{ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً } أي : أغطية وأغشية لا يفقهون معها القرآن بل يسمعونه سماعا تقوم به عليهم الحجة ، { وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا } أي : صمما عن سماعه ، { وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآن } داعيا لتوحيده ناهيا عن الشرك به .
{ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا } من شدة بغضهم له ومحبتهم لما هم عليه من الباطل ، كما قال تعالى : { وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ }
وجعل على قلوبهم كالأغلفة فلا تفقه القرآن ، وجعل في آذانهم كالصمم فلا تعي ما فيه من توجيه :
( وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا . وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا . وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا . نحن أعلم بما يستمعون به ، إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى . إذ يقول الظالمون : إن تتبعون إلا رجلا مسحورا . انظر كيف ضربوا لك الأمثال ، فضلوا فلا يستطيعون سبيلا ) . .
وقد روى ابن اسحاق في السيرة عن محمد بن مسلم بن شهاب عن الزهري أنه حدث أن أبا سفيان بن حرب ، وأبا جهل بن هشام ، والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي حليف بني زهرة خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله [ ص ] وهو يصلي بالليل في بيته ؛ فأخذ كل واحد منهم مجلسا يستمع فيه ، وكل لا يعلم بمكان صاحبه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، حتى إذا جمعتهم الطريق تلاوموا ، فقال بعضهم لبعض : لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا . ثم انصرفوا . حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا وجمعهم الطريق . فقال بعضهم لبعض مثل ما قاله أول مرة . ثم انصرفوا . حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل مجلسه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، فجمعتهم الطريق ؛ فقال بعضهم لبعض : لا نبرح حتى نتعاهد لا نعود . فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا . فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ثم خرج حتى أتي أبا سفيان بن حرب في بيته ، فقال : أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد . قال : يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها ، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها . قال الأخنس : وأنا ، والذي حلفت به . قال : ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته ؛ فقال : يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد ? قال : ماذا سمعت ? قال : تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف : أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا ، وأعطوا فأعطينا . حتى إذا تجاثينا على الركب ، وكنا كفرسي رهان ، قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء . فمتى ندرك هذه ? والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه ! قال فقام عنه الأخنس وتركه . .
فهكذا كان القوم تتأثر بالقرآن فطرتهم فيصدونها ، وتجاذبهم إليه قلوبهم فيمانعونها ، فجعل الله بينهم وبين الرسول حجابا خفيا لا يظهر للعيون ولكن تحسه القلوب ، فإذا هم لا ينتفعون به ، ولا يهتدون بالقرآن الذي يتلوه . وهكذا كانوا يتناجون بما أصاب قلوبهم من القرآن ، ثم يتآمرون على عدم الاستماع إليه ؛ ثم يغلبهم التأثر به فيعودون ، ثم يتناجون من جديد ، حتى ليتعاهدون على عدم العودة ليحجزوا أنفسهم عن هذا القرآن المؤثر الجذاب الذي يخلب القلوب والألباب ! ذلك أن عقيدة التوحيد التي يدور عليها هذا القرآن كانت تهددهم في مكانتهم وفي امتيازاتهم وفي كبريائهم فينفرون منها :
( وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا ) . .
نفورا من كلمة التوحيد ، التي تهدد وضعهم الاجتماعي ، القائم على أوهام الوثنية وتقاليد الجاهلية ، وإلا فقد كان كبراء قريش أذكى من أن يخفى عليهم ما في عقائدهم من تهافت ، وما في الإسلام من تماسك ، وأعرف بالقول من أن يغيب عنهم ما في القرآن من سمو وارتفاع وامتياز . وهم الذين لم يكونوا يملكون أنفسهم من الاستماع إليه والتأثر به ، على شدة ما يمانعون قلوبهم ويدافعونها !
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وجعلنا على قلوبهم أكنة}، يعني: الغطاء على القلوب،
{أن يفقهوه}، لئلا يفقهوا القرآن،
{وفي ءاذانهم وقرا}، يعني: ثقلا لئلا يسمعوا القرآن،
{وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده}، فقلت: لا إله إلا الله،
{ولوا على أدبارهم نفورا}، يعني: أعرضوا عن التوحيد ونفروا عنه كراهية التوحيد...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وجعلنا على قلوب هؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة عند قراءتك عليهم القرآن أكنة وهي جمع كِنان، وذلك ما يتغشّاها من خِذلان الله إياهم عن فهم ما يُتلى عليهم "وفِي آذانِهمْ وَقْرا "يقول: وجعلنا في آذانهم وقرا عن سماعه، وصمما. والوَقر بالفتح في الأذن: الثقل...
وقوله: "وَإذَا ذَكَرْتَ رَبّكَ في القُرْآنِ وَحْدَهُ" يقول: وإذا قلت: لا إله إلا الله في القرآن وأنت تتلوه "وَلّوْا على أدْبارِهِمْ نُفُورا" يقول: انفضوا، فذهبوا عنك نفورا من قولك استكبارا له واستعظاما من أن يوحّد الله تعالى...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وإذا ذكرت ربك في القرآن} يحتمل: وإذا ذكرت وحدانية ربك وألوهيته وربوبيته وإذا ذكرت دلالة رسالتك أو دلالة البعث؛ يحتمل ذكر هذه الأشياء الثلاثة لأنهم كانوا منكرين لهذه الأشياء، فعند ذلك ذكرها...
{ولوا على أدبارهم نفورا} يحتمل الهرب والإعراض، ويحتمل الكناية عن الإنكار والتكذيب...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
معنى قوله "وجعلنا على قلوبهم أكنة "أي حكمنا بأنهم بهذه المنزلة ذما لهم على الامتناع من تفهم الحق، والاستماع إليه، لتأمل معانيه، مع الإعراض عنه عداوة له ونفورا منه... وإنما قال "وجعلنا" ولم يقل وجعلناهم "على قلوبهم أكنة" لأنه أبلغ في الذم مع قيام الدليل من جهة التكليف أنه ليس على جهة المنع...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{أَن يَفْقَهُوهُ} كراهة أن يفقهوه. أو لأنّ قوله {وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} فيه معنى المنع من الفقه، فكأنه قيل: ومنعناهم أن يفقهوه...
والنفور: مصدر بمعنى التولية... أي: يحبون أن تذكر معه آلهتهم لأنهم مشركون، فإذا سمعوا بالتوحيد نفروا.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
الأكنة جمع كنان، وهو ما غطى الشيء، ومنه كنانة النبل، و «الوقر» الثقل في الأذن المانع من السمع، وهذه كلها استعارات للإضلال الذي حفهم الله به، فعبر عن كثرة ذلك وعظمه بأنهم بمثابة من غطى قلبه وصمت أذنه... وقوله {وإذا ذكرت} الآية، يريد إذا جاءت مواضع التوحيد في القرآن أثناء قراءتك فرَّ كفار مكة من سماع ذلك إنكاراً له واستبشاعاً، إذ فيه رفض آلهتهم واطراحها...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{وجعلنا} أي بما لنا من العظمة {على قلوبهم أكنة} أي أغطية، كراهة {أن يفقهوه} أي يفهموا القرآن حق فهمه {وفي ءاذانهم وقراً} أي شيئاً ثقيلاً يمنع سماعهم السماع النافع بالقصور في إدراكهم لا في بيانه، فرؤيتهم للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حال التلاوة غير صحيحة كما أن سمعهم وإدراكهم لما يقرأه كذلك كما قال تعالى
{ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة} [البقرة: 7] {وإذا ذكرت ربك} أي المحسن إليك وإليهم {في القرءان} حال كونه {وحده} مع الإعراض عن آلهتهم {ولوا} وحقق المعنى وصوره بما يزيد في بشاعته تنفيراً عنه فقال: {على أدبارهم نفوراً}...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
روى ابن اسحاق في السيرة عن محمد بن مسلم بن شهاب عن الزهري أنه حدث أن أبا سفيان بن حرب، وأبا جهل بن هشام، والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي حليف بني زهرة خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وهو يصلي بالليل في بيته؛ فأخذ كل واحد منهم مجلسا يستمع فيه، وكل لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، حتى إذا جمعتهم الطريق تلاوموا، فقال بعضهم لبعض: لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا. ثم انصرفوا. حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا وجمعهم الطريق. فقال بعضهم لبعض مثل ما قاله أول مرة. ثم انصرفوا. حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعتهم الطريق؛ فقال بعضهم لبعض: لا نبرح حتى نتعاهد لا نعود. فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا. فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ثم خرج حتى أتي أبا سفيان بن حرب في بيته، فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد. قال: يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها. قال الأخنس: وأنا، والذي حلفت به. قال: ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته؛ فقال: يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال: ماذا سمعت؟ قال: تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف: أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا. حتى إذا تجاثينا على الركب، وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء. فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه! قال فقام عنه الأخنس وتركه.. فهكذا كان القوم تتأثر بالقرآن فطرتهم فيصدونها، وتجاذبهم إليه قلوبهم فيمانعونها، فجعل الله بينهم وبين الرسول حجابا خفيا لا يظهر للعيون ولكن تحسه القلوب، فإذا هم لا ينتفعون به، ولا يهتدون بالقرآن الذي يتلوه. وهكذا كانوا يتناجون بما أصاب قلوبهم من القرآن، ثم يتآمرون على عدم الاستماع إليه؛ ثم يغلبهم التأثر به فيعودون، ثم يتناجون من جديد، حتى ليتعاهدون على عدم العودة ليحجزوا أنفسهم عن هذا القرآن المؤثر الجذاب الذي يخلب القلوب والألباب! ذلك أن عقيدة التوحيد التي يدور عليها هذا القرآن كانت تهددهم في مكانتهم وفي امتيازاتهم وفي كبريائهم فينفرون منها... (وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا).. نفورا من كلمة التوحيد، التي تهدد وضعهم الاجتماعي، القائم على أوهام الوثنية وتقاليد الجاهلية، وإلا فقد كان كبراء قريش أذكى من أن يخفى عليهم ما في عقائدهم من تهافت، وما في الإسلام من تماسك، وأعرف بالقول من أن يغيب عنهم ما في القرآن من سمو وارتفاع وامتياز. وهم الذين لم يكونوا يملكون أنفسهم من الاستماع إليه والتأثر به، على شدة ما يمانعون قلوبهم ويدافعونها!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وفى ءَاذَانِهِمْ وَقْرًا} عطف جعل على جعل. والتصريح بإعادة فعل الجعل يؤذن بأن هذا جعل آخر فيرجّح أن يكون جعل الحجاب المستور جعل الصرفة عن الإضرار، ويكون هذا جعل عدم التدبر في القرآن خلقة في نفوسهم... {وإذا ذكرت ربك في القرءان وحده ولوا على أدبارهم نفورا} لما كان الإخبار عنهم قبل هذا يقتضي أنهم لا يفقهون معاني القرآن تبع ذلك بأنهم يُعرضون عن فهم ما فيه خير لهم، فإذا سمعوا ما يبطل إلهية أصنامهم فهموا ذلك فولوا على أدبارهم نفوراً، أي زادهم ذلك الفهم ضلالاً كما حرمهم عدمُ الفهم هدياً، فحالهم متناقض. فهم لا يسمعون ما يحق أن يسمع، ويسمعون ما يَهْوَوْنَ أن يسمعوه ليزدادوا به كفراً... وتخصيص الذكر بالكون في القرآن لمناسبته الكلام على أحوال المشركين في استماع القرآن، أو لأن القرآن مقصود منه التعليم والدعوة إلى الدين، فخلو آياته عن ذكر آلهتهم مع ذكر اسم الله يفهم منه التعريض بأنها ليست بآلهة فمن ثم يغضبون كلما ورد ذكر الله ولم تذكر آلهتهم، فكونه في القرآن هو القرينة على أنه أراد إنكار آلهتهم... والتولية: الرجوع من حيث أتى...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
و (جعلنا) معناها صيرنا وأنشأنا أكنة تكون غلافا مانعا قلوبهم عن أن تدرك وتصل إلى النور... {وفي آذانهم وقرا}، أي صمما وثقلا فيها يمنعها من أن تستمع إلى القرآن الحق، فالأكنة تمنع أن يفقهوه لأن غلافا وضع بينها وبين النور، فلم تفقه أي لم تدرك وتتدبر في بلاغته، ومعانيه، وقصصه، وعبره، وما فيه من نور الحق فلا تراه، وجعلنا في آذانهم وقرا عن سماع القرآن وتذوق ألفاظه ونغمه، وجمال عباراته ونسق بيانه... {وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم}... يسارعون بالتولي والإعراض نافرين مدبرين، سائرين بظهورهم لا بإقبالهم... وهذا النص يصور شخصا رأى شيئا فهاله ما رأى فولى مدبرا، رجع مدبرا نافرا كأنه رأى شيئا مخيفا، اقشعر له بدنه، وهذا يصور مقدار نفورهم من التوحيد الحق، وإقبالهم على الوثنية الباطلة، فالأوهام التي استكنت في نفوسهم صورت لهم الحق مخوفا مرهوبا، والباطل طيبا حسبوا فيه السلامة وما وراءه إلا الحسرة والندامة وساء ما كانوا يصنعون...
{وجعلنا على قلوبهم أكنة}: لم تأت من الله ابتداءً، بل لما أحبوا هم الكفر، وقالوا عن أنفسهم: قلوبنا في أكنة، فأجابهم الله إلى ما أرادوا وختم على قلوبهم ليزدادوا كفراً، وطالما أنهم يحبونه فلنزدهم منه... {أن يفقهوه} أي: كراهية أن يفقهوه؛ لأن الله تعالى لا يريد منهم أن يفهموا القرآن رغماً عنهم، بل برضاهم وعن طيب خاطر منهم بالإقناع وبالحجة، فالله لا يريد منا قوالب تخضع، بل يريد قلوباً تخشع، وإلا لو أرادنا قوالب لما استطاع أحد منا أن يشذ عن أمره، أو يمنع نفسه من الله تعالى، فالجميع خاضع لأمره وتحت مشيئته... وفي سورة الشعراء يقول الحق تبارك وتعالى: {لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين "3 "إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين "4 "} (سورة الشعراء): فالأعناق هي الخاضعة وليست القلوب؛ لأنك تستطيع أن تقهر قالب خصمك فتجبره على فعل أو قول، لكنك لا تستطيع أبداً أن تجبر قلبه وتكرهه على حبك، إذن: فالله تعالى يريد القلوب، يريدها طائعة محبة مختارة، أما هؤلاء فقد اختاروا الأكنة على قلوبهم، وأحبوها وانشرحت صدورهم بالكفر، فزادهم الله منه...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ} وهذا تأكيدٌ للحجاب، فإن الأكنّة جمع كنٍّ بالكسر وهو ما يحفظ فيه الشيء ويستر به عن غيره، فكأن هناك غشاءً يغطي القلب ويمنعه من الانفتاح على حقائق القرآن ومفاهيمه... {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} أي ثقلاً في السمع، فيتلقونه كما يتلقى الشخص الثقيل السمع الكلمة التي تلقى إليه، فلا يسمعها إلا كما يسمع الصدى الذي لا يُفهم منه شيء لعدم تميز الملامح التفصيلية للكلمة فيه. وهكذا نجد القرآن ثقيلاً على أسماعهم، فلا ينفتحون عليه انفتاح وعي لمفاهيمه، لأن السمع لا يحقّق أية نتيجة للمعرفة إلا إذا انفتح العقل عليه... {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً} لأنهم لا يطيقون كلمة التوحيد التي تلاحق أفكارهم بالحقيقة الواضحة التي تفرض نفسها على الفكر والشعور، فتكشف لهم زيف الواقع العقيدي والعبادي الذي يتحركون فيه، فينفرون منها كما ينفر الإنسان من الأشياء التي تضغط على مزاجه، أو تطارد أفكاره. وهذا هو حال كل شخص يخاف من الحقيقة التي لا يريد الاعتراف بها، فيعمل على الهروب منها، ليوحي لنفسه أو للآخرين بأنه لم يواجهها، ليكون ذلك عذراً له في الإنكار والرفض...
أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير للجزائري 1439 هـ :
والوقر في الآذان عقوبة من الله تعالى لهم حرمهم بها من الهداية بالقرآن لسابقة الشر لهم وما ظلمهم الله ولكن كانوا هم الظالمين ببغضهم للرسول وما جاء به وحربهم له ولما جاء به من التوحيد والدين الحق...