{ وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ } : أي : قال هؤلاء المكذبون ، من جهلهم ومعاندتهم الحق ، مستعجلين للعذاب : { رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا } أي : قسطنا وما قسم لنا من العذاب عاجلا { قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ } ولَجُّوا في هذا القول ، وزعموا أنك يا محمد ، إن كنت صادقا ، فعلامة صدقك أن تأتينا بالعذاب . .
وكان هذا رحمة بهم من الله . ولكنهم لم يعرفوا قدر هذه الرحمة ، ولم يشكروا الله هذه المنة . فاستعجلوا جزاءهم ، وطلبوا أن يوفيهم الله حظهم ونصيبهم ، قبل اليوم الذي أنظرهم إليه :
( وقالوا : ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب ) . .
وعند هذا الحد يتركهم السياق ويلتفت إلى الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] يسليه عن حماقة القوم وسوء أدبهم مع الله ، واستعجالهم بالجزاء ، وتكذيبهم بالوعيد ، وكفرهم برحمة الله . . ويدعوه أن يذكر ما وقع للرسل قبله من ابتلاء . وما نالهم من رحمة الله بعد البلاء . .
وقوله : { وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ } هذا إنكار من الله على المشركين في دعائهم على أنفسهم بتعجيل العذاب ، فإن القط هو الكتاب وقيل : هو الحظ والنصيب .
قال ابن عباس ومجاهد والضحاك والحسن وغير واحد : سألوا تعجيل العذاب - زاد قتادة كما قالوا : { اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الأنفال : 32 ]
وقيل : سألوا تعجيل نصيبهم من الجنة إن كانت موجودة أن يلقوا ذاك في الدنيا . وإنما خرج هذا منهم مخرج الاستبعاد والتكذيب .
وقال ابن جرير : سألوا تعجيل ما يستحقونه من الخير أو الشر في الدنيا وهذا الذي قاله جيد ، وعليه يدور كلام الضحاك وإسماعيل بن أبي خالد والله أعلم .
وقوله : وَقالُوا رَبّنا عَجّلْ لَنا قِطّنا قَبْلَ يوْم الحِسابِ يقول تعالى ذكره : وقال هؤلاء المشركون بالله من قريش : يا ربنا عجل لنا كتبنا قبل يوم القيامة . والقِطّ في كلام العرب : الصحيفة المكتوبة ومنه قول الأعشى :
وَلا المَلِكُ النّعْمانُ يَوْمَ لَقِيتُهُ *** بنِعْمَتِهِ يُعْطِي القُطُوطَ ويَأْفِقُ
يعني بالقُطوط : جمع القِط ، وهي الكتب بالجوائز .
واختلف أهل التأويل في المعنى الذي أراد هؤلاء المشركون بمسألتهم ربهم تعجيل القطّ لهم ، فقال بعضهم : إنما سألوا ربهم تعجيل حظهم من العذاب الذي أعدّ لهم في الاَخرة في الدنيا ، كما قال بعضهم : إنْ كانَ هَذَا هُوَ الحَقّ مِنْ عِنْدِكَ فَأمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السّماءِ أو أئْتِنا بَعَذَابٍ ألِيمٍ . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : رَبّنا عَجّلْ لَنا قِطّنا يقول : العذاب .
حدثني محمد بن سعيد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَقالُوا رَبّنا عَجّلْ لنَا قِطّنا يَوْمَ الحِسابِ قال : سألوا الله أن يعجل لهم العذاب قبل يوم القيامة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزّة ، عن مجاهد ، في قوله : عَجّلْ لنَا قِطّنا قال : عذابنا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : عَجّلْ لنَا قِطّنا قال : عذابنا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَقالُوا رَبّنا عَجّلْ لَنا قِطّنا قَبْلَ يَوْمِ الحِسابِ : أي نصيبنا حظنا من العذاب قبل يوم القيامة ، قال : قد قال ذلك أبو جهل : اللهمّ إن كان ما يقول محمد حقا فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السّماءِ . . . الاَية .
وقال آخرون : بل إنما سألوا ربهم تعجيل أنصبائهم ومنازلهم من الجنة حتى يروها فيعلموا حقيقة ما يعدهم محمد صلى الله عليه وسلم فيؤمنوا حينئذٍ به ويصدّقوه . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : عَجّلْ لنَا قِطّنا قالوا : أرنا منازلنا في الجنة حتى نتابعك .
وقال آخرون : مسألتهم نصيبهم من الجنة ، ولكنهم سألوا تعجيله لهم في الدنيا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن ثابت الحدّاد ، قال : سمعت سعيد بن جُبَير يقول في قوله : عَجّلْ لنَا قِطّنا قَبْلَ يَوْمِ الحِسابِ قال : نصيبنا من الجنة .
وقال آخرون : بل سألوا ربهم تعجيل الرزق . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمر بن عليّ ، قال : حدثنا أشعث السجستاني ، قال : حدثنا شعبة ، عن إسماعيل بن أبي خالد في قوله : عَجّلْ لنَا قِطّنا قال : رزقنا .
وقال آخرون : سألوا أن يعجل لهم كتبهم التي قال الله فأمّا مَنْ أوتِيَ كِتابَهُ بيَمِينِهِ . وَأمّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمالِهِ في الدنيا ، لينظروا بأيمانهم يُعْطَوْنها أم بشمائلهم ؟ ولينظروا مِن أهل الجنة هم ، أم من أهل النار قبل يوم القيامة استهزاء منهم بالقرآن وبوعد الله .
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال : إن القوم سألوا ربهم تعجيل صكاكهم بحظوظهم من الخير أو الشرّ الذي وعد الله عباده أن يؤتيهموها في الاَخرة قبل يوم القيامة في الدنيا استهزاء بوعيد الله .
وإنما قلنا إن ذلك كذلك ، لأن القطّ هو ما وصفت من الكتب بالجوائز والحظوظ ، وقد أخبر الله عن هؤلاء المشركين أنهم سألوه تعجيل ذلك لهم ، ثم أتبع ذلك قوله لنبيه : اصْبِرْ على ما يَقُولُونَ فكان معلوما بذلك أن مسألتهم ما سألوا النبيّ صلى الله عليه وسلم لو لم تكن على وجه الاستهزاء منهم لم يكن بالذي يتبع الأمر بالصبر عليه ، ولكن لما كان ذلك استهزاء ، وكان فيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم أذى ، أمره الله بالصبر عليه حتى يأتيه قضاؤه فيهم ، ولما لم يكن في قوله : عَجّلْ لنَا قِطّنا بيان أيّ القطوط إرادتهم ، لم يكن لما توجيه ذلك إلى أنه معنيّ به القُطوط ببعض معاني الخير أو الشرّ ، فلذلك قلنا إن مسألتهم كانت بما ذكرت من حظوظهم من الخير والشرّ .
ثم ذكر عز وجل عنهم أنهم قالوا : { ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب } والقط : الحظ والنصيب ، والقط أيضاً : الصك والكتاب من السلطان بصلة ونحوه ، ومنه قول الأعشى : [ الطويل ]
ولا الملك النعمان يوم لقيته***بغبطته يعطي القطوط ويأفق
واختلف الناس في «القط » هنا ما أرادوا به ، فقال سعيد بن جبير : أرادوا به عجل لنا نصيبنا من الخير والنعيم في دنيانا . وقال أبو العالية والكلبي : أرادوا عجل لنا صحفنا بإيماننا ، وذلك لما سمعوا في القرآن أن الصحف تعطى يوم القيامة بالأيمان والشمائل ، قالوا ذلك . وقال ابن عباس وغيره : أرادوا ضد هذا من العذاب ونحوه ، فهذا نظير قولهم : { فأمطر علينا حجارة من السماء } [ الأنفال : 42 ] وقال السدي ، المعنى : أرنا منازلنا في الجنة حتى نتابعك ، وعلى كل تأويل ، فكلامهم خرج على جهة الاستخفاف والهزء ، ويدل على ذلك ما علم من كفرهم واستمر ، ولفظ الآية يعطي إقراراً بيوم الحساب .