَ} (32)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَىَ بَنِيَ إِسْرَائِيلَ أَنّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنّمَا قَتَلَ النّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنّمَا أَحْيَا النّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالّبَيّنَاتِ ثُمّ إِنّ كَثِيراً مّنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأرْضِ لَمُسْرِفُونَ } . .

يعني تعالى ذكره بقوله : مِنْ أجْلِ ذَلِكَ من جَرّ ذلك وجريرته وجنايته ، يقول : من جرّ القاتل أخاه من ابني آدم اللذَين اقتصصنا قصتهما الجريرة التي جرّها وجنايته التي جناها ، كتبنا على بني إسرائيل . يقال منه : أجَلْتُ هذا الأمر : أي جرررته إليه وكسبته آجُلُه له أجْلاً ، كقولك : أخذته أخذا ، ومن ذلك قول الشاعر :

وأهْلِ خِباءٍ صَالحٍ ذاتُ بَيْنِهِمْ ***قَد احْتَرَبوا فِي عاجِلٍ أنا آجِلُهْ

يعني بقوله : أنا آجله : آنا الجارّ ذلك عليه والجاني .

فمعنى الكلام : من جناية ابن آدم القاتل أخاه ظلما ، حكمنا علي بني إسرائيل أنه من قتل منهم نفسا ظلما بغير نفس قَتَلت فُقِتل بها قصاصا أو فَسَادٍ في الأرْضِ يقول : أو قتل منهم نفسا بغير فساد كان منها في الأرض ، فاستحقت بذلك قتلها . وفسادها في الأرض إنما يكون بالحرب لله ولرسوله وإخافة السبيل .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : ثني عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : مِنْ أجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنا على بَنِي إسْرَائِيلَ يقول : من أجل ابن آدم الذي قتل أخاه ظلما .

ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله جلّ ثناؤه : مَنْ قَتَلَ نَفْسا بِغَيْرِ نَفْسٍ أوْ فَسادٍ فِي الأرْضِ فَكأنمَا قَتَلَ النّاسَ جَمِيعا وَمَنْ أحْياها فَكأنّما أحيْا النّاس جَمِيعا فقال بعضهم : معنى ذلك : ومن قتل نبيا أو إمام عدل ، فكأنما قتل الناس جميعا ، ومن شدّ على عضد نبيّ أو إمام عدل ، فكأنما أحيا الناس جميعا . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو عمار حسين بن حُرَيْثٍ المَرْوَزِيّ ، قال : حدثنا الفضل بن موسى ، عن الحسين بن واقد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : مَنْ قَتَلَ نَفْسا بِغَيْرِ نَفْسٍ أوْ فَسادٍ فِي الأرْضِ فَكأنمَا قَتَلَ النّاسع جَمِيعا وَمَنْ أحْياها فَكأنمَا أحيْا النّاسَ جَمِيعا قال : من شدّ على عضد نبيّ أو إمام عدل فكأنما أحيا الناس جميعا . ومن قتل نبيا أو إمام عدل فكأنما قتل الناس جميعا .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس في قوله : مِنْ أجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنا على بَنِي إْسرَائِيلَ أنّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسا بغَيْرِ نَفْسٍ أوْ فَسادٍ فِي الأرْضِ فَكأنّما قَتَلَ النّاس جَمِيعا يقول : من قتل نفسا واحدة حرّمتها ، فهو مثل من قتل الناس جميعا . وَمَنْ أحْياها يقول : من ترك قتل نفس واحدة حرّمتها مخافتي واستحيا أن يقتلها ، فهو مثل استحياء الناس جميعا يعني بذلك الأنبياء .

وقال آخرون : مَنْ قَتَلَ نَفْسا بِغَيْرِ نَفْسٍ أوْ فَسادٍ فِي الأرْضِ فَكأنَمَا قَتَلَ النّاسَ جَمِيعا عند المقتول في الإثم وَمَنْ أحيْاها فاستنقذها من هلكة فَكأنمَا أحيْا النّاسَ جَمِيعا عند المستنقذ . ( ذكر من قال ذلك ) :

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، فيما ذكر عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرّة الهمداني ، عن عبد الله ، وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قوله : مَنْ قَتَلَ نَفْسا بغَيْرِ نَفْسٍ أوْ فَسادٍ فِي الأرْضِ فَكأنَمَا قَتَلَ النّاسَ جَمِيعا عند المقتول ، يقول في الإثم : ومن أحياها فاستنقذها من هلكة ، فكأنما أحيا الناس جميعا عند المستنقَذ .

وقال آخرون : معنى ذلك : أن قاتل النفس المحرّم قتلها يصلي النار كما يصلاها لو قتل الناس جميعا ، من أحياها : من سلم من قتلها فقد سلم من قتل الناس جميعا . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن خَصِيف ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : مَنْ أحْياها فَكأنَمَا أحيْا النّاسَ جَمِيعا قال : من كفّ عن قتلها فقد أحياها ، ومن قتل نفسا بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعا . قال : ومن أوبقها .

حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا سفيان ، عن خصيف ، عن مجاهد ، قال : من أوبق نفسا فكما لو قتل الناس جميعا ، ومن أحياها وسلم من طلبها فلم يقتلها فقد سلم من قتل الناس جميعا ، ومن أحياها وسلم من طلبها فلم يقتلها فقد سلم من قتل الناس جميعا .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن شريك ، عن خصيف ، عن مجاهد : فَكأنَمَا قَتَلَ النّاسَ جَمِيعا وَمَنْ أحْياها فَكأنَما أحيْا النّاسَ جَمِيعا لم يقتلها ، وقد سلم منه الناس جميعا لم يقتل أحدا .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن الأوزاعي ، قال : أخبرنا عبدة ابن أبي لُبابة ، قال : سألت مجاهدا ، أو سمعته يُسْأل عن قوله : مَنْ قَتَلَ نَفْسا بِغَيْرِ نَفْسٍ أوْ فَسادٍ فِي الأرْضِ فَكأنَمَا قَتَلَ النّاسَ جَمِيعا قال : لو قتل الناس جميعا كان جزاؤه جهنم خالدا فيها ، وغضب الله عليه ولعنه ، وأعدّ له عذابا عظيما .

حدثني المثنى ، قال : ثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن ابن جريج قراءة ، عن الأعرج ، عن مجاهد في قوله : فَكأنَما قَتَلَ النّاسَ جَمِيعا قال : الذي يقتل النفس المؤمنة متعمدا ، جعل الله جزاءه جهنم ، وغضب الله عليه ولعنه ، وأعدّ له عذابا عظيما يقول : لو قتل الناس جميعا لم يزد على مثل ذلك من العذاب قال ابن جريج ، قال مجاهد : وَمَنْ أحْياها فَكأنَما أحيْا النّاسَ جَمِيعا قال : من لم يقتل أحدا فقد استراح الناس منه .

حدثنا سفيان ، قال : حدثنا يحيى بن يمان ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن مجاهد ، قال : أوبق نفسا .

حدثنا سفيان ، قال : حدثنا يحيى بن يمان ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، قال : في الإثم .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن ليث ، عن مجاهد : مَنْ قَتَلَ نَفْسا بِغَيْرِ نَفْسٍ أوْ فَسادٍ فِي الأرْضِ فَكأنمَا قَتَلَ النّاسَ جَمِيعا ، وقوله : وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ قال : يصير إلى جهنم بقتل المؤمن ، كما أنه لو قتل الناس جميعا لصار إلى جهنم .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : مِنْ أجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنا على بَنِي إسْرَائِيلَ أنّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسا بِغَيْرِ نَفْسٍ أوْ فَسادٍ فِي الأرْضِ فَكأنَما قَتَلَ النّاسَ جَمِيعا قال : هو كما قال . وقال : وَمَنْ أحيْاها فَكأنمَا أحيْا النّاسَ جَمِيعا فإحياؤها لا يقتل نفسا حرّمها الله ، فذلك الذي أحيا الناس جميعا ، يعني أنه من حرّم قتلها إلا بحقّ حيي الناس منه جميعا .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن العلاء بن عبد الكريم ، عن مجاهد : وَمَنْ أحيْاها قال : ومن حرّمها فلم يقلتها .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن العلاء ، قال : سمعت مجاهدا يقول : مَنْ أحْياها فَكأنمَا أحيْا النّاسَ جَمِيعا قال : من كفّ عن قتلها فقد أحياها .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عزّ وجلّ : فَكأنمَا قَتَلَ النّاسَ جَمِيعا قال : هي كالتي في النساء : وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزاؤُهُ جَهَنّمُ في جزائه .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فَكأنمَا قَتَل النّاسَ جَمِيعا كالتي في سورة النساء : وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤمِنا مُتَعَمّدا في جزائه وَمَنْ أحْياها ولم يقتل أحدا فقد حيي الناس منه .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن العلاء بن عبد الكريم ، عن مجاهد في قوله : وَمَنْ أحيْاها فَكأنمَا أحيْا النّاسَ جَمِيعا قال : التفت إلى جلسائه فقال : هو هذا وهذا .

وقال آخرون : معنى ذلك : ومن قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ، لأنه يجب عليه من القصاص به والقود بقتله ، مثل الذي يجب عليه من القود والقصاص لو قتل الناس جميعا . ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : مِنْ أجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنا على بَنِي إسْرَائِيلَ أنّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسا بِغيْرِ نَفْسٍ أوْ فَسادٍ فِي الأرْضِ فَكأنمَا قَتَلَ النّاسَ جَمِيعا قال : يجب عليه من القتل مثل لو أنه قتل الناس جميعا . قال : كان أبي يقول ذلك .

وقال آخرون : معنى قوله : وَمَنْ أحيْاها من عفا عمن وجب له القصاص منه فلم يقتله . ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَمنْ أحيْاها فَكأنمَا أحيْا النّاسَ جَمِيعا يقول : من أحياها أعطاه الله جلّ وعزّ من الأجر مثلَ لو أنه أحيا الناس جميعا . أحياها فلم يقتلها وعفا عنها . قال : وذلك وليّ القتيل ، والقتيل نفسه يعفو عنه قبل أن يموت . قال : كان أبي يقول ذلك .

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن يوسن ، عن الحسن في قوله : وَمَنْ أحيْاها فَكأنمَا أحيْا النّاسَ جَمِيَعا قال : من عفا .

حدثنا سفيان ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، عن يونس ، عن الحسن : وَمَنْ أحيْاها فَكأنّمَا أحيْا النّاسَ جَمِيعا قال : من قُتل حميم له فعفا عن دمه .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن يمان ، عن سفيان ، عن يونس ، عن الحسن : وَمَنْ أحيْاها فَكأنمَا أحيْا النّاسَ جَمِيعا قال : العفو بعد القدرة .

وقال آخرون : معنى قوله : وَمَنْ أحيْاها فَكأنمَا أحيْا النّاسَ جَمِيعا ومن أنجاها من غرق أو حرق . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد : وَمَنْ أحيْاها فَكأنَما أحيْا النّاسَ جَمِيعا قال : من أنجاها من غَرَق أو حَرَق أو هلكة .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، وحدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاه : وَمَنْ أحيْاها فَكأنمَا أحيْا النّاسع جَمِيعا قال : من غَرَق أو حَرَق أو هَدَم .

حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن خصيف ، عن مجاهد : وَمَنْ أحيْاها قال : أنجاها . وقال الضحاك بما :

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن أبي عامر ، عن الضحاك ، قال : مَنْ قَتَلَ نَفْسا بِغَيْرِ نَفْسٍ قال : من تروّع أو لم يتورّع .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : ثني عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : فكأنمَا أحيْا النّاسَ جَمِيعا يقول : لو لم يقتله لكان قد أحيا الناس ، فلم يستحلّ محرّما . وقال قتادة والحسن في ذلك بما :

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، عن يونس ، عن الحسن : مَنْ قَتَلَ نَفْسا بِغَيْرِ نَفْسٍ أوْ فَسادٍ فِي الأرْضِ قال : عَظُم ذلك .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : مِنْ أجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنا على بَنِي إسْرَائِيلَ أنّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسا بِغَيْرِ نَفْسٍ . . . الاَية : من قتلها على غير نفس ولا فساد أفسدته فَكأنمَا قَتَلَ النّاسَ جَمِيعا وَمَنْ أحيْاها فَكأنمَا أحيْا النّاسَ جَمِيعا عظُم والله أجْرُها ، وعظُم وِزْرُها فأحيها يا ابن آدم بمالك ، وأحيها بعفوك إن استطعت ، ولا قوّة إلا بالله . وإنا لا نعلمه يحلّ دم رجل مسلم من أهل هذه القبلة إلا بإحدى ثلاث : رجل كفر بعد إسلامه فعليه القتل ، أو زنى بعد إحصانه فعليه الرجم ، أو قتل متعمدا فعليه القَوَد .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : تلا قتادة : مَنْ قَتَلَ نَفْسا بِغَيْرِ نَفْسٍ فَكأنمَا قَتَلَ النّاسَ جَمِيعا وَمَنْ أحْيها فَكأنمَا أحيْا النّاسَ جَمِيعا قال : عَظُم والله أجرُها ، وَعظُم والله وِزْرُها .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرا ابن المبارك ، عن سلام بن مسكين ، قال : ثني سليمان بن عليّ الرّبْعي ، قال : قلت للحسن : مِنْ أجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنا على بَنِي إسْرَائِيلَ أنّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسا بِغَيْرِ نَفْسً . . . الاَية ، أهي لنا يا أبا سعيد كما كانت لبني إسرائيل ؟ فقال : إي والذي لا إله غيره ، كما كانت لبني إسرائيل وما جعل دماء بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن سعيد بن زيد ، قال : سمعت خالدا أبا الفضل ، قال : سمعت الحسن تلا هذه الاَية : فَطَوّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أخِيهِ . . . إلى قوله : وَمَنْ أحيْاها فَكأنمَا أحيْا النّاسَ جَمِيعا ثم قال : عَظّم والله في الوزر كما تسمعون ، ورغّب والله في الأجر كما تسمعون إذا ظننت يا ابن آدم أنك لو قتلت الناس جميعا فإن لك من عملك ما تفوز به من النار ، كَذَبَتْك والله نفسك ، وكَذَبَكَ الشيطان .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن عاصم ، عن الحسن في قوله : فَكأنَما قَتَلَ النّاسَ جَمِيعا قال : وزرا وَمَنْ أحيْاها فَكأنّمَا أحيْا النّاسَ جَمِيعا . قال : أجرا .

وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال : تأويل ذلك أنه من قتل نفسا مؤمنة بغير نفس قتلتها فاستحقت القود بها والقتل قصاصا ، أو بغير فساد في الأرض ، بحرب الله ورسوله وحرب المؤمنين فيها ، فكأنما قتل الناس جميعا فيما استوجب من عظيم العقوبة من الله جلّ ثناؤه ، كما أوعده ذلك من فعله ربّه بقوله : وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ خالِدا فِيها وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وأعَدّ لَهُ عَذَابا عَظِيما .

وأما قوله : وَمَنْ أحيْاها فَكأنمَا أحيْا النّاسَ جَمِيعا فأولى التأويلات به قول من قال : من حرّم قتل من حرّم الله عزّ ذكره قتَله على نفسه ، فلم يتقدم على قتله ، فقد حِييَ الناس منه بسلامتهم منه ، وذلك إحياؤه إياها . وذلك نظير خبر الله عزّ ذكره عمن حاجّ إبراهيم في ربه ، إذ قال له إبراهيم : ربّيَ الّذِين يُحْيِى ويُمِيتُ قال أنا أُحْيِى وأُمِيتُ . فكان معنى الكافر في قيله : أنا أحيى وأميت : أنا أترك من قدرت على قتله وفي قوله : وأميت : قَتْلُه من قتله . فكذلك معن الإحياء في قوله : وَمَنْ أحْياها : من سلم الناس من قتله إياهم ، إلا فيما أذن الله في قتله منهم فَكأنمَا أحْيا النّاسَ جَمِيعا .

وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات بتأويل الاَية ، لأنه لا نفس يقوم قتلها في عاجل الضرّ مقام قتل جميع النفوس ، ولا إحياؤها مقام إحياء جميع النفوس في عاجل النفع ، فكان معلوما بذلك أن معنى الإحياء : سلامة جميع النفوس منه ، لأنه من لم يتقدم على نفس واحدة ، فقد سلم منه جميع النفوس ، وأن الواحدة منها التي يقوم قتلها مقام جميعها إنما هو في الوزر ، لأنه لا نفس من نفوس بني آدم يقوم فقدها مقام فقد جميعها وإن كان فقد بعضها أعمّ ضررا من فقد بعض .

القول في تأويل قوله تعالى : ولَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بالبَيّناتِ ثُمّ إنّ كَثِيرا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ في الأرْضِ لَمُسْرِفُونَ .

وهذا قسم من الله جلّ ثناؤه أقسم به ، إن رسله صلوات الله عليهم قد أتت بني إسرائيل الذين قصّ الله قصصهم وذكر نبأهم في الاَيات التي تقدمت من قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إذْ هَمّ قَوْمٌ أنْ يَبْسُطُوا إلَيْكُمْ أيْدِيَهُمْ إلى هذا الموضع . بالبَيّناتِ يعني : بالاَيات الواضحة ، والحجج البينة على حقية ما أرسلوا به إليهم وصحة ما دعوهم إليه من الإيمان بهم وأداء فرائض الله عليهم ، يقول الله عزّ ذكره : ثُمّ إنّ كَثِيرا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأرْضِ لَمُسْرِفُونَ يعني أن كثيرا من بني إسرائيل ، والهاء والميم في قوله : ثُمّ إنّ كَثِيرا مِنْهُمْ من ذكر بني إسرائيل ، وكذلك ذلك في قوله : وَلَقَدْ جارَتْهُمْ بعد ذلك ، يعني بعد مجييء رسل الله بالبينات في الأرض . لمُسْرِفُونَ يعني : أنهم في الأرض لعاملون بمعاصي الله ، ومخالفون أمر الله ونهيه ، ومحادوا الله ورسله ، باتباعهم أهواءهم وخلافهم على أنبيائهم وذلك كان إسرافهم في الأرض .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{مِنۡ أَجۡلِ ذَٰلِكَ كَتَبۡنَا عَلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ أَنَّهُۥ مَن قَتَلَ نَفۡسَۢا بِغَيۡرِ نَفۡسٍ أَوۡ فَسَادٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعٗا وَمَنۡ أَحۡيَاهَا فَكَأَنَّمَآ أَحۡيَا ٱلنَّاسَ جَمِيعٗاۚ وَلَقَدۡ جَآءَتۡهُمۡ رُسُلُنَا بِٱلۡبَيِّنَٰتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرٗا مِّنۡهُم بَعۡدَ ذَٰلِكَ فِي ٱلۡأَرۡضِ لَمُسۡرِفُونَ} (32)

{ من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا } .

يتعيّن أن يكون { من أجل ذلك } تعليلاً ل { كتبنا } ، وهو مبدأ الجملة ، ويكون منتهى التي قبلها قوله : { من النّادمين } [ المائدة : 31 ] . وليس قوله { من أجل ذلك } معلّقاً ب« النّادمين » تعليلاً له للاستغناء عنه بمفاد الفاء في قوله { فأصبح } [ المائدة : 31 ] .

و { مِن } للابتداء ، والأجْل الجَرّاء والتسبّب أصله مصدر أجَلَ يأجُل ويأجِل كنصر وضرب بمعنى جَنَى واكتسب . وقيل : هو خاصّ باكتساب الجريمة ، فيكون مرادفاً لجَنَى وَجَرَم ، ومنه الجناية والجريمة ، غير أنّ العرب توسّعوا فأطلقوا الأجْل على المكتسب مطلقاً بعلاقة الإطلاق . والابتداء الذي استعملت له ( مِن ) هنا مجازي ، شُبّه سبب الشيء بابتداء صدوره ، وهو مثار قولهم : إنّ من معاني ( مِنْ ) التعليل ، فإنّ كثرة دخولها على كلمة « أجل » أحدث فيها معنى التّعليل ، وكثر حذف كلمة أجل بعدها محدث فيها معنى التّعليل ، كما في قول الأعشى :

فآليْت لا أرثي لها من كلالة *** ولا من حَفى حتّى ألاقي محمّداً

واستفيد التّعليل من مفاد الجملة . وكان التّعليل بكلمة مِن أجل أقوى منه بمجرّد اللام ، ولذلك اختير هنا ليدلّ على أنّ هذه الواقعة كانت هي السّبب في تهويل أمر القتل وإظهار مثالبه . وفي ذكر اسم الإشارة وهو خصوص { ذلك } قصدُ استيعاب جميع المذكور .

وقرأ الجمهور { منْ أجل ذلك } بسكون نون ( مِن ) وإظهار همزة ( أجل ) . وقراءة ورش عن نافع بفتح النّون وحذف همزة أجل على طريقته . وقرأ أبو جعفر { مِنِ اجْل ذلك } بكسر نون ( من ) وحذففِ همزة أجل بعد نقل حركتها إلى النّون فصارت غير منطوق بها .

ومعنى { كتبنا } شرعنا كقوله { كُتب عليكم الصّيام } [ البقرة : 183 ] . ومفعول { كتبنا } مضمون جملة { أنّه مَن قتل نفساً بغير نفس أو فسادٍ في الأرض فكأنّما قتل النّاس جميعاً } . وَ ( أنَّ ) من قوله { أنَّه } بفتح الهمزة أخت ( إنّ ) المكسورة الهمزة وهي تفيد المصدريّة ، وضمير « أنّه » ضمير الشأن ، أي كتبنا عليهم شأناً مهمّاً هو مماثلةُ قتل نفس واحدة بغير حقّ لقتل القاتل النّاسَ أجمعين .

ووجه تحصيل هذا المعنى من هذا التّركيب يتّضح ببيان موقع حرف ( أنّ ) المفتوح الهمزة المشدّد النّون ، فهذا الحرف لا يقع في الكلام إلاّ معمولاً لعامل قبله يقتضيه ، فتعيّن أنّ الجملة بعد ( أنّ ) بمنزلة المفرد المعمول للعامل ، فلزم أنّ الجملة بعد ( أنّ ) مؤوّلة بمصدر يسبك ، أي يؤخذ من خبر ( أنّ ) .

وقد اتّفق علماء العربيّة على كون ( أنّ ) المفتوحة الهمزة المشدّدة النّون أختاً لحرف ( إنّ ) المكسورة الهمزة ، وأنّها تفيد التّأكيد مثل أختها .

واتّفقوا على كون ( أنْ ) المفتوحة الهمزة من الموصولات الحَرْفيّة الخمسة الّتي يسبك مدخولها بمصدر .

وبهذا تزيد ( أنّ ) المفتوحة على ( إنّ ) المكسورة . وخبر ( أنّ ) في هذه الآية جملة { من قَتل نفساً بغير نفس } الخ . وهي مع ذلك مفسّرة لضمير الشأن . ومفعول { كتبنا } مأخوذ من جملة الشّرط وجوابه ، وتقديرُه : كتبنا مُشابهةَ قتِل نفس بغير نفس الخ بقتل النّاس أجمعين في عظيم الجرم .

وعلى هذا الوجه جرى كلام المفسّرين والنحويين . ووقع في « لسان العرب » عن الفرّاء ما حاصله : إذا جاءت ( أنّ ) بعد القول وما تصرّف منه وكانت تفسيراً للقول ولم تكن حكاية له نصبتَها ( أي فتحت همزتها ) ، مثل قولك : قد قلتُ لك كلاماً حَسناً أنّ أباك شريف ، تفتَح ( أنّ ) لأنّها فسَّرت « كلاماً » ، وهو منصوب ، ( أي مفعول لفعل قُلت ) فمفسِّره منصوب أيضاً على المفعوليّة لأنّ البيان له إعراب المبيَّن . فالفراء يثبت لِحرف ( أنّ ) معنى التفسير عِلاوة على ما يثبته له جميع النحويين من معنى المصدريّة ، فصار حرف ( أنّ ) بالجمع بين القولين دَالاّ على معنى التّأكيد باطّراد ودالاّ معه على معنى المصدريّة تارة وعلى معنى التّفسير تارة أخرى بحسب اختلاف المقام . ولعلّ الفرّاء ينحُو إلى أنّ حرف ( أنّ ) المفتوحة الهمزة مركّب من حرفين هما حرف ( إنّ ) المكسورة الهمزة المشدّدة النّون ، وحرف ( أنْ ) المفتوحة الهمزة الساكنة النّون الّتي تكون تارة مصدريّة وتارة تفسيرية ؛ ففتْحُ همزته لاعتبار تركيبه من ( أنْ ) المفتوحة الهمزة السّاكنة النّون مصدريّة أو تفسيرية ، وتشديد نونه لاعتبار تركيبه من ( إنّ ) المكسورة الهمزة المشدّدة النّون ، وأصله و ( أنْ إنّ ) فلمّا رُكِّبَا تداخلت حروفهما ، كما قال بعض النّحويين : إن أصل ( لن ) ( لا أنْ ) .

وهذا بيان أنّ قتل النّفس بغير حقّ جُرم فظيع ، كفظاعة قتل النّاس كلّهم . والمقصود التّوطئة لمشروعيّة القصاص المصرّح به في الآية الآتية { وكتبنا عليهم فيها أنّ النّفس بالنّفس } [ المائدة : 45 ] الآية .

والمقصود من الإخبار بما كتب على بني إسرائيل بيان للمسلمين أنّ حكم القصاص شرع سالف ومراد لله قديم ، لأنّ لمعرفة تاريخ الشرائع تبصرة للمتفقّهين وتطميناً لنفوس المخاطبين وإزالة لما عسى أن يعترض من الشبه في أحكام خفيتْ مصالحُها ، كمشروعية القصاص ، فإنّه قد يبدو للأنظار القاصرة أنّه مداواة بمثل الدّاء المتداوَى منه حتّى دعا ذلك الاشتباهُ بعضَ الأمم إلى إبطال حكم القصاص بعلّة أنّهم لا يعاقبون المذنب بذَنْب آخر ، وهي غفلة دقّ مسلكها عن انحصار الارتداع عن القتل في تحقّق المُجازاة بالقتل ؛ لأنّ النفوس جُبلت على حبّ البقاء وعلى حبّ إرضاء القُوّة الغضبيّة ، فإذا علم عند الغضب أنّه إذا قتل فجزاؤه القتل ارتدع ، وإذا طمِع في أن يكون الجزاء دون القتل أقدم على إرضاء قوّته الغضبيّة ، ثُمّ علّل نفسه بأنّ ما دون القصاص يمكن الصّبر عليه والتفادي منه . وقد كثر ذلك عند العرب وشاع في أقوالهم وأعمالهم ، قال قائلهم ، وهو قيس بن زهير العبسي :

شَفيت النفسَ من حَمل بن بدر *** وسيفي من حُذيفة قد شَفَانِي

ولذلك قال الله تعالى : { ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب } [ البقرة : 179 ] .

ومعنى التشبيه في قوله : { فكأنّما قتل النّاس جميعاً } حثّ جميع الأمّة على تعقّب قاتل النّفس وأخذه أينما ثقف والامتناع من إيوائِه أو الستر عليه ، كلّ مخاطب على حسب مقدرته وبقدر بسطة يده في الأرض ، من ولاة الأمور إلى عامّة النّاس . فالمقصود من ذلك التشبيه تهويل القتل وليس المقصود أنّه قد قتل النّاس جميعاً ، ألا ترى أنّه قابل للعفو من خصوص أولياء الدم دون بقية النّاس . على أنّ فيه معنى نفسانياً جليلاً ، وهو أنّ الداعي الّذي يقدم بالقاتل على القتل يرجع إلى ترجيح إرضاء الداعي النفساني النّاشىء عن الغضب وحبّ الانتقام على دواعي احترام الحقّ وزجر النّفس والنظر في عواقب الفعل من نُظم العالم ، فالّذي كان من حيلته ترجيحُ ذلك الدّاعي الطفيف على جملة هذه المعاني الشّريفة فذلك ذو نفس يوشك أن تدعوه دَوْماً إلى هضم الحقوق ، فكلّما سنحت له الفرصة قَتل ، ولو دعته أن يقتل النّاس جميعاً لفعل . ولك أن تجعل المقصد من التشبيه توجيه حكم القصاص وحقّيّته ، وأنّه منظور فيه لحقّ المقتول بحيث لو تمكّن لما رضي إلاّ بجزاء قاتله بمثل جرمه ؛ فلا يتعجّب أحد من حكم القصاص قائلاً : كيف نصلح العالم بمثل ما فسد به ، وكيف نداوي الداء بداء آخر ، فبُيّن لهم أنّ قاتل النّفس عند وليّ المقتول كأنّما قتل النّاس جميعاً . وقد ذُكرتْ وجوه في بيان معنى التشبيه لا يقبلها النّظر .

ومعنى { ومن أحياها } من استنقذها من الموت ، لظهور أنّ الإحياء بعد الموت ليس من مقدور النّاس ، أي ومن اهتمّ باستنقاذها والذبّ عنها فكأنّما أحيى الناس جميعاً بذلك التّوجيه الّذي بيّنّاه آنفاً ، أو من غلَّب وازع الشرع والحكمة على داعي الغضب والشهوة فانكفّ عن القتل عند الغضب .

{ وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا بالبينات ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ بَعْدَ ذلك فِى الأرض لَمُسْرِفُونَ } .

تذييل لحكم شرع القصاص على بني إسرائيل ، وهو خبر مستعمل كناية عن إعراضهم عن الشريعة ، وأنّهم مع ما شدّد عليهم في شأن القتل ولم يزالوا يقتلون ، كما أشعر به قوله { بعد ذلك } ، أي بعد أن جاءتهم رسلنا بالبيّنات . ٍ وحذف متعلِّق « مسرفون » لقصد التّعميم . والمراد مسرفون في المفاسد الّتي منها قتل الأنفس بقرينة قوله : { في الأرض } ، فقد كثر في استعمال القرآن ذكر { في الأرض } [ البقرة : 60 ] مع ذكر الإفساد .

وجملة { ثمّ إنّ كثيراً منهم } عطف على جملة { ولقد جاءتهم رسلنا بالبيّنات } . و ( ثُمّ ) للتراخي في الرتبة ، لأنّ مجيء الرّسل بالبيّنات شأن عجيب ، والإسراف في الأرض بعد تلك البيّنات أعجب . وذِكر { في الأرض } لتصوير هذا الإسراف عند السامع وتفظيعه ، كما في قوله تعالى : { ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها } [ الأعراف : 56 ] . وتقديم { في الأرض } للاهتمام وهو يفيد زيادة تفظيع الإسراف فيها مع أهميّة شأنَها .

وقرأ الجمهور { رسُلنا } بضمّ السّين . وقرأه أبو عمرو ويعقوب بإسْكان السّين .