{ 19-25 } { أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى * إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى * أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى * فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى }
لما ذكر تعالى ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق ، والأمر بعبادة الله وتوحيده ، ذكر بطلان ما عليه المشركون من عبادة من ليس له من أوصاف الكمال شيء ، ولا تنفع ولا تضر ، وإنما هي أسماء فارغة عن المعنى ، سماها المشركون هم وآباؤهم الجهال الضلال ، ابتدعوا لها من الأسماء الباطلة التي لا تستحقها ، فخدعوا بها أنفسهم وغيرهم من الضلال ، فالآلهة التي بهذه الحال ، لا تستحق مثقال ذرة من العبادة ، وهذه الأنداد التي سموها بهذه الأسماء ، زعموا أنها مشتقة من أوصاف هي متصفة بها ، فسموا " اللات " من " الإله " المستحق للعبادة ، و " العزى " من " العزيز "
ذلك هو الأمر المستيقن ، الذي يدعوهم إليه محمد [ صلى الله عليه وسلم ] فأما هم فعلام يستدنون في عبادتهم وآلهتهم وأساطيرهم ? علام يستندون في عبادتهم لللات والعزى ومناة ? وفي ادعائهم الغامض أنهن ملائكة ، وأن الملائكة بنات الله ? وأن لهن شفاعة ترتجى عند الله ? إلى أي بينة ? وإلى أية حجة ? وإلى أي سلطان يرتكنون في هذه الأوهام ? هذا ما يعالجه المقطع الثاني في السورة :
أفرأيتم اللات والعزى ، ومناة الثالثة الأخرى . ألكم الذكر وله الأنثى ? تلك إذن قسمة ضيزى ! إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآبائكم ما أنزل الله بها من سلطان . إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ، ولقد جاءهم من ربهم الهدى . أم للإنسان ما تمنى ? فلله الآخرة والأولى . وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا َ ، إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى . إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى . وما لهم به من علم ، إن يتبعون إلا الظن ، وإن الظن لا يغني من الحق شيئا . .
وكانت( اللات )صخرة بيضاء منقوشة ، وعليها بيت بالطائف له أستار وسدنة ، وحوله فناء معظم عند أهل الطائف وهم ثقيف ومن تابعها ، يفتخرون بها على من عداهم من أحياء العرب عدا قريش لأن عندهم الكعبة بيت إبراهيم عليه السلام . ويظن ان اسمها [ اللات ] مؤنث لفظ الجلالة " الله " . سبحانه وتعالى .
وكانت [ العزى ] شجرة عليها بناء وأستار بنخلة - وهي بين مكة والطائف - وكانت قريش تعظمها . كما قال أبو سفيان يوم أحد . لنا العزى ولا عزى لكم . فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " قولوا : الله مولانا ولا مولى لكم " . ويظن أن اسمها [ العزى ] مؤنث( العزيز ) . .
يقول تعالى مُقَرِّعا للمشركين في عبادتهم الأصنام والأنداد والأوثان ، واتخاذهم لها البيوت مضاهاة للكعبة التي بناها خليل الرحمن ، عليه [ الصلاة و ] {[27643]} السلام : { أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ } ؟ وكانت " اللات " {[27644]} صخرةً بيضاء منقوشة ، وعليها بيت بالطائف له أستار وسَدَنة ، وحوله فناء معظّم عند أهل الطائف ، وهم ثقيف ومن تابعها ، يفتخرون بها على من عداهم من أحياء العرب بعد قريش .
قال ابن جرير : وكانوا قد اشتقوا اسمها من اسم الله [ تعالى ] {[27645]} ، فقالوا : اللات ، يعنون مؤنثة منه ، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا . وحكي عن ابن عباس ، ومجاهد ، والربيع بن أنس : أنهم قرؤوا " اللاتّ " بتشديد التاء ، وفسروه بأنه كان رجلا يَلُتُّ للحجيج في الجاهلية السويق ، فلما مات عكفوا على قبره فعبدوه .
وقال البخاري : حدثنا مسلم - هو ابن إبراهيم - حدثنا أبو الأشهب ، حدثنا أبو الجوزاء عن ابن عباس{[27646]} : { اللاتَ وَالْعُزَّى } قال : كان اللات رجلا يلت السَّويق ، سويق الحاج{[27647]} .
قال ابن جرير : وكذا العُزَّى من العزيز .
وكانت شجرة عليها بناء وأستار بنخلة ، وهي بين مكة والطائف ، كانت قريش يعظمونها ، كما
قال أبو سفيان يوم أحد : لنا العزى ولا عزَّى لكم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قولوا : الله مولانا ، ولا مولى لكم " {[27648]} .
وروى البخاري من حديث الزهري ، عن حُمَيد بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من حلف فقال في حلفه : واللات والعزى ، فليقل : لا إله إلا الله . ومن قال لصاحبه : تعال أقَامرْك ، فليتصدق " {[27649]} .
وهذا محمول على من سبق لسانه في{[27650]} ذلك ، كما كانت ألسنتهم قد اعتادته في زمن الجاهلية ، كما قال النسائي : أخبرنا أحمد بن بَكَّار وعبد الحميد بن محمد قالا حدثنا مَخْلَد ، حدثنا يونس ، عن أبيه ، حدثني مصعب بن سعد بن أبي وقاص ، عن أبيه قال : حلفت باللات والعزى ، فقال لي أصحابي : بئس ما قلت ! قلت هجرا ! فأتيت رسول صلى الله عليه سلم ، فذكرت ذلك له ، فقال : " قل : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير . وانفث عن شمالك ثلاثا ، وتعوَّذ بالله من الشيطان الرجيم ، ثم لا تعد " {[27651]} .
وأما " مناة " فكانت بالمُشَلَّل {[27652]} - عند قُدَيد ، بين مكة والمدينة - وكانت خزاعة والأوس والخزرج في جاهليتها يعظمونها ، ويُهلّون منها للحج إلى الكعبة . وروى البخاري عن عائشة نحوه {[27653]} . وقد كانت بجزيرة العرب وغيرها طواغيت أخر تعظمها العرب كتعظيم الكعبة غير هذه الثلاثة التي نص عليها في كتابه العزيز ، وإنما أفرد هذه بالذكر لأنها أشهر من غيرها .
قال ابن إسحاق في السيرة : وقد كانت العرب اتخذت مع الكعبة طواغيت ، وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة ، بها {[27654]} سدنة وحجاب ، وتهدي لها كما يهدى {[27655]} للكعبة ، وتطوف بها كطَوْفَاتِها بها ، وتنحر عندها ، وهي تعرف فضل الكعبة عليها ؛ لأنها كانت قد عرفت أنها بيت إبراهيم ، عليه السلام ، ومسجده . فكانت لقريش وبني كنانة العُزَّى بنخلة ، وكانت سدنتها وحجابها {[27656]} بني شيبان من سليم حلفاء بني هاشم{[27657]} .
قلت : بعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فهدمها ، وجعل يقول :
يا عُزَّ ، كُفْرَانَك لا سُبْحَانَك *** إني رأيت الله قَدْ أهَانَك
وقال النسائي : أخبرنا علي بن المنذر ، أخبرنا ابن فُضَيْل ، حدثنا الوليد بن جُمَيْع ، عن أبي الطُّفَيْلِ قال : لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد إلى نخلة ، وكانت بها العزى ، فأتاها خالد وكانت على ثلاث سَمُرات ، فقطع السَّمُرات ، وهدم البيت الذي كان عليها . ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال : " ارجع فإنك لم تصنع شيئًا " . فرجع خالد ، فلما أبصرته السَّدَنة - وهم حَجَبتها - أمعنوا في الحِيَل وهم يقولون : " يا عزى ، يا عزى " . فأتاها خالد فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها تحفن {[27658]} التراب على رأسها ، فغمسها بالسيف حتى قتلها ، ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فقال : " تلك العزى " {[27659]} .
قال ابن إسحاق : وكانت اللات لثقيف بالطائف ، وكان سَدَنتها وحجابها بنى مُعَتّب{[27660]} .
قلت : وقد بعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة وأبا سفيان صخر بن حرب ، فهدماها وجعلا مكانها مسجد الطائف .
قال ابن إسحاق : وكانت مناة للأوس والخزرج ومن دان بدينهم من أهل يثرب على ساحل البحر من ناحية المُشَلّل بقديد ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم [ إليها ]{[27661]} أبا سفيان صخر بن حرب ، فهدمها . ويقال : علي بن أبي طالب .
قال : وكانت ذو الخَلَصة {[27662]} لدَوس وخَثعم وبَجِيلة ، ومن كان ببلادهم من العرب بِتَبَالة .
قلت : وكان يقال لها : الكعبة اليمانية ، وللكعبة التي بمكة الكعبة الشامية .
فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم جرير بن عبد الله البجلي فهدمه .
قال : وكانت فَلْس{[27663]} لطيئ ولمن يليها بجبلي طيئ من{[27664]} سَلمى وأجا .
قال ابن هشام : فحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليه علي بن أبي طالب فهدمه ، واصطفى منه سيفين : الرّسُوب والمخْذَم ، فَنفَّله إياهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهما سيفا علي{[27665]} .
قال ابن إسحاق : وكان لحمير وأهل اليمن بيت بصنعاء يقال له : ريام . وذكر أنه كان به كلب أسود ، وأن الحبرين اللذين ذهبا مع تبع استخرجاه وقتلاه ، وهدما البيت .
قال ابن إسحاق : وكانت " رُضَاء " بيتا لبني ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم ، ولها يقول المستوغر بن ربيعة بن كعب بن سعد حين هدمها في الإسلام :
ولقد شَدَدْتُ عَلَى رُضَاء شَدّةً *** فَتَرَكْتُها قَفْرًا بِقَاع أسحَمَا
قال ابن هشام : إنه عاش ثلاثمائة وثلاثين{[27666]} سنة ، وهو القائل :
وَلَقَد سَئِمْتُ مِنَ الحيَاةِ وَطُولِهَا *** وَعُمّرْتُ منْ عَدَد السّنِينَ مِئِينَا
مائَةً حَدّتها بَعْدَها مائَتَان لي*** وازددت{[27667]} مِنْ عَدَد الشّهور سِنِينَا
هَلْ مَا بَقِي إلا كَمَا قَدْ فَاتَنَا *** يَومٌ يَمُرُّ وَلَيلةٌ تَحْدُونَا
قال ابن إسحاق : وكان ذو الكَعَبَات لبكر وتغلب ابني وائل ، وإياد بِسَنْداد وله يقول أعشى بن قيس بن ثعلبة :
بَيْنَ الخَوَرْنَق والسَّدير وَبَارقٍ *** والبيت ذو الكَعَبَات من سَنْدَاد{[27668]}
ولهذا قال [ تعالى ] {[27669]} : { أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى . وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخْرَى } ؟ .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَفَرَأَيْتُمُ اللاّتَ وَالْعُزّىَ * وَمَنَاةَ الثّالِثَةَ الاُخْرَىَ * أَلَكُمُ الذّكَرُ وَلَهُ الاُنْثَىَ * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَىَ } .
يقول تعالى ذكره : أفرأيتم أيها المشركون اللاّت ، وهي من الله ألحقت فيه التاء فأنثت ، كما قيل عمرو للذكر ، وللأنثى عمرة وكما قيل للذكر عباس ، ثم قيل للأنثى عباسة ، فكذلك سمى المشركون أوثانهم بأسماء الله تعالى ذكره ، وتقدّست أسماؤه ، فقالوا من الله اللات ، ومن العزيز العُزّى وزعموا أنهن بنات الله ، تعالى الله عما يقولون وافتروا ، فقال جلّ ثناؤه لهم : أفرأيتم أيها الزاعمون أن اللات والعُزّى ومناة الثالثة بناتُ الله ألَكُمُ الذّكَرُ يقول : أتختارون لأنفسكم الذكرَ من الأولاد ، وتكرهون لها الأنثى ، وتجعلون لَهُ الأُنْثَى التي لا ترضونها لأنفسكم ، ولكنكم تقتلونها كراهة منكم لهنّ .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : اللات فقرأته عامة قرّاء الأمصار بتخفيف التاء على المعنى الذي وصفتُ .
وذُكر أن اللات بيت كان بنخلة تعبده قريش . وقال بعضهم : كان بالطائف . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة أفَرَأيْتُمُ اللاّتَ والعُزّى أما اللات فكان بالطائف .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : أفَرأيْتُمُ اللات والعُزّى قال : اللات بيت كان بنخلة تعبده قريش .
وقرأ ذلك ابن عباس ومجاهد وأبو صالح «اللاّتّ » بتشديد التاء وجعلوه صفة للوثن الذي عبدوه ، وقالوا : كان رجلاً يَلُتّ السويق للحاج فلما مات عكفوا على قبره فعبدوه . ذكر الخبر بذلك عمن قاله :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد «أفَرأيْتُمُ اللاّتّ والعُزّى » قال : كان يَلُتّ السويق للحاجّ ، فعكف على قبره .
قال : ثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد «أفَرأيْتُمُ اللاّتّ » قال : اللاّتّ : كان يلتّ السويق للحاجّ .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد «اللاّتّ » قال : كان يَلُتّ السويق فمات ، فعكفوا على قبره .
حدثنا ابن حُميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قوله : اللاّتّ قال : رجل يلتّ للمشركين السويق ، فمات فعكفوا على قبره .
حدثنا أحمد بن هشام ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن أبي صالح ، في قوله : «اللاّتّ » قال : اللاتّ : الذي كان يقوم على آلهتهم ، يَلُتّ لهم السويق ، وكان بالطائف .
حدثني أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا أبو عبيد ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، عن أبي الأشهب ، عن أبي الجوزاء عن ابن عباس ، قال : كان يلتّ السويق للحاجّ .
وأولى القراءتين بالصواب عندنا في ذلك قراءة من قرأه بتخفيف التاء على المعنى الذي وصفت لقارئه كذلك لإجماع الحجة من قرّاء الأمصار عليه . وأما العُزّى فإن أهل التأويل اختلفوا فيها ، فقال بعضهم : كان شجرات يعبدونها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد والعُزّى قال : العُزّى : شُجيرات .
وقال آخرون : كانت العُزّى حَجَرا أبيض . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُميد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد بن جُبَير ، قال : العُزّى : حَجَر أبيض .
وقال آخرون : كان بيتا بالطائف تعبده ثقيف . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَالعُزّى قال : العزّى : بيت بالطائف تعبده ثقيف .
وقال آخرون : بل كانت ببطن نَخْلة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَمَناةَ الثّالِثَةَ الأُخْرَى قال : أما مناةُ فكانت بقُدَيد ، آلهة كانوا يعبدونها ، يعني اللات والعُزّى وَمناة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَمناةَ الثّالِثَةَ الأُخْرَى قال مناة بيت كان بالمشلّل يعبده بنو كعب .
واختلف أهل العربية في وجه الوقف على اللات ومنات ، فكان بعض نحوييّ البصرة يقول : إذا سكت قلت اللات ، وكذلك مناة تقول : مناتْ .
وقال : قال بعضهم : اللاتّ ، فجعله من اللتّ الذي يَلُتّ ولغة للعرب يسكتون على ما فيه الهاء بالتاء يقولون : رأيت طَلْحتْ ، وكلّ شيء مكتوب بالهاء فإنها تقف عليه بالتاء ، نحو نعمة ربك وشجرة . وكان بعض نحوّييّ الكوفة يقف على اللات بالهاء «أفَرأيْتُمُ اللاّة » وكان غيره منهم يقول : الاختيار في كل ما لم يضف أن يكون بالهاء رحمة من ربي ، وشجرة تخرج ، وما كان مضافا فجائزا بالهاء والتاء ، فالتاء للإضافة ، والهاء لأنه يفرد ويوقف عليه دون الثاني ، وهذا القول الثالث أفشى اللغات وأكثرها في العرب وإن كان للأخرى وجه معروف . وكان بعض أهل المعرفة بكلام العرب من أهل البصرة يقول : اللات والعزّى ومناة الثالثة : أصنام من حجارة كانت في جوف الكعبة يعبدونها .
{ أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى } هي أصنام كانت لهم ، فاللات كانت لثقيف بالطائف أو لقريش بنخلة وهي فعلة من لوى لأنهم كانوا يلوون عليها أي يطوفون . وقرأ هبة الله عن البزي ورويس عن يعقوب " اللات " بالتشديد على أنه سمي به لأنه صورة رجل كان يلت السويق بالسمن ويطعم الحاج . { والعزى } بالتشديد سمرة لغطفان كانوا يعبدونها فبعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فقطعها ، وأصلها تأنيث الأعز { ومناة } صخرة كانت لهذيل وخزاعة أو لثقيف وهي فعلة من مناة إذا قطعه فإنهم كانوا يذبحون عندها القرابين ومنه منى . وقرأ ابن كثير { مناة } وهي مفعلة من النوء فإنهم كانوا يستمطرون الأنواء عندها تبركا بها ، وقوله { الثالثة الأخرى } صفتان للتأكيد كقوله تعالى : { يطير بجناحيه } أو { الأخرى } من التأخر في الرتبة .
قوله تعالى : { أفرأيتم } مخاطبة لقريش ، وهي من رؤية العين ، لأنه أحال على أجرام مرئية ، ولو كانت : أرأيت : التي هي استفتاء لم تتعد . ولما فرغ من ذكر عظمة الله وقدرته ، قال على جهة التوقيف : أرأيتم هذه الأوثان وحقارتها وبعدها عن هذه القدرة والصفات العلية و : { اللات } اسم صنم كانت العرب تعظمه ، قال أبو عبيدة وغيره : كان في الكعبة ، وقال قتادة : كان بالطائف . وقال ابن زيد : كان بنخلة عند سوق عكاظ ، وقول قتادة أرجح يؤيده قول الشاعر : [ المتقارب ]
وفرّت ثقيف إلى لاتها*** بمنقلب الخائب الخاسر{[10703]}
والتاء في : { اللات } لام فعل كالباء من باب ، وقال قوم هي تاء تأنيث ، والتصريف يأبى ذلك ، وقرأ ابن عباس ومجاهد وأبو صالح : «اللاّت » بشد التاء ، وقالوا : كان هذا الصنم حجراً وكان عنده رجل من بهز يلت سويق الحاج على ذلك الحجر ويخدم الأصنام ، فلما مات عبدوا الحجر الذي كان عنده إجلالاً لذلكا لرجل وسموه باسمه ، ورويت هذه القراءة عن ابن كثير وابن عامر{[10704]} ، { والعزى } : صخرة بيضاء كانت العرب تعبدها وتعظمها ، قاله سعيد بن جبير وقال ابن مجاهد : كانت شجيرات تعبد ثم ببلاها انتقل أمرها إلى صخرة . و «عزى » مؤنثة عزيز ككبرى وعظمى{[10705]} ، وكانت هذه الأوثان تعظم الوثن منها قبيلة وتعبدها ، ويجيء كل من عز من العرب فيعظمها بتعظيم حاضرها . وقال أبو عبيدة معمر : كانت { العزى } { ومناة } في الكعبة ، وقال ابن زيد : وكانت { العزى } بالطائف ، وقال قتادة : كانت بنخلة .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: أفرأيتم أيها المشركون اللاّت، وهي من الله ألحقت فيه التاء فأنثت، كما قيل عمرو للذكر، وللأنثى عمرة وكما قيل للذكر عباس، ثم قيل للأنثى عباسة، فكذلك سمى المشركون أوثانهم بأسماء الله تعالى ذكره، وتقدّست أسماؤه، فقالوا من الله اللات، ومن العزيز العُزّى وزعموا أنهن بنات الله، تعالى الله عما يقولون، وافتروا، فقال جلّ ثناؤه لهم: أفرأيتم أيها الزاعمون أن اللات والعُزّى ومناة الثالثة بناتُ الله.
"ألَكُمُ الذّكَرُ" يقول: أتختارون لأنفسكم الذكرَ من الأولاد، وتكرهون لها الأنثى، وتجعلون لَهُ الأُنْثَى التي لا ترضونها لأنفسكم، ولكنكم تقتلونها كراهة منكم لهنّ.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: اللات فقرأته عامة قرّاء الأمصار بتخفيف التاء على المعنى الذي وصفتُ.
وذُكر أن اللات بيت كان بنخلة تعبده قريش. وقال بعضهم: كان بالطائف... قال ابن زيد، في قوله: "أفَرأيْتُمُ اللات والعُزّى" قال: اللات بيت كان بنخلة تعبده قريش...
وأما العُزّى فإن أهل التأويل اختلفوا فيها، فقال بعضهم: كان شجرات يعبدونها...
وقال آخرون: كانت العُزّى حَجَرا أبيض... وقال آخرون: كان بيتا بالطائف تعبده ثقيف...
وقال آخرون: بل كانت ببطن نَخْلة... عن قتادة "وَمَناةَ الثّالِثَةَ الأُخْرَى" قال: أما مناةُ فكانت بقُدَيد، آلهة كانوا يعبدونها، يعني اللات والعُزّى وَمناة.
في قوله: "وَمناةَ الثّالِثَةَ الأُخْرَى" قال مناة بيت كان بالمشلّل يعبده بنو كعب.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{أفرأيتم اللاّت والعُزّى} {ومناةَ الثالثة الأخرى} يخرّج تأويل هذا القول على وجوه... أحدها: أن يقول: أهؤلاء الذين تعبدونهم من اللاّت والعُزّى ومَناة أخبروكم، وقالوا لكم: إنه اصطفى لنفسه البنات ولكم البنين، وإن الملائكة بنات الله ونحوه. أأخذتم ذلك منها؟ أو ممّن أخذتم ذلك؟ وأنتم قوم لا تؤمنون بالرسل والكتب، وقد عرفوا أنها لم تخبرهم بذلك، فيُذكر بذلك سفههم.
والثاني: أن يقول: {أفرأيتم اللاّت والعزّى} {ومناة الثالثة الأخرى} التي سمّيتموها آلهة، وعبدتموها دون الله، ونسبتُم البنات إليه والبنين إلى أنفسكم. ثم لم يذكر جوابها: أنه من أمرهم بذلك؟ ومن اختار لهم ذلك؟ أو ممّن أخذوا ذلك؟. ثم قوله تعالى: {إن هي إلا أسماء سمّيتموها أنتم وآبائكم ما أنزل الله بها من سلطان} الآية [23] كأنه يقول، والله أعلم: إنكم إنما سمّيتموها آلهة، واخترتُم البنين، وله البنات بلا سلطان ولا حجة لكم؛ إنما هي أسماء سمّيتموها أنتم وآبائكم بلا حجة ولا سلطان، إنما هو هوى النفس، والظّن.
والثالث: يحتمل أن يقول: {أفرأيتم اللاّت والعُزّى} {ومَناة الثالثة الأخرى} أأمرتكم بصرف شكر ما أنعم الله تعالى عليكم وقبول ما وهب لكم من البنات على ما أخبر أنهما من مواهب الله تعالى بقوله تعالى: {يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور} [الشورى: 49] وبردّ مواهبه ودفنها حيّات ودسّها في التراب وبصرف العبادة إلى غير المُنعِم وقسمة البنين لأنفسكم والبنات له...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
والمعنى أخبرونا عن هذه الآلهة التي تدعونها من دون الله هل لها من هذه الآيات والصفات شيء.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
ومعنى الآية: أَخْبِرونا... هل لهذه الأصنام التي تعبدونها من دون الله من القدرة أن تفعل بعائذٍ بها ما فَعَلْنا نحن لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم من الرُّتب والتخصيص؟.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{اللات والعزى ومناة} أصنام كانت لهم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قال على جهة التوقيف: أرأيتم هذه الأوثان وحقارتها وبعدها عن هذه القدرة والصفات العلية...
{أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى} لما قرر الرسالة ذكر ما ينبغي أن يبتدئ به الرسول وهو التوحيد ومنع الخلق عن الإشراك، فقوله تعالى: {أفرأيتم} إشارة إلى إبطال قولهم بنفس القول كما أن ضعيفا إذا ادعى الملك ثم رآه العقلاء في غاية البعد عما يدعيه يقولون انظروا إلى هذا الذي يدعي الملك، منكرين عليه غير مستدلين بدليل لظهور أمره، فلذلك قال: {أفرأيتم اللات والعزى} أي كما هما فكيف تشركونهما بالله...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
يقول تعالى مُقَرِّعا للمشركين في عبادتهم الأصنام والأنداد والأوثان، واتخاذهم لها البيوت مضاهاة للكعبة التي بناها خليل الرحمن، عليه [الصلاة و] السلام: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ}؟...
. وقد كانت بجزيرة العرب وغيرها طواغيت أخر تعظمها العرب كتعظيم الكعبة غير هذه الثلاثة التي نص عليها في كتابه العزيز، وإنما أفرد هذه بالذكر لأنها أشهر من غيرها. قال ابن إسحاق في السيرة: وقد كانت العرب اتخذت مع الكعبة طواغيت، وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة، بها سدنة وحجاب، وتهدي لها كما يهدى للكعبة، وتطوف بها كطَوْفَاتِها بها، وتنحر عندها، وهي تعرف فضل الكعبة عليها؛ لأنها كانت قد عرفت أنها بيت إبراهيم، عليه السلام، ومسجده. فكانت لقريش وبني كنانة العُزَّى بنخلة، وكانت سدنتها وحجابها بني شيبان من سليم حلفاء بني هاشم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{أفرأيتم} أي أخبروني بسبب ما تلوت عليكم من هذه الآيات الباهرات. هل رأيتم رؤية خبرة بالباطن والظاهر {اللاّت} وهو صنم ثقيف {والعزى} وهي شجرة لغطفان وهما أعظم أصنامهم فإنهم كانوا يحلفون بهما..
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
{أفرأيتم} الخ، والهمزة للإنكار، والفاء لتوجيهه إلى ترتيب الرؤية على ما ذكر من شؤون الله تعالى المنافية لها غاية المنافاة...، وهي علمية عند كثير، ومفعولها الثاني على ما اختاره بعضهم محذوف لدلالة الحال عليه، فالمعنى أعقيب ما سمعتم من آثار كمال عظمة الله عز وجل في ملكه وملكوته وجلاله وجبروته وإحكام قدرته ونفاذ أمره رأيتم هذه الأصنام مع غاية حقارتها بنات الله سبحانه وتعالى.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
لما ذكر تعالى ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق، والأمر بعبادة الله وتوحيده، ذكر بطلان ما عليه المشركون من عبادة من ليس له من أوصاف الكمال شيء، ولا تنفع ولا تضر، وإنما هي أسماء فارغة عن المعنى، سماها المشركون هم وآباؤهم الجهال الضلال، ابتدعوا لها من الأسماء الباطلة التي لا تستحقها، فخدعوا بها أنفسهم وغيرهم من الضلال، فالآلهة التي بهذه الحال، لا تستحق مثقال ذرة من العبادة، وهذه الأنداد التي سموها بهذه الأسماء، زعموا أنها مشتقة من أوصاف هي متصفة بها، فسموا "اللات " من " الإله " المستحق للعبادة، و " العزى " من " العزيز"...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ذلك هو الأمر المستيقن، الذي يدعوهم إليه محمد [صلى الله عليه وسلم] فأما هم فعلام يستندون في عبادتهم وآلهتهم وأساطيرهم؟ علام يستندون في عبادتهم للات والعزى ومناة؟ وفي ادعائهم الغامض أنهن ملائكة، وأن الملائكة بنات الله؟ وأن لهن شفاعة ترتجى عند الله؟ إلى أي بينة؟ وإلى أية حجة؟ وإلى أي سلطان يرتكنون في هذه الأوهام؟ هذا ما يعالجه المقطع الثاني في السورة: أفرأيتم اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى. ألكم الذكر وله الأنثى؟ تلك إذن قسمة ضيزى! إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآبائكم ما أنزل الله بها من سلطان. إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس، ولقد جاءهم من ربهم الهدى. أم للإنسان ما تمنى؟ فلله الآخرة والأولى. وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا َ، إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى. إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى. وما لهم به من علم، إن يتبعون إلا الظن، وإن الظن لا يغني من الحق شيئا.. وكانت (اللات) صخرة بيضاء منقوشة، وعليها بيت بالطائف له أستار وسدنة، وحوله فناء معظم عند أهل الطائف وهم ثقيف ومن تابعها، يفتخرون بها على من عداهم من أحياء العرب عدا قريش لأن عندهم الكعبة بيت إبراهيم عليه السلام...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لما جرى في صفة الوحي ومشاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام ما دل على شؤون جليلة من عظمة الله تعالى وشرف رسوله صلى الله عليه وسلم وشرف جبريل عليه السلام إذ وصف بصفات الكمال ومنازل العزة كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم بالعروج في المنازل العليا، كان ذلك مما يثير موازنة هذه الأحوال الرفيعة بحال أعظم آلهتهم الثلاث في زعمهم وهي: اللاتُ، والعزَّى، ومناةُ التي هي أحجار مقرّها الأرض لا تملك تصرفاً ولا يعرج بها إلى رفعة. فكان هذا التضاد جامعاً خيالياً يقتضي تعقيب ذكر تلك الأحوال بذكر أحوال هاته. فانتقل الكلام من غرض إثبات أن النبي صلى الله عليه وسلم موحىً إليه بالقرآن، إلى إبطال عبادة الأصنام، ومناط الإِبطال قوله: {إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباءكم ما أنزل الله بها من سلطان}... والروية في {أفرأيتم} يجوز أن تكون بَصَرية تتعدّى إلى مفعول واحد فلا تطلب مفعولاً ثانياً ويكون الاستفهام تقريرياً تهكمياً، أي كيف ترون اللات والعزّى ومناةَ بالنسبة لما وصف في عظمة الله تعالى وشرف ملائكته وشرف رسوله صلى الله عليه وسلم وهذا تهكم بهم وإبطال لإِلهية تلك الأصنام بطريق الفحوى، ودليله العيان. وأكثر استعمال « أرأيت» أن تكون للرؤية البصرية على ما اختاره رضيّ الدين. وتكون جملة {ألكم الذكر} الخ استئنافاً وارتقاء في الرد أو بَدلَ اشتمال من جملة {أفرأيتم اللات والعزى} لأن مضمونها مما تشتمل عليه مزاعمهم...
.ويجوز أن تكون الرؤية علمية، أي أزعمتم اللات والعزى ومناةَ، فحذف المفعول الثاني اختصاراً لدلالة قوله: {ألكم الذكر وله الأنثى} عليه، والتقدير: أزعمتموهن بنات الله، أتجعلون له الأنثى وأنتم تبتغون الأبناء الذكور، وتكون جملة {ألكم الذكر} الخ بياناً للإِنكار وارتقاء في إبطال مزاعمهم، أي أتجعلون لله البنات خاصة وتغتبطون لأنفسكم بالبنين الذكور...
.واللاتُ: صنم كان لثقيف بالطائف، وكانت قريش وجمهور العرب يعبدونه، وله شهرة عند قريش...
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
شرح عقائد العرب في اللات والعزى ومناة والملائكة وتعليقات في صدد ذلك: ونرى من المفيد أن نشرح ما تضمنته الآيات من إشارات إلى عقائد العرب وتقاليدهم قبل الإسلام؛ لأن ذلك يساعد على فهم مقاصد الآيات وحكمة تنزيلها فنقول: إن مضمون الآيات وروحها تدل على الأمور التالية: -إن هذه العقائد ليست حديثة، وإنما هي متوارثة عن الآباء.
إنهم كانوا يقصدون من عبادتهم الملائكة والاستشفاع بهم تحقيق ما يبتغون من مطالب الحياة الدنيا فقط من جلب النفع ودفع الضرر دون تفكير بالآخرة ومصيرهم فيها لأنهم لم يكونوا يؤمنون بها. -ولقد تكرر في القرآن تسفيه العرب في عقائدهم المذكورة ونفي أثر ونفع استشفاعهم بالملائكة وتقرير كون الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح فقط هو المفيد للإنسان مما مرت منه أمثلة، ومما سوف يأتي كثير منه؛ حيث يدل هذا على أن فكرة الشفاعة كانت راسخة عندهم يعتقدون بأثرها النافع. ولقد تكرر كذلك تقرير كون الملائكة إنما هم عبيد الله، وأنهم لا يشفعون لأحد عند الله إلا إذا كان راضيا عنه آذنا بالشفاعة فيه مما أوردنا في سياق سورة المدثر أمثلة قرآنية عنه. والمتبادر أن هذا التقرير المتكرر قد انطوى فيه فيما انطوى إفهام العرب أن الذين يعبدونهم ويشركونهم في الدعاء والاتجاه مع الله هم عبيد خاضعون له لا يفتأون يسبحون بحمده ويقدسونه. وأن الأحجى أن يعبدوا الله رب العالمين من إنس وجن وملائكة. وأسلوب الآيات التي تجعل صلة بين هذه المعبودات الثلاثة وبين الملائكة وتسمية الملائكة بتسميات الأنثى هو أسلوب تنديدي فيه تنبيه لعقول العرب على عقائدهم الباطلة. والأسئلة الاستنكارية التي جاءت فيها هي من قبيل المساجلة والسخرية من قولهم وعقيدتهم. فقد كانوا يكرهون ولادة البنات ويتمنون لأنفسهم الذكور، ويعتبرون ولادتهم علامة امتياز وفضل. فكأنما أريد أن يقال لهم: إنكم تزدادون ضلالا وسخفا بنسبتكم البنات لله وأنتم تفضلون الذكور؛ حيث إن من المعقول أن يتخذ الله ولدا من الجنس المفضل. إذا كان لا بد من أن يكون له ولد. وقد جاء هذا صريحا في آية سورة الزمر هذه: {لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار...