20 - ويقول الذين آمنوا : هلا نزلت سورة تدعونا إلى القتال ؟ فإذا نزلت سورة لا تحتمل غير وجوبه ، وذكر فيها القتال مأموراً به رأيت الذين في قلوبهم نفاق ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت خوفاً منه وكراهية له ، فأحق بهم طاعة لله وقول يقره الشرع ، فإذا جد الأمر ولزمهم القتال ، فلو صدقوا الله في الإيمان والطاعة لكان خيراً لهم من النفاق ، فهل يتوقع منكم - أيها المنافقون - إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا صلاتكم بأقاربكم ؟
ثم ندبهم تعالى إلى ما هو الأليق بحالهم ، فقال : { فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ } أي : فأولى لهم أن يمتثلوا الأمر الحاضر المحتم عليهم ، ويجمعوا عليه هممهم ، ولا يطلبوا أن يشرع لهم ما هو شاق عليهم ، وليفرحوا بعافية الله تعالى وعفوه .
{ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ } أي : جاءهم الأمر جد ، وأمر محتم ، ففي هذه الحال لو صدقوا الله بالاستعانة به ، وبذل الجهد في امتثاله { لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ } من حالهم الأولى ، وذلك من وجوه :
منها : أن العبد ناقص من كل وجه ، لا قدرة له إلا إن أعانه الله ، فلا يطلب زيادة على ما هو قائم بصدده .
ومنها : أنه إذا تعلقت نفسه بالمستقبل ، ضعف عن العمل ، بوظيفة وقته ، وبوظيفة المستقبل ، أما الحال ، فلأن الهمة انتقلت عنه إلى غيره ، والعمل تبع للهمة ، وأما المستقبل ، فإنه لا يجيء حتى تفتر الهمة عن نشاطها فلا يعان عليه .
ومنها : أن العبد المؤمل للآمال المستقبلة ، مع كسله عن عمل الوقت الحاضر ، شبيه بالمتألي الذي يجزم بقدرته ، على ما يستقبل من أموره ، فأحرى به أن يخذل ولا يقوم بما هم به ووطن نفسه{[788]} عليه ، فالذي ينبغي أن يجمع العبد همه وفكرته ونشاطه على وقته الحاضر ، ويؤدي وظيفته بحسب قدرته ، ثم كلما جاء وقت استقبله بنشاط وهمة عالية مجتمعة غير متفرقة ، مستعينا بربه في ذلك ، فهذا حري بالتوفيق والتسديد في جميع أموره .
أولى لهم ( طاعة وقول معروف ) . . طاعة تستسلم لأمر الله عن طمأنينة ، وتنهض بأمره عن ثقة . وقول معروف يشي بنظافة الحس واستقامة القلب ، وطهارة الضمير . وأولى لهم إذا عزم الأمر ، وجد الجد ، وواجهوا الجهاد أن يصدقوا الله . يصدقوه عزيمة ، ويصدقوه شعورا . فيربط على قلوبهم ، ويشد من عزائمهم ، ويثبت أقدامهم ، وييسر المشقة عليهم ، ويهون الخطر الذي يتمثلونه غولا تفغر فاها لتلتهمهم ! ويكتب لهم إحدى الحسنيين : النجاة والنصر ، أو الاستشهاد والجنة . . هذا هو الأولى . وهذا هو الزاد الذي يقدمه الإيمان فيقوي العزائم ويشد القوائم ، ويذهب بالفزع ، ويحل محله الثبات والاطمئنان .
وقوله : طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن قيل هؤلاء المنافقين من قبل أن تنزل سورة محكمة ، ويذكر فيها القتال ، وأنهم إذا قيل لهم : إن الله مفترض عليكم الجهاد ، قالوا : سمع وطاعة ، فقال الله عزّ وجلّ لهم إذَا أنْزلَتْ سُورَةٌ وفُرض القتال فيها عليهم ، فشقّ ذلك عليهم ، وكرهوه طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ قبل وجوب الفرض عليكم ، فإذا عزم الأمر كرهتموه وشقّ عليكم .
وقوله : طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ مرفوع بمضمر ، وهو قولكم قبل نزول فرض القتال طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ .
ورُوي عن ابن عباس بإسناد غيرِ مرتضى أنه قال : قال الله تعالى : فَأَوْلَى لَهُمْ ثم قال للذين آمنوا منهم طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فعلى هذا القول تمام الوعيد فأولى ، ثم يستأنف بعد ، فيقال لهم طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فتكون الطاعة مرفوعة بقوله : لهم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ قال : أمر الله بذلك المنافقين .
وقوله : فإذَا عَزَمَ الأمْرُ يقول : فإذا وجب القتال وجاء أمر الله بفرض ذلك كرهتموه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد فإذَا عَزَمَ الأمْرُ قال : إذا جدّ الأمر ، هكذا .
قال : محمد بن عمرو في حديثه ، عن أبي عاصم ، وقال الحارث في حديثه ، عن الحسن يقول : جدّ الأمر .
وقوله : فَلَوْ صَدَقُوا اللّهَ لَكانَ خَيْرا لَهُمْ يقول تعالى ذكره : فلو صدقوا الله ما وعدوه قبل نزول السورة بالقتال بقولهم : إذ قيل لهم : إن الله سيأمركم بالقتال طاعة ، فَوَفّوا له بذلك ، لكان خيرا لهم في عاجل دنياهم ، وآجل معادهم . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة فإذَا عَزَمَ الأمْرُ يقول : طواعية الله ورسوله ، وقول معروف عند حقائق الأمور خير لهم .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة يقول : طاعة الله وقول بالمعروف عند حقائق الأمور خير لهم .
ثم اختلفت هذه الفرقة في معنى قوله : { طاعة وقول معروف } فقال بعضها ، التقدير : { طاعة وقول معروف } أمثل ، وهذا هو تأويل مجاهد ومذهب الخليل وسيبويه ، وحسن الابتداء بالنكرة لأنها مخصصة ، ففيها بعض التعريف . وقال بعضها التقدير : الأمر { طاعة وقول معروف } ، أي الأمر المرضي لله تعالى . وقال بعضها التقدير قولهم لك يا محمد على جهة الهزء والخديعة { طاعة وقول معروف } فإذا عزم الأمر كرهوه ، ونحو هذا من التقدير قاله قتادة . وقال أيضاً ما معناه : إن تمام الكلام الذي معناه الزجر والتوعد ب «أولى » . وقوله { لهم } ابتداء كلام ، ف { طاعة } على هذا القول : ابتداء ، وخبره : { لهم } والمعنى أن ذلك منهم على جهة الخديعة ، فإذا عزم الأمر ناقضوا وتعاصوا .
وقوله : { عزم الأمر } استعارة كما قال :
*قد جدت الحرب بكم فجدوا{[10370]} *
ومن هذا الباب : نام ليلك ونحوه{[10371]} .
وقوله : { صدقوا الله } يحتمل أن يكون من الصدق الذي هو ضد الكذب ، ويحتمل أن يكون من قولك : " عود صدق " {[10372]} ، والمعنى متقارب .