السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَجَعَلۡنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ أَكِنَّةً أَن يَفۡقَهُوهُ وَفِيٓ ءَاذَانِهِمۡ وَقۡرٗاۚ وَإِذَا ذَكَرۡتَ رَبَّكَ فِي ٱلۡقُرۡءَانِ وَحۡدَهُۥ وَلَّوۡاْ عَلَىٰٓ أَدۡبَٰرِهِمۡ نُفُورٗا} (46)

{ وجعلنا } أي : بما لنا من العظمة { على قلوبهم أكنة } أي : أغطية كراهية { أن يفقهوه } أي : يفهموه أي : يفهموا القرآن حق فهمه { وفي آذانهم وقراً } أي : شيئاً ثقيلاً يمنع سماعهم ، وعن أسماء كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً ومعه أبو بكر إذ أقبلت امرأة أبي لهب ومعها فهر تريد الرسول صلى الله عليه وسلم وهي تقول : مذمما أبينا ودينه قلينا وأمره عصينا . فقال أبو بكر : يا رسول الله معها فهر أخشاها عليك ، فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية فجاءت وما رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت : إني رأيت قريشاً قد علمت أني ابنة سيدها وإنّ صاحبك هجاني فقال أبو بكر : لا ورب الكعبة ورب هذا البيت ما هجاك . وروى ابن عباس أنّ أبا سفيان والنضر بن الحارث وأبا جهل وغيرهم كانوا يجالسون النبيّ صلى الله عليه وسلم ويسمعون حديثه فقال النضر يوماً : ما أرى ما يقول محمد غير أني أرى شفتيه يتحرّكان بشيء . وقال أبو سفيان : إني لا أرى بعض ما يقوله إلا حقاً . وقال أبو جهل : هو مجنون . وقال أبو لهب : هو كاهن . وقال حويطب بن عبد العزى : هو شاعر ، فنزلت هذه الآية . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد تلاوة القرآن قرأ قبلها ثلاث آيات وهي في سورة الإسراء : { وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً } [ الإسراء ، 46 ] . وفي سورة النحل { أولئك الذين طبع الله على قلوبهم } [ النحل ، 108 ] وفي حم الجاثية { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه } [ الجاثية ، 23 ] إلى آخر الآية ، فكان الله تعالى يحجبه ببركة هذه الآيات عن عيون المشركين .

{ وإذا ذكرت ربك } أي : المحسن إليك وإليهم { في القرآن وحده } أي : مع الإعراض عن آلهتهم كأن قلت وأنت تتلو القرآن لا إله إلا الله .

تنبيه : في نصب وحده وجهان أحدهما أنه منصوب على الحال وإن كان معرفة لفظاً في قوّة النكرة إذ هو في معنى منفرداً . والثاني : أنه منصوب على الظرف . { ولّوا على أدبارهم نفوراً } أي : هرباً من استماع التوحيد . تنبيه : في نفوراً وجهان أحدهما مصدر من غير اللفظ مؤكد لأنّ التولي والنفور بمعنى والثاني أنه حال من فاعل ولوا وهو حينئذٍ جمع نافر كقاعد وقعود وشاهد وشهود والضمير في ولوا يعود إلى الكفار وقيل يعود إلى الشيطان وإن لم يجر لهم ذكر . قال المفسرون : إنّ القوم كانوا عند استماع القرآن على أقسام منهم من كان يلهو عند استماعه . روي أنه عليه الصلاة والسلام كان كلما قرأ القرآن قام عن يمينه ويساره إخوان من ولد قصيّ يصفقون ويصفرون ويخلطون عليه بالأشعار ، ومنهم من كان إذا سمع من القرآن ما فيه ذكر الله تعالى بقوا مبهوتين لا يفهمون منه شيئاً ومنهم من إذا سمع آيات فيها ذكر الله تعالى وذم المشركين ولوا نفوراً وتركوا ذلك المجلس .