يخبر تعالى أن نصره عباده المؤمنين لأحد أمرين : إما أن يقطع طرفا من الذين كفروا ، أي : جانبا منهم وركنا من أركانهم ، إما بقتل ، أو أسر ، أو استيلاء على بلد ، أو غنيمة مال ، فيقوى بذلك المؤمنون ويذل الكافرون ، وذلك لأن مقاومتهم ومحاربتهم للإسلام تتألف من أشخاصهم وسلاحهم وأموالهم وأرضهم فبهذه الأمور تحصل منهم المقاومة والمقاتلة فقطع شيء من ذلك ذهاب لبعض قوتهم ، الأمر الثاني أن يريد الكفار بقوتهم وكثرتهم ، طمعا في المسلمين ، ويمنوا أنفسهم ذلك ، ويحرصوا عليه غاية الحرص ، ويبذلوا قواهم وأموالهم في ذلك ، فينصر الله المؤمنين عليهم ويردهم خائبين لم ينالوا مقصودهم ، بل يرجعون بخسارة وغم وحسرة ، وإذا تأملت الواقع رأيت نصر الله لعباده المؤمنين دائرا بين هذين الأمرين ، غير خارج عنهما إما نصر عليهم أو خذل لهم .
ثم يبين حكمة هذا النصر . . أي نصر . . وغاياته التي ليس لأحد من البشر منها شيء :
( ليقطع طرفا من الذين كفروا . أو يكبتهم فينقلبوا خائبين - ليس لك من الأمر شيء - أو يتوب عليهم . أو يعذبهم فإنهم ظالمون ) . .
إن النصر من عند الله . لتحقيق قدر الله . وليس للرسول [ ص ] ولا للمجاهدين معه في النصر من غاية ذاتية ولا نصيب شخصي . كما أنه ليس له ولا لهم دخل في تحقيقه ، وإن هم إلا ستار القدرة تحقق بهم ما تشاء ! فلا هم أسباب هذا النصر وصانعوه ؛ ولا هم أصحاب هذا النصر ومستغلوه ! إنما هو قدر الله يتحقق بحركة رجاله ، وبالتأييد من عنده . لتحقيق حكمة الله من ورائه وقصده :
( ليقطع طرفا من الذين كفروا ) . .
فينقص من عددهم بالقتل ، أو ينقص من أرضهم بالفتح ، أو ينقص من سلطانهم بالقهر ، أو ينقص من أموالهم بالغنيمة ، أو ينقص من فاعليتهم في الأرض بالهزيمة !
( أو يكبتهم فينقلبوا خائبين ) . .
ثم قال{[5649]} تعالى : { لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : أمركم بالجهاد والجلاد ، لما له في ذلك من الحكمة في كل تقدير ، ولهذا ذكر جميع الأقسام الممكنة في الكفار المجاهدين . فقال : { لِيَقْطَعَ طَرَفًا } أي : ليهلك أمة { مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ } أي : يخزيهم ويردهم بغيظهم لَمّا لم ينالوا منكم ما أرادوا ؛ ولهذا قال : { أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا } أي : يرجعوا { خَائِبِينَ } أي : لم يحصلوا على ما أمَّلُوا .
{ لِيَقْطَعَ طَرَفاً مّنَ الّذِينَ كَفَرُوَاْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ }
يعني بذلك جلّ ثناؤه : ولقد نصركم الله ببدر { لَيْقَطَع طَرَفا مِنَ الّذِينَ كَفَرُوا } ويعني بالطرف : الطائفة والنفر . يقول تعالى ذكره : ولقد نصركم الله ببدر كما يهلك طائفة من الذين كفروا بالله ورسوله فجحدوا وحدانية ربهم ونبوّة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { لِيَقْطَعَ طَرَفا مِنَ الّذِينَ كَفَرُوا } فقطع الله يوم بدر طرفا من الكفار ، وقتل صناديدهم ورؤساءهم ، وقادتهم في الشرّ .
حُدثت عن عمار ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، نحوه .
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن في قوله : { لِيَقْطَعَ طَرَقا مِنَ الّذِينَ كَفَرُوا } . . . الاَية كلها ، قال : هذا يوم بدر ، قطع الله طائفة منهم ، وبقيت طائفة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { ليَقْطَعَ طَرَفا مِنَ الّذِينَ كَفَرُوا } أي ليقطع طرفا من المشركين بقتل ينتقم به منهم .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وما النصر إلا من عند الله ليقطع طرفا من الذين كفروا ، وقال : إنما عنى بذلك من قتل بأُحد . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : ذكر الله قتلى المشركين ، يعني بأُحد ، وكانوا ثمانية عشر رجلاً ، فقال : { لِيَقْطَعَ طَرَفا مِنَ الّذِينَ كَفَرُوا } ثم ذكر الشهداء فقال : { وَلا تَحْسَبنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أمْوَاتا } . . . الاَية .
وأما قوله : { أوْ يَكْبِتَهُمْ } فإنه يعني بذلك أو يخزيهم بالخيبة بما رجوا من الظفر بكم . وقد قيل : إن معنى قوله : { أوْ يَكْبِتَهُمْ } : أو يصرعهم لوجوههم ، ذكر بعضهم أنه سمع العرب تقول : كَبَتَه الله لوجهه ، بمعنى صرعه الله .
فتأويل الكلام : ولقد نصركم الله ببدر ، ليهلك فريقا من الكفار بالسيف ، أو يخزيهم بخيبتهم مما طمعوا فيه من الظفر ، { فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ } يقول : فيرجعوا عنكم خائبين لم يصيبوا منكم شيئا ما رجوا أن ينالوه منكم . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { أوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ } أو يردّهم خائبين ، أو يرجع من بقي منهم خائبين ، لم ينالوا شيئا مما كانوا يأملون .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { أوْ يَكْبِتَهُمْ } يقول : يخزيهم فينقلبوا خائبين .
حدثت عن عمار ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله .
{ ليقطع طرفا من الذين كفروا } متعلق بنصركم ، أو { وما النصر } إن كان اللام فيه للعهد ، والمعنى لينقص منهم بقتل بعض وأسر آخرين ، وهو ما كان يوم بدر من قتل سبعين وأسر سبعين من صناديدهم . { أو يكبتهم } أو يخزيهم ، والكبت شدة الغيظ ، أو وهن يقع في القلب ، وأو للتنويع دون الترديد { فينقلبوا خائبين } فينهزموا منقطعي الأمال .
قوله : { ليقطع طرفاً } متعلّق ب ( النَّصر ) باعتبار أنَّه علَّة لبعض أحوال النصر ، أي ليقطع يوم بدر طرفاً من المشركين .
والطَّرف بالتحريك يجوز أن يكون بمعنى النَّاحية ، ويخصّ بالنَّاحية الَّتي هي منتهى المكان ، قال أبو تمّام :
كانت هي الوسَطَ المحميّ فاتّصلتْ *** بها الحَوادث حتَّى أصبحت طَرفا
فيكون استعارة لطائفة من المشركين كقوله تعالى : { أو لم يروا أنّا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها } [ الرعد : 41 ] ويجوز أن يكون بمعنى الجزء المتطرّف من الجسد كاليدين والرجلين والرأس فيكون مستعاراً هنا لأشراففِ المشركين ، أي ليقطع من جسم الشرك أهم أعضائه ، أي ليستأصل صناديد الَّذين كفروا .
وتنكير ( طرفاً ) للتفخيم ، ويقال : هو من أطراف العرب ، أي من أشرافها وأهل بيوتاتها .
ومَعنى { أو يكبتهم } يصيبهم بغمّ وكمد ، وأصل كبت كَبَد بالدال إذا أصابه في كَبده . كقولهم : صُدرَ إذا أصيب في صدره ، وكُلِيَ إذا أصيب في كُلْيَتِه ، ومُتِنَ إذا أصيب في مَتْنه ، ورُئي إذا أصيب في رِئته ، فأبدلت الدال تاء وقد تبدل التاء دالاً كقولهم : سَبَد رأسَه وسبَته أي حلقه . والعرب تتخيّل الغمّ والحزن مقرّه الكبد ، والغضب مقرّه الصّدر وأعضاء التنفّس . قال أبو الطيب يمدح سيف الدّولة حِين سفره عن أنطاكية :
لأَكْبِتَ حَاسداً وأرِي عَدُواً *** كأنَّهُمَا ودَاعُكَ والرّحيلُ
وقد استقرى أحوال الهزيمة فإنّ فريقاً قتلوا فقطع بهم طرف من الكافرين ، وفريقاً كبتُوا وانقلبوا خائبين ، وفريقاً مَنَّ الله عليهم بالإسلام ، فأسلموا ، وفريقاً عُذّبوا بالموت على الكفر بعد ذلك ، أو عذبوا في الدنيا بالذلّ ، والصغار ، والأسر ، والمَنّ عليهم يوم الفتح ، بعد أخذ بلدهم و « أو » بين هذه الأفعال للتقسيم .
وهذا القطع والكبت قد مضيا يوم بدر قبل نزول هذه الآية بنحو سنتين ، فالتَّعبير عنهما بصيغة المضارع لقصد استحضار الحالة العجيبة في ذلك النصر المبين العزيز النظير .