روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{أَفَرَءَيۡتُمُ ٱللَّـٰتَ وَٱلۡعُزَّىٰ} (19)

{ أَفَرَءيْتُمُ اللات والعزى ومناة الثالثة الاخرى } هي أصنام كانت لهم فاللات كما قال قتادة : لثقيف بالطائف ، وأنشدوا :

وفرت ثقيف إلى ( لاتها ) *** بمقلب الخائب الخاسر

/ وقال أبو عبيدة . وغيره : كان بالكعبة ، وقال ابن زيد : كان بنخلة عند سوق عكاظ يعبده قريش ، ورجح ابن عطية قول قتادة ، وقال أبو حيان : يمكن الجمع بأن يكون المسمى بذلك أصناماً فأخبر عن كل صنم بمكانه ، والتاء فيه قيل : أصلية وهي لام الكلمة كالباء في باب ، وألفه منقلبة فيما يظهر من ياء لأن مادة ( ل ي ت ) موجودة فإن وجدت مادة ( ل و ت ) جاز أن تكون منقلبة من واو ، وقيل : تاء العوض ، والأصل لوية بزنة فعلة من لوى لأنهم كانوا يلوون عليه ويعتكفون للعبادة ، أو يلتون عليه أي يطوفون فخفف بحذف الياء وأبدلت واوه ألفاً ، وعوض عن الياء تاءاً فصارت كتاء أخت وبنت ، ولذا وقف عليها بالتاء ، وقرأ ابن عباس . ومجاهد . ومنصور بن المعتمر . وأبو صالح . وطلحة . وأبو الجوزاء . ويعقوب . وابن كثير في رواية بتشديد التاء على أنه اسم فاعل من لت يلت إذا عجن قيل : كان رجل يلت السويق للحاج على حجر فلما مات عبدوا ذلك الحجر إجلالاً له وسموه بذلك ، وعن مجاهد أنه كان على صخرة في الطائف يصنع حيسا ويطعم من يمرّ من الناس فلما مات عبدوه ، وأخرج ابن أبي حاتم . وابن مردويه عن ابن عباس أنه كان يلت السويق على الحجر فلا يشرب منه أحد إلا سمن فعبدوه ، وأخرج الفاكهي عنه أنه لما مات قال لهم عمرو بن حلى : إنه لم يمت ولكنه دخل الصخرة فعبدوها وبنوا عليها بيتاً ، وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال : كان رجل من ثقيف يلت السويق بالزيت فلما توفي جعلوا قبره وثناً ، وزعم الناس أنه عامر بن الظرب أحد عدوان ، وقيل : غير ذلك { والعزى } لغطفان وهي على المشهور سمرة بنخلة كما قال قتادة وأصلها تأنيث الأعز ، وأخرج النسائي . وابن مردويه عن أبي الطفيل قال : «لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد إلى نخلة وكانت بها العزى فأتاها خالد وكانت ثلاث سمرات فقطع السماوات وهدم البيت الذي كان عليها ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال : ارجع فإنك لم تصنع شيئاً فرجع خالد فلما أبصرته السدنة مضوا وهم يقولون يا عزي يا عزي فأتاها فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها تحثو التراب على رأسها فجعل يضربها بالسيف حتى قتلها ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال عليه الصلاة والسلام : تلك العزى »

وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم بعث إليها خالداً فقطعها فخرجت منها شيطانة ناشرة شعرها داعية ويلها واضعة يدها على رأسها فضربها بالسيف حتى قتلها وهو يقول :

يا عز كفرانك لا سبحانك *** إني رأيت الله قد أهانك

ورجع فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام : «تلك العزى ولن تعبد أبداً » وقال ابن زيد : كانت العزى بالطائف ، وقال أبو عبيدة : كانت بالكعبة ، وأيده في البحر بقول أبي سفيان في بعض الحروب للمسلمين لنا العزى ولا عزى لكم ؛ وذكر فيه أنه صنم وجمع بمثل ما تقدم { ومناة } قيل : صخرة كانت لهذيل . وخزاعة ، وعن ابن عباس لثقيف ، وعن قتادة للأنصار بقديد ، وقال أبو عبيدة : كانت بالكعبة أيضاً ، واستظهر أبو حيان أنها ثلاثتها كانت فيها قال : لأن المخاطب في قوله تعالى : أفرأيتم قريش ؟ وفيه بحث ، ومناة مقصورة قيل : وزنها فعلة ، وسميت بذلك لأن دماء النسائك كانت تمنى عندها أي تراق ، وقرأ ابن كثير على ما في البحر مناءة بالمد والهمز كما في قوله :

ألا هل أتي تميم بن عبد ( مناءة ) *** على النأى فيما بيننا ابن تميم

ووزنها مفعلة فالألف منقلبة عن واو كما في مقالة ، والهمزة أصل وهي مشتقة من النوء كأنهم كانوا يستمطرون عندها الأنوار تبركاً بها ، والظاهر أن ( الثالثة الأخرى ) صفتان لمناة وهما على ما قيل : للتأكيد فإن كونها ثالثة وأخرى مغايرة لما تقدمها معلوم غير محتاج للبيان ، وقال بعض الأجلة : ( الثالثة ) للتأكيد ، و ( الأخرى ) للذم بأنها متأخرة في الرتبة وضيعة المقدار ، وتعقبه أبو حيان بأن آخر ومؤنثة أخرى لم يوضعا لذم ولا لمدح وإنما يدلان على معنى غير ، والحق أن ذلك باعتبار المفهوم الأصلي وهي تدل على ذم السابقتين أيضاً قال في الكشف : هي اسم ذم يدل على وضاعة السابقتين بوجه أيضاً لأن { أخرى } تأنيث آخر تستدعي المشاركة مع السابق فإذا أتى بها لقصد التأخر في الرتبة عملاً بمفهومها الأصلي إذ لا يمكن العمل بالمفهوم العرفي لأن السابقتين ليستا ثالثة أيضاً استدعت المشاركة قضاءاً لحق التفضيل ، وكأنه قيل : ( الأخرى ) في التأخر انتهى وهو حسن ، وذكر في نكتة ذم مناة بهذا الذم أن الكفرة كانوا يزعمون أنها أعظم الثلاثة فأكذبهم الله تعالى بذلك .

وقال الإمام : ( الأخرى ) صفة ذم كأنه قال سبحانه : ( ومناة الثالثة ) الذليلة وذلك لأن اللات كان على صورة آدمي { والعزى } صورة نبات { ومناة } صورة صخرة ، فالآدمي أشرف من النبات ، والنبات أشرف من الجماد فالجماد متأخر ومناة جماد فهي في أخريات المراتب ، وأنت تعلم أنه لا يتأتى على كل الأقوال ، وقيل : ( الأخرى ) صفة للعزى لأنها ثانية اللات ، والثانية يقال لها ( الأخرى ) وأخرت لموافقة رؤوس الآي ، وقال الحسن ابن المفضل : في الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير والعزى الأخرى { ومناة الثالثة } ولعمري إنه ليس بشيء والكلام خطاب لعبدة هذه المذكورات وقد كانوا مع عبادتهم لها يقولون : إن الملائكة عليهم السلام وتلك المعبودات الباطلة بنات الله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا فقيل لهم توبيخا وتبكيتا { أفرأيتم } الخ والهمزة للإنكار والفاء لتوجيهه إلى ترتيب الرؤية على ما ذكر من شؤون الله تعالى المنافية لها غاية المنافاة وهي علمية عند كثير ، ومفعولها الثاني على ما اختاره بعضهم محذوف لدلالة الحال عليه ، فالمعنى أعقيب ما سمعتم من آثار كمال عظمة الله عز وجل في ملكه وملكوته وجلاله وجبروته وإحكام قدرته ونفاذ أمره رأيتم هذه الأصنام مع غاية حقارتها بنات الله سبحانه وتعالى .