اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغۡنِيَ عَنۡهُمۡ أَمۡوَٰلُهُمۡ وَلَآ أَوۡلَٰدُهُم مِّنَ ٱللَّهِ شَيۡـٔٗاۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمۡ وَقُودُ ٱلنَّارِ} (10)

لما حكى دعاءَ المؤمنين وتضرُّعَهم حكى كيفيةَ حال الكافرين ، وشدة عقابهم ، وفيهم قولان :

أحدهما : أن المراد بهم وفد نجران ؛ لأنا روينا في قصتهم أن أبا حارثة بن علقمة قال لأخيه إني أعلم أنه رسولُ اللهِ حقاً ، ولكني إن أظهرتُ ذلك أخذ ملوكُ الرومِ مني ما أعطَوْنِي من المال ، فبيَّن الله تعالى أن أموالهم لا تدفع عنهم عذابَ الله .

الثاني : أن اللفظ عام ، وخصوصُ السبب لا يمنع عمومَ اللفظ .

قوله : { لَن تُغْنِيَ } العامة{[5126]} على " تُغْنِي " بالتاء من فوق ؛ مراعاةً لتأنيث الجميع ، وقرأ الحسنُ وأبو عبد الرحمن{[5127]} بالياء من تحت - بالتذكير - على الأصل ، وسكن الحسن ياءَ " تُغْنِي " ؛ استثقالاً للحركةِ على حرف العلة ، وذهاباً به مَذْهَبَ الألف ، وَبَعضهم يخص هذا بالضرورةِ .

قوله : { مِّنَ اللَّهِ } في " مِن " هذه أربعة أوجه :

أحدها : أنها لابتداء الغايةِ - مجازاً - أي : من عذاب الله وجزائه .

الثاني : أنها بمعنى " عند " قاله أبو عبيدة ، وجعله كقوله تعالى : { أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ } [ قريش : 4 ] ، أي : عند جوع ، وعند خوف ، وهذا ضعيف عند النحويين .

الثالث : أنها بمعنى بدل .

قال الزمخشري : قوله : { مِّنَ اللَّهِ } مثل قوله : { إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً } [ يونس : 36 ] ، والمعنى : لن تغني عنهم من رحمة الله ، أو من طاعته شيئاً ، أي : بدل رحمته وطاعته ، وبدل الحق ومنه [ قوله ] {[5128]} : " ولا ينفع ذا الجد منك الجد{[5129]} " ، أي : لا ينفعه جده وحظه من الدنيا بدلاً ، أي : بدل طاعتك وما عندك ، وفي معناه قوله تعالى : { وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى } [ سبأ : 37 ] ، وهذا الذي ذكره من كونها بمعنى بدل جمهور النحاة يَأبَاه ؛ فإن عامة ما أوْرَدَهُ يتأوَّله الجمهورُ .

ومنه قوله : [ الرجز ]

جاريةٌ لَمْ تَأكُلِ الْمُرَقَّقَا *** وَلَمْ تَذُقْ مِنَ الْبُقُولِ الْفُسْتُقَا{[5130]}

وقول الآخر : [ الكامل ]

أخَذُوا الْمَخَاضَ مِنَ الْفصيلِ غُلُبَّةً *** ظُلْماً ، وَيَكْتُبُ للأميرِ أفِيلا{[5131]}

وقوله تعالى : { لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً } [ الزخرف : 60 ] ، وقوله : { أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ } [ التوبة : 38 ] ؟

الرابع : أنها تبعيضية ، إلا أن هذا الوجه لما أجازه أبو حيّان مبنياً على إعراب " شَيْئاً " مفعولاً به ، بمعنى : لا تدفع ، ولا تمنع ، قال : فعلى هذا يجوز أن يكون " من " في موضع الحال من " شَيْئاً " ؛ لأنه لو تأخر لكان في موضع النعتِ له ، فلما تقدم انتصب على الحال ، وتكون " من " إذ ذاك - للتبعيض .

قال شهاب الدينِ{[5132]} : " وهذا ينبغي أن لا يجوز ألبتة ؛ لأن " منَ " التبعيضية تؤوَّلُ بلفظ بعض مضافةً لما جرَّتْه " مِنْ " ألا ترى أنك إذا قلتَ : رأيت رجلاً من بني تميم ، معناه : بعض بني تميم ، وأخذت من الدراهم : أي : بعضَ الدراهم ، وهنا لا يُتَصَوَّرُ ذلك أصْلاً ، وإنما يصح جعله صفة لِ " شَيْئاً " إذا جعلنا " مِنْ " لابتداء الغاية ، كقولك : عندي درهم من زيد ، أي : كائن أو مستقر من زيد ، ويمتنع فيها التبعيض ، والحال كالصفة في المعنى ، فامتنع أن تكون من للتبعيض مع جعله " مِنَ اللهِ " حالاً من " شَيْئاً " ، وأبو حيّان تبع أبا البقاءِ في ذلك ، إلا أن أبا البقاء حين قال ذلك - قَدَّر مضافاً وضَّح به قوله ، والتقدير : شيئاً من عذاب الله ، فكان ينبغي أن يتبعه - في هذا الوجهِ - مُصَرِّحاً بما يدفع هذا الذي ذكرته " . و " شَيْئاً " إما منصوب على المفعول به وقد تقدم تأويله وإما على المصدرية ، أي : شَيْئاً من الإغناء .

قوله : { وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ } هذه الجملة تحتمل وجهَيْن :

أحدهما : أن تكون مستأنفةً .

والثاني : أن تكون منسوقة على خبر " إنَّ " و " هم " تحتمل الابتداء والفصل .

وقرأ العامة " وَقُودُ " بفتح الواو ، والحَسن بِضَمِّها{[5133]} وتقدم تحقيقُ ذلك في البقرة ، وأن المصدرية محتملة في المفتوح الواو أيضاً ، وحيث كان مصدراً فلا بد من تأويله ، فلا حاجة إلى إعادته .

فصل

اعلم أن كمال العذاب هو أن يزول عنهم كل ما يُنْتَفَعُ به ، ثم تجتمع عليه الأسبابُ المؤلمة .

الأول هو المراد بقوله : { لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم } ؛ فإن المرء - عند الخطوب - يفزع إلى المال والولد ؛ لأنهما أقربُ الأمور التي يُفْزَع إليها في دَفْع النوائب ، فبيَّن تعالى أن صفة ذلك اليوم مخالِفَةٌ لصفةِ الدنيا ، وإذا تعذَّر عليه الانتفاع في ذلك اليوم بالمالِ والولدِ - وهما أقرب الطرق - فما عداه بالتعذُّر أوْلَى ، ونظيره : { يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [ الشعراء : 88 ، 89 ] .

وأما الثاني من أسباب كمال العذاب - وهو اجتماع الأسباب المُؤْلمةِ - فهو المراد بقوله : { وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ } وهذا هو النهايةُ في العذابِ ؛ فإنه لا عذابَ أعظم من أن تشتَعِل النارُ فيهم كاشتعالها في الحطب اليابِسِ .


[5126]:انظر: البحر المحيط 2/405، والدر المصون 2/2/19.
[5127]:وقرأ بها علي. انظر: الكشاف 1/339، والبحر المحيط 2/405، والدر المصون 2/19.
[5128]:سقط في أ.
[5129]:أخرجه البخاري 2/378 كتاب الأذان، باب الذكر بعد الصلاة (844) من حديث المغيرة بن شعبة ومسلم في الصلاة، باب ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع (206 -478) من حديث ابن عباس (2/431،432 شرح النووي).
[5130]:البيت لأبي نخيلة يعمر ينظر المخصص 11/139 والجني الداني (316) والمغني 1/320 والعمدة 2/241 واللسان (بقل) وابن عقيل ص 99 والمزهر 2/503 وشرح شواهد ابن عقيل ص 146 والدر المصون 2/20.
[5131]:البيت للراعي النميري ينظر ديوانه ص 242، وتذكرة النحاة ص 311، وشرح شواهد الإيضاح ص 607، وشرح شواهد المغني 2/736، وجواهر الأدب ص 272، وشرح الأشموني 2/277، وشرح المفصل 6/44، ومغني اللبيب 1/320، والدر المصون 2/20.
[5132]:ينظر: الدر المصون 2/20.
[5133]:وقرأ بها مجاهد وجماعة. انظر: المحرر الوجيز 1/405، والبحر المحيط 2/45، والدر المصون 2/21.