البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغۡنِيَ عَنۡهُمۡ أَمۡوَٰلُهُمۡ وَلَآ أَوۡلَٰدُهُم مِّنَ ٱللَّهِ شَيۡـٔٗاۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمۡ وَقُودُ ٱلنَّارِ} (10)

الإغناء : الدفع والنفع ، وفلان عظيم الغنى ، أي : الدفع والنفع . { إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً } قيل : المراد وفد نجران لأنه روي أن أبا حارثة بن علقمة قال لأخيه : إني أعلم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكني إن أظهرت ذلك أخذ ملوك الرّوم مني ما أعطوني من المال .

وقيل : الإشارة إلى معاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم .

قال ابن عباس : قريظة ، والنضير .

وكانوا يفخرون بأموالهم وأبنائهم ، وهي عامّة تتناول كل كافر .

ومعنى : من الله ، أي : من عذابه الدنيوي والأخروي ، ومعنى : أغنى عنه ، دفع عنه ومنعه ، ولما كان المال في باب المدافعة والتقرب والفتنة أبلغ من الأولاد ، قدم في هذه الآية ، وفي قوله : { وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى } وفي قوله : { إنما أموالكم وأولادكم فتنة } وفي قوله : { وتكاثر في الأموال والأولاد } وفي قوله : { لا ينفع مال ولا بنون } بخلاف قوله تعالى : { زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة } إلى آخرها ، فإنه ذكر هنا حب الشهوات ، فقدّم فيه النساء والبنين على ذكر الأموال .

وسيأتى الكلام على ذلك إن شاء الله .

وقرأ أبو عبد الرحمن : لن يغني ، بالياء على تذكير العلامة .

وقرأ علي : لن يغني ، بسكون الياء .

وقرأ الحسن : لن يغني بالياء أولاً وبالياء الساكنة آخراً ، وذلك لاستثقال الحركة في حرف اللين ، وإجراء المنصوب مجرى المرفوع .

وبعض النحويين يخص هذا بالضرورة ، وينبغي أن لا يخص بها ، إذ كثر ذلك في كلامهم .

و : من ، لابتداء الغاية عند المبرد ، وبمعنى : عند ، قاله أبو عبيدة ، وجعله كقوله تعالى : { أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف } قال : معناه عند جوع وعند خوف ، وكون : من ، بمعنى : عند ، ضعيف جداً .

وقال الزمشخري : قوله : من الله ، مثله في قوله : { إن الظنّ لا يغني من الحق شيئاً } والمعنى : لن تغني عنهم من رحمة الله ، أو من طاعة الله شيئاً ، أي : بدل رحمته وطاعته ، وبدل الحق .

ومنه : ولا ينفع ذا الجدّ منك الجد أي : لا ينفعه جدّه وحظه من الدنيا بذلك ، أي : بدل طاعتك وعبادتك .

وما عندك .

وفي معناه قوله تعالى : { وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقرّبكم عندنا زلفى } انتهى كلامه .

وإثبات البدلية : لمن ، فيه خلاف أصحابنا ينكرونه ، وغيرهم قد أثبته ، وزعم أنها تأتي بمعنى البدل .

واستدل بقوله تعالى : { أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة } { لجعلنا منكم ملائكة } أي : بدل الآخرة وبدلكم .

وقال الشاعر :

أخذوا المخاض من الفصيل غلبة *** ظلماً ويكتب للأمير إفيلا

أي بدل الفصيل ، وشيئاً ينتصب على أنه مصدر ، كما تقول ضربت شيئاً من الضرب ، ويحتمل أن ينتصب على المفعول به ، لأن معنى : لن تغني ، لن تدفع أو تمنع ، فعلى هذا يجوز أن يكون : من ، في موضع الحال من شيئاً ، لأنه لو تأخر لكان في موضع النعت لها ، فلما تقدّم انتصب على الحال .

وتكون : من إذ ذاك للتبعيض .

فتلخص في : من ، أربعة أقوال : ابتداء الغاية ، وهو قول المبرد ، والكلبي .

و : كونها بمعنى : عند ، وهو قول أبي عبيدة .

و : البدلية ، وهو قول الزمخشري ، و : التبعيض ، وهو الذي قررناه .

{ وأولئك هم وقود النار } لما قدم : إن الذين كفروا لن تغني عنهم كثرة أموالهم ، ولا تناصر أولادهم ، أخبر بمآلهم .

وأن غاية من كفر ، ومنتهى من كذب بآيات الله النار ، فاحتملت هذه الجملة أن تكون معطوفة على خبر : إن ، واحتمل أن تكونه مستأنفة عطفت على الجملة الأولى ، وأشار : بأولئك ، إلى بعدهم .

وأتى بلفظ : هم ، المشعرة بالاختصاص ، وجعلهم نفس الوقود مبالغة في الاحتراق ، كأن النار ليس لها ما يضرمها إلا هم ، وتقدّم الكلام في الوقود في قوله : { وقودها الناس والحجارة }

وقرأ الحسن ، ومجاهد ، وغيرهما : وقود ، بضم الواو ، وهو مصدر : وقدت النار تقد وقوداً ، ويكون على حذف مضاف ، أي : أهل وقود النار ، أو : حطب وقود ، أو جعلهم نفس الوقود مبالغة ، كما تقول : زيد رضا .

وقد قيل في المصدر أيضاً : وقود ، بفتح الواو ، وهو من المصادر التي جاءت على فعول بفتح الواو ، وتقدّم ذكر ذلك ، و : هم ، يحتمل أن يكون مبتدأ ، ويحتمل أن يكون فصلاً .

/خ11