مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَجَعَلۡنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ أَكِنَّةً أَن يَفۡقَهُوهُ وَفِيٓ ءَاذَانِهِمۡ وَقۡرٗاۚ وَإِذَا ذَكَرۡتَ رَبَّكَ فِي ٱلۡقُرۡءَانِ وَحۡدَهُۥ وَلَّوۡاْ عَلَىٰٓ أَدۡبَٰرِهِمۡ نُفُورٗا} (46)

ثم قال تعالى : { وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا } وهذه الآية مذكورة بعينها في سورة الأنعام وذكرنا استدلال أصحابنا بها وذكرنا سؤالات المعتزلة ولا بأس بإعادة بعضها ، قال الأصحاب : دلت هذه الآية على أنه تعالى جعل قلوبهم في الأكنة . والأكنة جمع كنان وهو ما ستر الشيء مثل كنان النبل وقوله : { أن يفقهوه } أي لئلا يفقهوه . وجعل في آذانهم وقرا . ومعلوم أنهم كانوا عقلاء سامعين فاهمين ، فعلمنا أن المراد منعهم عن الإيمان ومنعهم عن سماع القرآن بحيث لا يقفون على أسراره ولا يفهمون دقائقه وحقائقه . قالت المعتزلة : ليس المراد من الآية ما ذكرتم بل المراد منه وجوه أخرى . الأول : قال الجبائي : كانوا يطلبون موضعه في الليالي لينتهوا إليه ويؤذونه ، ويستدلون على مبيته باستماع قراءته فأمنه الله تعالى من شرهم ، وذكر له أنه جعل بينه وبينهم حجابا لا يمكنهم الوصول إليه معه ، وبين أنه جعل في قلوبهم ما يشغلهم عن فهم القرآن وفي آذانهم ما يمنع من سماع صوته ، ويجوز أن يكون ذلك مرضا شاغلا يمنعهم من المصير إليه والتفرغ له ، لا أنه حصل هناك كن للقلب ووقر في الأذن . الثاني : قال الكعبي : إن القوم لشدة امتناعهم عن قبول دلائل محمد صلى الله عليه وسلم صاروا كأنه حصل بينهم وبين تلك الدلائل حجاب مانع وساتر ، وإنما نسب الله تعالى ذلك الحجاب إلى نفسه لأنه لما خلاهم مع أنفسهم ، وما منعهم عن ذلك الإعراض صارت تلك التخلية كأنها هي السبب لوقوعهم في تلك الحالة ، وهذا مثل أن السيد إذا لم يراقب أحوال عبده فإذا ساءت سيرته فالسيد يقول : أنا الذي ألقيتك في هذه الحالة بسبب أني خليتك مع رأيك وما راقبت أحوالك . الثالث : قال القفال : إنه تعالى لما خذلهم بمعنى أنه لم يفعل الألطاف الداعية لهم إلى الإيمان صح أن يقال : إنه فعل الحجاب السائر .

واعلم أن هذه الوجوه مع كلمات أخرى ذكرناها في سورة الأنعام وأجبنا عنها ، فلا فائدة في الإعادة .

ثم قال تعالى : { وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا } واعلم أن المراد أن القوم كانوا عند استماع القرآن على حالتين ، لأنهم إذا سمعوا من القرآن ما ليس فيه ذكر الله تعالى بقوا مبهوتين متحيرين لا يفهمون منه شيئا ، وإذا سمعوا آية فيها ذكر الله تعالى وذم الشرك بالله ولوا نفورا وتركوا ذلك المجلس ، وذكر الزجاج في قوله : { ولوا على أدبارهم نفورا } وجهين : الأول : المصدر والمعنى ولوا نافرين نفورا ، والثاني : أن يكون نفورا جمع نافر مثل شهود وشاهد وركوع وراكع وسجود وساجد وقعود وقاعد .