الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{أَفَرَءَيۡتُمُ ٱللَّـٰتَ وَٱلۡعُزَّىٰ} (19)

قوله تعالى : " أفرأيتم اللات والعزى " لما ذكر الوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وذكر من آثار قدرته ما ذكر ، حاج المشركين إذ عبدوا ما لا يعقل وقال{[14375]} : أفرأيتم هذه الآلهة التي تعبدونها أو حين إليكم شيئا كما أوحي إلى محمد . وكانت اللات لثقيف ، والعزى لقريش وبني كنانة ، ومناة لبني هلال{[14376]} . وقال هشام : فكانت مناة لهذيل وخزاعة ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله عنه فهدمها عام الفتح . ثم اتخذوا اللات بالطائف ، وهي أحدث من مناة وكانت صخرة مربعة ، وكان سدنتها من ثقيف ، وكانوا قد بنوا عليها بناء ، فكانت قريش وجميع العرب تعظمها . وبها كانت العرب تسمي زيد اللات وتيم اللات . وكانت في موضع منارة{[14377]} مسجد الطائف اليسرى ، فلم تزل كذلك إلى أن أسلمت ثقيف ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة فهدمها وحرقها بالنار . ثم اتخذوا العزى وهي أحدث من اللات ، اتخذها ظالم بن أسعد ، وكانت بوادي نخلة الشامية فوق ذات عرق ، فبنوا عليها بيتا وكانوا يسمعون منها{[14378]} الصوت . قال ابن هشام : وحدثني أبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : كانت العزى شيطانة تأتي ثلاث سمرات ببطن نخلة ، فلما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ، بعث خالد بن الوليد رضي الله عنه فقال : ( ايت بطن نخلة فإنك تجد ثلاث سمرات فاعضد الأولى ) فأتاها فعضدها فلما جاء إليه قال : ( هل رأيت شيئا ) قال : لا . قال : ( فاعضد الثانية ) فأتاها فعضدها ، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( هل رأيت شيئا ) قال : لا . قال : ( فاعضد الثالثة ) فأتاها فإذا هو بحبشية نافشة شعرها ، واضعة يديها على عاتقها تصرف بأنيابها ، وخلفها دُبَيّة{[14379]} السلمي وكان سادنها فقال :

يا عُزّ كفرانك لا سبحانك *** إني رأيت الله قد أهانك

ثم ضربها ففلق رأسها فإذا هي حُمَمَة ، ثم عضد الشجرة وقتل دُبَيّة السادن ، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال : ( تلك العزى ولن تعبد أبدا ) وقال ابن جبير : العزى حجر أبيض كانوا يعبدونه . قتادة : نبت{[14380]} كان ببطن نخلة . ومناة : صنم لخزاعة . وقيل : إن اللات فيما ذكر بعض المفسرين أخذه المشركون من لفظ{[14381]} الله ، والعزى من العزيز ، ومناة من منى الله الشيء إذا قدره . وقرأ ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وحميد وأبو صالح " اللات " بتشديد التاء وقالوا : كان رجلا يلت السويق للحاج ذكر البخاري عن ابن عباس - فلما مات عكفوا على قبره فعبدوه . ابن عباس : كان يبيع السويق والسمن عند صخرة ويصبه عليها ، فلما مات ذلك الرجل عبدت ثقيف تلك الصخرة إعظاما لصاحب السويق . أبو صالح : إنما كان رجلا بالطائف فكان يقوم على ألهتهم ويلت لهم السويق فلما مات عبدوه . مجاهد : كان رجل في رأس جبل له غنيمة يَسْلِي{[14382]} منها السمن ويأخذ منها الأقط ويجمع رسلها ، ثم يتخذ منها حيسا{[14383]} فيطعم الحاج ، وكان ببطن نخلة فلما مات عبدوه وهو اللات . وقال الكلبي : كان رجلا من ثقيف يقال له صرمة بن غنم . وقيل : إنه عامر بن ظرب العدواني . قال الشاعر{[14384]} :

لا تنصروا اللاتَ إن الله مُهْلِكُها *** وكيفَ ينصركم من ليس ينتصر

والقراءة الصحيحة " اللات " بالتخفيف اسم صنم والوقوف عليها بالتاء وهو اختيار الفراء . قال الفراء : وقد رأيت الكسائي سأل أبا فقعس الأسدي{[14385]} فقال ذاه لذات ولاه للات ، وقرأ " أفرأيتم اللاه " وكذا قرأ الدوري عن الكسائي والبزي عن ابن كثير " اللاه " بالهاء في الوقف ، ومن قال : إن " اللات " من الله وقف بالهاء أيضا . وقيل : أصلها لاهة مثل شاة أصلها شاهة وهي من لاهت أي اختفت ، قال الشاعر :

لاهتْ فما عُرِفت يوما بخارجة *** يا ليتها خرجت حتى رأيناها

وفي الصحاح : اللات اسم صنم كان لثقيف وكان بالطائف ، وبعض العرب يقف عليها بالتاء ، وبعضهم بالهاء ، قال الأخفش : سمعنا من العرب من يقول اللات والعزى ، ويقول هي اللات فيجعلها تاء في السكوت وهي اللات فأعلم أنه جر في موضع الرفع ، فهذا مثل أمس مكسور على كل حال وهو أجود منه ؛ لأن الألف واللام اللتين في اللات لا تسقطان وإن كانتا زائدتين ، وأما ما سمعنا من الأكثر في اللات والعزى في السكوت عليها فاللاه ؛ لأنها هاء فصارت تاء في الوصل وهي في تلك اللغة مثل : كان من الأمر كيت وكيت ، وكذلك هيهات في لغة من كسرها ، إلا أنه يجوز في هيهات أن تكون جماعة ولا يجوز ذلك في اللات ؛ لأن التاء لا تزاد في الجماعة إلا مع الألف ، وإن جعلت الألف والتاء زائدتين بقي الاسم على حرف واحد .


[14375]:في ب، ح، ز، س، ل، هـ: "وقيل".
[14376]:اتفقت نسخ الأصل على القول بأن مناة لبني هلال ولم نره لغير المؤلف.
[14377]:الزيادة من كتاب الأصنام لابن الكلبي.
[14378]:في كتاب الأصنام "فيه" بدل "منها".
[14379]:دبية بالدال المهملة بن حرمس ويروى ابن حرمي ثم السلمي.
[14380]:في ب، ز، هـ ول: "بيت".
[14381]:في ب، ح، ز، س، ل، هـ: "اسم الله".
[14382]:يسلي: يجمع. الأقط لبن مجفف يابس مستحجر يطبخ به. والرسل اللبن.
[14383]:الحيس: الطعام المتخذ من التمر والأقط والسمن.
[14384]:هو شداد بن عارض الجشمي قاله في أبيات حين هدمت اللات وحرقت، ينهى ثقيفا عن العود إليها، والغضب لها.
[14385]:الذي ذكره النحاس في إعراب قوله تعالى: "ولات حين مناص" أن الفراء قال عن الكسائي: أحسبه أنه سأل أبا السمال كيف يقرأ فيقف على "ولات" فوقف عليها بالهاء. وعبارة الفراء في هذه السورة من تفسيره: وكان الكسائي يقف عليها بالهاء وأنا أقف على التاء. اهـ. ولم يذكر أبا فقعس.