الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغۡنِيَ عَنۡهُمۡ أَمۡوَٰلُهُمۡ وَلَآ أَوۡلَٰدُهُم مِّنَ ٱللَّهِ شَيۡـٔٗاۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمۡ وَقُودُ ٱلنَّارِ} (10)

قوله تعالى : { لَن تُغْنِيَ } : العامَّةُ على " تُغْني " بالتاء من فوق مراعاةً لتأنيث الجمع . وقرأ الحسن وأبو عبد الرحمن بالياء مِنْ تحتِ بالتذكيرِ على الأصل ، وسَكَّن الحسن ياء " تُغْني " استثقالاً للحركةِ على حرفِ العلة . وذهاباً به مذهبَ الألف ، وبعضُهم يَخُصُّ هذا بالضرورةِ .

قوله : { مِّنَ اللَّهِ } في " من " هذه أربعة أوجه : أحدها : أنها لابتداءِ الغاية مجازاً أي : مِنْ عذاب الله وجزائه . الثاني : أنها بمعنى عند ، قال أبو عبيدة : هي بمعنى عند كقوله : { أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ }

[ قريش : 4 ] أي : عندَ جوع وعند خوف ، وهذا ضعيفٌ عند/ النحويين .

الثالث : أنها بمعنى بدل . قال الزمخشري : " قوله " من الله مثلُ قوله :

{ إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً } [ يونس : 36 ] ، والمعنى : لن تغني عنهم من رحمة الله أو من طاعته شيئاً أي : بدلَ رحمتِه وطاعته وبدلَ الحق ، ومنه " ولا يَنْفع ذا الجَدِّ منك الجَدُّ " أي : لا ينفعَهُ جَدُّه وحَظُّه من الدنيا بدلك ، أي : بدلَ طاعتِك وما عندَك ، وفي معناه قولُه تعالى : { وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى } [ سبأ : 37 ] ، وهذا الذي ذَكَره من كونِها بمعنى " بدل " جمهورُ النحاة يَأْباه ، فإنَّ عامَّة ما أورده مجيزُ ذلك بتأولُه الجمهور ، فمنه قولُه :

جاريةٌ لم تأْكِلِ المُرَقَّقا *** ولم تَذُقْ من البقولِ الفُسْتقا

وقول الآخر :

أخذوا المَخَاضَ من الفصيلِ غُلُبَّةً *** ظُلْماً ويُكتبُ للأميرِ أَفِيلا

وقال تعالى : { وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً } [ الزخرف : 60 ]

{ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ } [ التوبة : 38 ] .

الرابع : أنها تبعيضيةٌ ، ألاَّ أنَّ هذا الوجهَ لَمَّا أجازه الشيخ جعله مبنياً على إعرابِ " شيئاً " مفعولاً به ، بمعنى : لا يَدْفع ولا يمنع . قالَ : فعلى هذا يجوزُ أن تكونَ " مِنْ " في موضع الحال من شيئاً ، لأنه لو تأخَّر لكان في موضع النعتِ له ، فلمَّا تقدَّم انتصب على الحال ، وتكن " مِنْ " إذ ذاك للتعبيض . وهذا ينبغي ألاَّ يجوزَ البتة ، لأنَّ " مِنْ " التبعيضيَّةَ تُؤوَّلُ بلفظ " بعض " مضافةً لِما جَرَّته مِنْ ، ألا ترى أنك إذا قلت : " رأيت رجلاً من بني تميم " معناه بعضَ بني تميم ، و " أخذت من الدارهم " : بعضَ الدراهم ، وهنا لا يُتَصَوَّرُ ذلك أصلاً ، وإنما يَصِحُّ جَعْلُه صفةً لشيئاً إذا جعلنا " مِنْ " لابتداء الغايةى كقولك : " عندي درهم من زيد " أي : كائن أو مستقر من زيد ، ويمتنع فيها التبعيضُ ، والحالُ كالصفةِ في المعنى ، فامتنعَ أن تكونَ " مِنْ " للتعبيض مع جَعْلِه " من الله " حالاً من " شيئاً " ، والشيخُ تَبعَ في ذلك أبا البقاء ، إلاَّ أنَّ أبا البقاء حين قال ذلك قَدَّرَ مضافاً صَحَّ به قَولُه ، والتقدير : شيئاً من عذاب الله ، فكان ينبغي أن يَتْبَعَه [ في هذا الوجه مُصَرِّحاً بما يَدْفَعُ ] هذا الردَّ الذي ذكرتُه .

و " شيئاً " : إمَّا منصوبٌ على المفعولِ به ، وقد تقدَّم تأويله ، وإمَّا على المصدرية أي : شيئاً من الإِغناء . قوله : { وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ } هذه الجملةُ تحتمل وجهين ، أحدُهما : أن تكونَ مستأنفةً . والثاني : أن تكونَ منسوقةً على خبر إنَّ ، و " هم " يحتملُ الابتداءَ والفصلَ . وقرأ العامة : " وَقود " بفتح الواو ، والحسن بضمِّها ، وقد تقدم تحقيق ذلك في البقرة ، وأنَّ المصدريةَ مُحْتَمَلةٌ في المفتوحِ الواوِ أيضاً ، وحيث كان مصدراً فلا بد من تأويلِه فلا حاجةً إلى إعادتِه هنا .