48- وأنزلنا إليك - أيها النبي - الكتاب الكامل ، وهو القرآن ، ملازماً الحقّ في كل أحكامه وأنبائه ، موافقاً ومصدِّقاً لما سبقه من كتبنا ، وشاهداً عليها بالصحة ، ورقيباً عليها بسبب حفظه من التغيير . فاحكم بين أهل الكتاب إذا تحاكموا إليك بما أنزل الله عليك ، ولا تتبع في حكمك شهواتهم ورغباتهم ، فتنحرف عما جاءك منا من حق . لكل أمة منكم - أيها الناس - جعلنا منهاجاً لبيان الحق ، وطريقاً واضحاً في الدين يمشي عليه ، ولو شاء الله لجعلكم جماعة متفقة ذات مشارب واحدة ، لا تختلف مناهج إرشادها في جميع العصور ، ولكنه جعلكم هكذا ليختبركم فيما آتاكم من الشرائع ، ليتبين المطيع والعاصي . فانتهزوا الفرص ، وسارعوا إلى عمل الخيرات ، فإن رجوعكم جميعاً سيكون إلى الله - وحده - فيخبركم بحقيقة ما كنتم تختلفون فيه ، ويجازى كلا منكم بعمله .
{ 48 - 50 } { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ }
يقول تعالى : { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ ْ } الذي هو القرآن العظيم ، أفضل الكتب وأجلها .
{ بِالْحَقِّ ْ } أي : إنزالا بالحق ، ومشتملا على الحق في أخباره وأوامره ونواهيه . { مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ ْ } لأنه شهد لها ووافقها ، وطابقت أخباره أخبارها ، وشرائعه الكبار شرائعها ، وأخبرت به ، فصار وجوده مصداقا لخبرها .
{ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ْ } أي : مشتملا على ما اشتملت عليه الكتب السابقة ، وزيادة في المطالب الإلهية والأخلاق النفسية . فهو الكتاب الذي تتبع كل حق جاءت به الكتب فأمر به ، وحث عليه ، وأكثر من الطرق الموصلة إليه .
وهو الكتاب الذي فيه نبأ السابقين واللاحقين ، وهو الكتاب الذي فيه الحكم والحكمة ، والأحكام الذي عرضت عليه الكتب السابقة ، فما شهد له بالصدق فهو المقبول ، وما شهد له بالرد فهو مردود ، قد دخله التحريف والتبديل ، وإلا فلو كان من عند الله ، لم يخالفه .
{ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ْ } من الحكم الشرعي الذي أنزله الله عليك . { وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ْ } أي : لا تجعل اتباع أهوائهم الفاسدة المعارضة للحق بدلا عما جاءك من الحق فتستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير .
{ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ ْ } أيها الأمم جعلنا { شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ْ } أي : سبيلا وسنة ، وهذه الشرائع التي تختلف باختلاف الأمم ، هي التي تتغير بحسب تغير الأزمنة والأحوال ، وكلها ترجع إلى العدل في وقت شرعتها ، وأما الأصول الكبار التي هي مصلحة وحكمة في كل زمان ، فإنها لا تختلف ، فتشرع في جميع الشرائع . { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ْ } تبعا لشريعة واحدة ، لا يختلف متأخرها و[ لا ] متقدمها .
{ وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ْ } فيختبركم وينظر كيف تعملون ، ويبتلي كل أمة بحسب ما تقتضيه حكمته ، ويؤتي كل أحد ما يليق به ، وليحصل التنافس بين الأمم فكل أمة تحرص على سبق غيرها ، ولهذا قال : { فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ْ } أي : بادروا إليها وأكملوها ، فإن الخيرات الشاملة لكل فرض ومستحب ، من حقوق الله وحقوق عباده ، لا يصير فاعلها سابقا لغيره مستوليا على الأمر ، إلا بأمرين :
المبادرة إليها ، وانتهاز الفرصة حين يجيء وقتها ويعرض عارضها ، والاجتهاد في أدائها كاملة على الوجه المأمور به . ويستدل بهذه الآية ، على المبادرة لأداء الصلاة وغيرها في أول وقتها ، وعلى أنه ينبغي أن لا يقتصر العبد على مجرد ما يجزئ في الصلاة وغيرها من العبادات من الأمور الواجبة ، بل ينبغي أن يأتي بالمستحبات ، التي يقدر عليها لتتم وتكمل ، ويحصل بها السبق .
{ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا ْ } الأمم السابقة واللاحقة ، كلهم سيجمعهم الله ليوم لا ريب فيه . { فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ْ } من الشرائع والأعمال ، فيثيب أهل الحق والعمل الصالح ، ويعاقب أهل الباطل والعمل السيئ .
وأخيرا يصل السياق إلى الرسالة الأخيرة ؛ وإلى الشريعة الأخيرة . . إنها الرسالة التي جاءت تعرض " الإسلام " في صورته النهائية الأخيرة ؛ ليكون دين البشرية كلها ؛ ولتكون شريعته هي شريعة الناس جميعا ؛ ولتهيمن على كل ماكان قبلها وتكون هي المرجع النهائي ؛ ولتقيم منهج الله لحياة البشرية حتى يرث الله الأرض ومن عليها . المنهج الذي تقوم عليه الحياة في شتى شعبها ونشاطها ؛ والشريعة التي تعيش الحياة في إطارها وتدور حول محورها ؛ وتستمد منها تصورها الاعتقادي ، ونظامها الاجتماعي ، وآداب سلوكها الفردي والجماعي . . وقد جاءت كذلك ليحكم بها ، لا لتعرف وتدرس ، وتتحول إلى ثقافة في الكتب والدفاتر ! وقد جاءت لتتبع بكل دقة ، ولا يترك شيء منها ويستبدل به حكم آخر في صغيرة من شئون الحياة أو كبيرة . . فإما هذا وإما فهي الجاهلية والهوى . ولا يشفع في هذه المخالفة أن يقول أحد إنه يجمع بين الناس بالتساهل في الدين . فلو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة . إنما يريد الله أن تحكم شريعته ، ثم يكون من أمر الناس ما يكون :
( وأنزلنا إليك الكتاب بالحق ، مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه ، فاحكم بينهم بما أنزل الله ، ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق . لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا . ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة . ولكن ليبلوكم فيما آتاكم ، فاستبقوا الخيرات . إلى الله مرجعكم جميعا ، فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون . وأن احكم بينهم بما أنزل الله ، ولا تتبع أهواءهم . واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك . فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم ، وإن كثيرا من الناس لفاسقون . أفحكم الجاهلية يبغون ؟ ومن أحسن من الله حكمًا لقوم يوقنون ) . .
ويقف الإنسان أمام هذه النصاعة في التعبير ، وهذا الحسم في التقرير ، وهذا الاحتياط البالغ لكل ما قد يهجس في الخاطر من مبررات لترك شيء - ولو قليل - من هذه الشريعة في بعض الملابسات والظروف . .
يقف الإنسان أمام هذا كله ، فيعجب كيف ساغ لمسلم - يدعي الإسلام - أن يترك شريعة الله كلها ، بدعوى الملابسات والظروف ! وكيف ساغ له أن يظل يدعي الإسلام بعد هذا الترك الكلي لشريعة الله ! وكيف لا يزال الناس يسمون أنفسهم " مسلمين " ؟ ! وقد خلعوا ربقة الإسلام من رقابهم ، وهم يخلعون شريعة الله كلها ؛ ويرفضون الإقرار له بالإلوهيه ، في صورة رفضهم الإقرار بشريعته ، وبصلاحية هذه الشريعه في جميع الملابسات والظروف ، وبضرورة تطبيقها كلها في جميع الملابسات والظروف !
( وأنزلنا إليك الكتاب بالحق ) . .
يتمثل الحق في صدوره من جهى الألوهيه ، وهي الجهه التي تملك حق تنزيل الشرائع ، وفرض القوانين . . ويتمثل الحق في محتوياته ، وفي كل ما يعرض له من شئون العقيده والشريعه ، وفي كل ما يقصه من خير ، وما يحمله من توجيه .
( مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه ) . .
فهو الصورة الأخيرة لدين الله ، وهو المرجع الأخير في هذا الشأن ، والمرجع الأخير في منهج الحياة وشرائع الناس ، ونظام حياتهم ، بلا تعديل بعد ذلك ولا تبديل .
ومن ثم فكل اختلاف يجب أن يرد إلى هذا الكتاب ليفصل فيه . سواء كان هذا الاختلاف في التصور الاعتقادي بين أصحاب الديانات السماويه ، أو في الشريعه التي جاء هذا الكتاب بصورتها الأخيره . أو كان هذا الاختلاف بين المسلمين أنفسهم ، فالمرجع الذي يعودون إليه بآرائهم في شأن الحياه كله هو هذا الكتاب .
ولا قيمه لآراء الرجال ما لم يكن لها أصل تستند إليه من هذا المرجع الأخير .
وتترتب على هذه الحقيقه مقتضياتها المباشره :
( فاحكم بينهم بما أنزل الله ، ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق ) . .
والأمر موجه ابتداء إلى رسول الله [ ص ] فيما كان فيه من أمر أهل الكتاب الذين يبحثون إليه متحاكمين . ولكنه ليس خاصاً بهذا السبب ، بل هو عام . . وإلى آخر الزمان . . طالما أنه ليس هناك رسول جديد ، ولا رساله جديده ، لتعديل شيء ما في هذا المرجع الأخير !
لقد كمل هذا الدين ، وتمت به نعمة الله على المسلمين . ورضيه الله لهم منهج حياه للناس أجمعين . ولم يعد هنالك من سبيل لتعديل شيء فيه أو تبديله ، ولا لترك شيء من حكمه إلى حكم آخر ، ولا شيء من شريعته إلى شريعة أخرى . وقد علم الله حين رضيه للناس ، أنه يسع الناس جميعاً . وعلم الله حين رضيه مرجعاً أخيراً أنه يحقق الخير للناس جميعاً . وأنه يسع حياة الناس جميعاً ، الى يوم الدين . وأي تعديل في هذا المنهج - ودعك من العدول عنه - هو إنكار لهذا المعلوم من الدين بالضروره . يخرج صاحبه من هذا الدين . ولو قال باللسان ألف مره : إنه من المسلمين !
وقد علم الله أن معاذير كثيره يمكن أن تقوم وأن يبرر بها العدول عن شيء مما أنزل الله واتباع أهواء المحكومين المتحاكمين . . وأن هواجس قد تتسرب في ضرورة الحكم بما أنزل الله كله بلا عدول عن شيء فيه ، في بعض الملابسات والظروف . فحذر الله نبيه [ ص ] في هذه الآيات مرتين من اتباع أهواء المتحاكمين ، ومن فتنتهم له عن بعض ما أنزل الله إليه . .
وأولى هذه الهواجس : الرغبة البشرية الخفية في تأليف القلوب بين الطوائف المتعددة ، والاتجاهات والعقائد المتجمعة في بلد واحد . ومسايرة بعض رغباتهم عند ما تصطدم ببعض أحكام الشريعة ، والميل إلى التساهل في الأمور الطفيفة ، أو التي يبدو أنها ليست من أساسيات الشريعة !
وقد روى أن اليهود عرضوا على رسول الله [ ص ] أن يؤمنوا له إذا تصالح معهم على التسامح في أحكام بعينها منها حكم الرجم . وأن هذا التحذير قد نزل بخصوص هذا العرض . . ولكن الأمر - كما هو ظاهر - أعم من حالة بعينها وعرض بعينه . فهو أمر يعرض في مناسبات شتى ، ويتعرض له أصحاب هذه الشريعة في كل حين . . وقد شاء الله - سبحانه - أن يحسم في هذا الأمر ، وأن يقطع الطريق على الرغبة البشرية الخفية في التساهل مراعة للاعتبارات والظروف ، وتأليفا للقلوب حين تختلف الرغبات والأهواء . فقال لنبيه : إن الله لو شاء لجعل الناس أمة واحدة ؛ ولكنه جعل لكل منهم طريقا ومنهاجا ؛ وجعلهم مبتلين مختبرين فيما آتاهم من الدين والشريعة ، وما آتاهم في الحياة كلها من عطايا . وأن كلا منهم يسلك طريقه ؛ ثم يرجعون كلهم إلى الله ، فينبئهم بالحقيقة ، ويحاسبهم على ما اتخذوا من منهج وطريق . . وأنه إذن لا يجوز أن يفكر في التساهل في شيء من الشريعة لتجميع المختلفين في المشارب والمناهج . . فهم لا يتجمعون : ( لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة . ولكن ليبلوكم فيما آتاكم . فاستبقوا الخيرات . إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ) .
بذلك أغلق الله - سبحانه - مداخل الشيطان كلها ؛ وبخاصة ما يبدو منها خيرا وتأليفا للقلوب وتجميعا للصفوف ؛ بالتساهل في شيء من شريعة الله ؛ في مقابل إرضاء الجميع ! أو في مقابل ما يسمونه وحدة الصفوف !
إن شريعة الله أبقى وأغلى من أن يضحى بجزء منها في مقابل شيء قدر الله ألا يكون ! فالناس قد خلقوا ولكل منهم استعداد ، ولكل منهم مشرب ، ولكل منهم منهج ، ولكل منهم طريق . ولحكمة من حكم الله خلقوا هكذا مختلفين . وقد عرض الله عليهم الهدى ؛ وتركهم يستبقون . وجعل هذا ابتلاء لهم يقوم عليه جزاؤهم يوم يرجعون إليه ، وهم إليه راجعون ؛
وإنها لتعلة باطلة إذن ، ومحاولة فاشلة ، أن يحاول أحد تجميعهم على حساب شريعة الله ، أو بتعبير آخر على حساب صلاح الحياة البشرية وفلاحها . فالعدول أو التعديل في شريعة الله لا يعني شيئا إلا الفساد في الأرض ؛ وإلا الانحراف عن المنهج الوحيد القويم ؛ وإلا انتفاء العدالة في حياة البشر ؛ وإلا عبودية الناس بعضهم لبعض ، واتخاذ بعضهم لبعض أرباباً من دون الله . . وهو شر عظيم وفساد عظيم . . لا يجوز ارتكابه في محاولة عقيمة لا تكون ؛ لأنها غير ما قدره الله في طبيعة البشر ؛ ولأنها مضادة للحكمة التي من أجلها قدر ما قدر من اختلاف المناهج والمشارع ، والاتجاهات والمشارب . . وهو خالق الخلق وصاحب الأمر الأول فيهم والأخير . وإليه المرجع والمصير . .
إن محاولة التساهل في شيء من شريعة الله ، لمثل هذا الغرض ، تبدو - في ظل هذا النص الصادق الذي يبدو مصداقه في واقع الحياة البشرية في كل ناحية - محاولة سخيفة ؛ لا مبرر لها من الواقع ؛ ولا سند لها من إرادة الله ؛ ولا قبول لها في حس المسلم ، الذي لا يحاول إلا تحقيق مشيئة الله . فكيف وبعض من يسمون أنفسهم " مسلمين " يقولون : إنه لا يجوز تطبيق الشريعة حتى لا نخسر " السائحين " ؟ ! ! ! أي والله هكذا يقولون !
{ وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمّا جَآءَكَ مِنَ الْحَقّ لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَآءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً وَلََكِن لّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَىَ الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } . .
وهذا خطاب من الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، يقول تعالى ذكره : وأنْزَلْنا إلَيْكَ يا محمد الكِتابَ ، وهو القرآن الذي أنزله عليه . ويعني بقوله : بالحَقّ : بالصدق ، ولا كذب فيه ، ولا شكّ أنه من عند الله . مُصَدّقا لِمَا بينَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتابِ يقول : أنزلناه بتصديق ما قبله من كتب الله التي أنزلها إلى أنبيائه . وَمُهَيْمِنا عَلَيْهِ يقول : أنزلنا الكتاب الذي أنزلناه إليك يا محمد مصدقا للكتب قبله ، وشهيدا عليها أنها حقّ من عند الله ، أمينا عليها ، حافظا لها . وأصل الهيمنة : الحفظ والارتقاب ، يقال إذا رقب الرجل الشيء وحفظه وشهده : قد هيمن فلان عليه ، فهو يهيمن هيمنة ، وهو عليه مهيمن .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . إلا أنهم اختلفت عباراتهم عنه ، فقال بعضهم : معناه : شهيدا . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : وَمُهَيْمِنا عَلَيْهِ يقول : شهيدا .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَمُهَيْمِنا عَلَيْهِ قال : شهيدا عليه .
حدثني بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وأنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ بالحَقّ مُصَدّقا لِما بينَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتابِ يقول : الكتب التي خلت قبله ، وَمُهَيْمِنا عَلَيْهِ : أمينا وشاهدا على الكتب التي خلت قبله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : وَمُهَيْمِنا عَلَيْهِ : مؤتمنا على القرآن وشاهدا ومصدّقا . وقال ابن جريج وآخرون : القرآن أمين على الكتب فيماإذا أخبرنا أهل الكتاب في كتابهم بأمر إن كان في القرآن فصدَقوا ، وإلا فكذَبوا .
وقال بعضهم : معناه : أمين عليه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، وحدثنا هناد بن السريّ ، قال : حدثنا وكيع جميعا ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، عن ابن عباس : وَمُهَيْمِنا عَلَيْهِ قال : مؤتمنا عليه .
حدثنا محمد بن عبيد المحاربيّ ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن أبي إسحاق ، عن التميميّ ، عن ابن عباس في قوله : وَمُهَيْمِنا عَلَيْهِ قال : مؤتَمنا عليه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا سفيان وإسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، عن ابن عباس ، مثله .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان وإسرائيل ، عن أبي إسحاق بإسناده ، عن ابن عباس ، مثله .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن عطية ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، عن ابن عباس ، مثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، عن ابن عباس ، مثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن مطرّف ، عن أبي إسحاق ، عن رجل من تميم ، عن ابن عباس ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : وَمُهَيْمِنا عَلَيْهِ قال : والمهيمن : الأمين ، قال : القرآن أمين على كلّ كتاب قبله .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وأنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ بالحَقّ مُصَدّقا لِمَا بَينَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتابِ وهو القرآن ، شاهد على التوراة والإنجيل ، مصدقا لهما . مُهَيْمِنا عَلَيْهِ يعني : أمينا عليه ، يحكم على ما كان قبله من الكتب .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حميد بن عبد الرحن ، عن قيس ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، عن ابن عباس : وَمُهَيْمِنا عَلَيْهِ قال : مؤتمنا عليه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن آدم ، عن زهير ، عن أبي إسحاق ، عن رجل من بني تميم ، عن ابن عباس : وَمُهَيْمِنا عَلَيْهِ قال : مؤتمنا عليه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا يحيى الحمانيّ ، قال : حدثنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، عن ابن عباس ، مثله .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان وإسرائيل ، عن عليّ بن بذيمة ، عن سعيد بن جبير : وَمُهَيْمِنا عَلَيْهِ قال : مؤتمنا على ما قبله من الكتب .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، قال : سألت الحسين ، عن قوله : وأنْزَلْنا لَيْكَ الكِتابَ بالحَقّ مَصَدّقا لمَا بينَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتابِ وَمُهَيْمِنا عَلَيْهِ قال : مصدّقا لهذه الكتب وأمينا عليها . وسئل عنها عكرمة وأنا أسمع ، فقال : مؤتمنا عليه .
وقال آخرون : معنى المهيمن المصدّق . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَمُهَيْمِنا عَلَيْهِ قال : مصدّقا عليه . كلّ شيء أنزله الله من توراة أو إنجيل أو زبور فالقرآن مصدّق على ذلك ، وكلّ شيء ذكر الله في القرآن فهو مصدّق عليها وعلى ما حدّث عنها أنه حقّ .
وقال آخرون : عنى بقوله : مُصَدّقا لِمَا بينَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتابِ وَمُهَيْمِنا عَلَيْهِ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَمُهَيْمِنا عَلَيْهِ محمد صلى الله عليه وسلم ، مؤتمن على القرآن .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَمُهَيْمِنا عَلَيْهِ قال : محمد صلى الله عليه وسلم ، مؤتمن على القرآن .
فتأويل الكلام على ما تأوله مجاهد : وأنزلنا الكتاب مصدّقا الكتب قبله إليك ، مهيمنا عليه . فيكون قوله «مصدّقا » حالاً من الكتاب وبعضا منه ، ويكون التصديق من صفة الكتاب ، والمهيمن حالاً من الكاف التي في «إليك » ، وهي كناية عن ذكر اسم النبيّ صلى الله عليه وسلم ، والهاء في قوله : عَلَيْهِ عائدة على الكتاب . وهذا التأويل بعيد من المفهوم في كلام العرب ، بل هو خطأ ، وذلك أن المهيمن عطف على المصدّق ، فلا يكون إلا من صفة ما كان المصدّق صفة له ، ولو كان معنى الكلام ما رُوي عن مجاهد لقيل : وأنزلنا إليك مصدّقا لما بين يديه من الكتاب مهيمنا عليه لأنه متقدّم من صفة الكاف التي في «إليك » ، وليس بعدها شيء يكون مهيمنا عليه عطفا عليه ، وإنما عطف به على المصدّق ، لأنه من صفة «الكتاب » الذي من صفته «المصدّق » .
فإن ظنّ ظانّ أن المصدّق على قول مجاهد وتأويله هذا من صفة الكاف التي في «إليك » ، فإن قوله : لِمَا بينَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتابِ يبطل أن يكون تأويل ذلك كذلك ، وأن يكون المصدّق من صفة الكاف التي في «إليك » ، لأن الهاء في قوله : بينَ يَدَيْهِ كناية اسم غير المخاطب ، وهو النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله «إليك » ، ولو كان المصدّق من صفة الكاف لكان الكلام : وأنزلنا إليك الكاب مصدقا لما بين يديك من لكتاب ومهيمنا عليه ، فيكون معنى الكلام حينئذٍ كذلك .
القول في تأويل قوله تعالى : فاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ وَلا تَتّبِعْ أهْوَاءَهُمْ عَمّا جاءَكَ مِنَ الحَقّ .
وهذا أمر من الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن يحكم بين المحتكمين إليه من أهل الكتاب وسائر أهل الملل ، بكتابه الذي أنزله إليه ، وهو القرآن الذي خصه بشريعته . يقول تعالى ذكره : احكم يا محمد بين أهل الكتاب والمشركين بما أنزل إليك من كتابي وأحكامي ، في كلّ ما احتمكوا فيه إليك من الحدود والجروح والقود والنفوس ، فارجم الزاني المحصن ، واقتل النفس القاتلة بالنفس المقتولة ظلما ، وافقأ العين بالعين ، واجدع الأنف بالأنف ، فإن أنزلت إليك القرآن مصدّقا في ذلك ما بين يديه من الكتب ، ومهيمنا عليه ، رقيبا يقضي على ما قبله من سائر الكتب قبله . ولا تتبع أهواء هؤلاء اليهود الذين يقولون : إن أوتيتم الجلد في الزاني المحصن دون الرجم ، وقتل الوضيع بالشريف إذا قتله ، وترك قتل الشريف بالوضيع إذا قتله ، فخذوه ، وإن لم تُؤتوه فاحذروا عن الذي جاءك من عند الله من الحقّ ، وهو كتاب الله الذي أنزله إليك . يقول له : اعمل بكتابي الذي أنزلته إليك إذا احتكموا إليك ، فاختر الحكم عليهم ، ولا تتركن العمل بذلك اتباعا منك أهواءهم وإيثارا لها على الحقّ الذي أنزلته إليك في كتابي . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس : فاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ يقول : بحدود الله ، وَلا تَتَبِعْ أهْوَاءَهُمْ عَمّا جاءَكَ مِنَ الحَقّ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا هارون ، عن عنبسة ، عن جابر ، عن عامر ، عن مسروق : أنه كان يحلّف اليهودي والنصراني بالله ثم قرأ : وأنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ وأنزل الله : أنْ لا يُشْرِكُوا بِه شَيْئا .
القول في تأويل قوله تعالى : لِكُلّ جَعَلنْا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجا .
يقول تعالى ذكره : لكلّ قوم منكم جعلنا شرعة . والشرعة : هي الشريعة بعينها ، تجمع الشرعة شراعا ، والشريعة شرائع ، ولو جمعت الشرعة شرائع كان صوابا ، لأن معناها ومعنى الشريعة واحد ، فيردّها عند الجمع إلى لفظ نظيرها . وكلّ ما شرعت فيه من شيء فهو شريعة ، ومن ذلك قيل لشريعة الماء : شريعة ، لأنه يشرع منها إلى الماء ، ومنه سميت شرائع الإسلام شرائع ، لشروع أهله فيه ، ومنه قيل للقوم إذا تساووا في الشيء : هم شَرَعٌ سواء . وأما المنهاج ، فإن أصله : الطريق البين الواضح ، يقال منه : هو طريق نَهْجٌ ومَنْهجٌ بيّن ، كما قال الراجز :
مَنْ يَكُ فِي شَكَ فَهَذَا فَلْجٌ ***ماءٌ رَوَاءٌ وَطَرِيقٌ نَهْجٌ
ثم يستعمل في كلّ شيء كان بينا واضحا يعمل به .
ثم اختلف أهل التأويل في المنىّ بقوله : لِكُلّ جَعَلْنا مِنْكُمْ فقال بعضهم : عني بذلك أهل الملل المختلفة ، أي أن الله جعل لكلّ ملة شريعة ومنهاجا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : لِكُلّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجا يقول سبيلاً وسنة . والسنن مختلفة : للتوراة شريعة ، وللإنجيل شريعة ، وللقرآن شريعة ، يحلّ الله فيها ما يشاء ويحرّم ما يشاء بلاءً ، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه ، ولكن الدين الواحد الذي لا يقبل غيره التوحيد والإخلاص لله الذي جاءت به الرسل .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قوله : لكلّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجا قال : الدين واحد ، والشريعة مختلفة .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن هاشم ، قال : أخبرنا سيف بن عمر ، عن أبي روق ، عن أبي أيوب ، عن عليّ ، قال : الإيمان منذ بعث الله تعالى ذكره آدم صلى الله عليه وسلم شهادة أن لا إله إلا الله ، والإقرار بما جاء من عند الله ، لكلّ قوم ما جاءهم من شرعة أو منهاج ، فلا يكون المقرّ تاركا ولكنه مطيع .
وقال آخرون : بل عني بذلك أمة محمد صلى الله عليه وسلم . وقالوا : إنما معنى الكلام : قد جعلنا الكتاب الذي أنزلناه إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أيها الناس لكلكم : أي لكلّ من دخل في الإسلام وأقرّ بمحمد صلى الله عليه وسلم أنه لي نبيّ ، شِرعة ومنهاجا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله : لِكُلَ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجا قال : سنة ومنهاجا السبيل لكلكم ، من دخل في دين محمد صلى الله عليه وسلم ، فقد جعل الله له شرعة ومنهاجا ، يقول : القرآن هو له شرعة ومنهاج .
وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال : معناه : لكلّ أهل ملة منكم أيها الأمم جعلنا شرعة ومنهاجا .
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب لقوله : وَلَوْ شاءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً ولو كان عني بقوله : لِكُلَ جَعَلْنا مِنْكُمْ أمة محمد وهم أمة واحدة ، لم يكن لقوله : وَلَوْ شاءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً وقد فعل ذلك فجعلهم أمة واحدة معنى مفهوم ، ولكن معنى ذلك على ما جرى به الخطاب من الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أنه ذكر ما كتب على بني إسرائيل في التوراة ، وتقدّم إليهم بالعمل بما فيها . ثم ذكر أنه قفى بعيسى ابن مريم على آثار الأنبياء قبله ، وأنزل عليه الإنجيل ، وأمر من بعثه إليه بالعمل بما فيه . ثم ذكر نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم ، وأخبرها أنه أنزل إليه الكتاب مصدّقا لما بين يديه من الكتاب ، وأمره بالعمل بما فيه والحكم بما أنزل إليه فيه دون ما في سائر الكتب غيره وأعلمه أنه قد جعل له ولأمته شريعة غير شرائع الأنبياء والأمم قبله الذين قصّ عليهم قصصهم ، وإن كان دينه ودينهم في توحيد الله والإقرار بما جاءهم به من عنده والانتهاء إلى أمره ونهيه واحدا ، فهم مختلفو الأحوال فيما شرع لكلّ واحد منهم ، ولأمته فيما أحلّ لهم وحرم عليهم .
وبنحو الذي قلنا في الشرعة والمنهاج من التأويل قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا مسعر ، عن أبي إسحاق ، عن التميمّي ، عن ابن عباس : لِكُلَ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجا قال : سنة وسبيلاً .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان وإسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، عن ابن عباس : لِكُلّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجا قال : سنة وسبيلاً .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان وإسرائيل وأبيه ، عن أبي إسحاق ، عن التميميّ ، عن ابن عباس ، مثله .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو يحيى الرازي ، عن أبي شيبان ، عن أبي إسحاق ، عن يحيى بن وثاب ، قال : سألت ابن عباس عن قوله : لِكُلَ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجا قال : سنة وسبيلاً .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن التميميّ ، عن ابن عباس : شِرْعَةً وَمِنْهاجا قال : سنة وسبيلاً .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن مطرف ، عن أبي إسحاق ، عن رجل من بني تميم ، عن ابن عباس ، بمثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، عن ابن عباس ، مثله .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : لِكلَ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجا يعني : سبيلاً وسنة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، عن سفيان بن حسين ، قال : سمعت الحسن يقول : الشرعة : السنة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن أي يحيى القتات ، عن مجاهد ، قال : سنة وسبيلاً .
حدثني محمد عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكله : شِرْعَةً وَمِنْهاجا قال : الشرعة : السنة ، ومنهاجا ، قال : السبيل .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بنحوه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : لِكُلَ جَعَلنْا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجا يقول : سبيلاً وسنة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحوضي ، قال : حدثنا شعبة ، قال : حدثنا أبو إسحاق ، قال : سمعت رجلاً من بني تميم ، عن ابن عباس بنحوه .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدّي : شِرْعَةً وَمِنْهاجا يقول : سبيلاً وسنة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : السنة والسبيل .
حدثنا بشرب بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : قوله : لِكُلّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجا يقول : سبيلاً وسنة .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد ، قال : أخبرني عبيد بن سلمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله شِرْعَةً وَمِنْهاجا قال : سبيلاً وسنة .
القول في تأويل قوله تعالى : وَلَوْ شاءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِيما آتاكُمْ .
يقول تعالى ذكره : ولو شاء ربكم لجعل شرائعك واحدة ، ولم يجعل لكلّ أمة شريعة ومنهاجا غير شرائع الأمم الأخر ومنهاجهم ، فكنتم تكونون أمة واحدة ، لا تختلف شرائعكم ومنهاجكم . ولكنه تعالى ذكره يعلم ذلك ، فخالف بين شرائعك ليختبركم فيعرف المطيع منكم من العاصي والعامل بما أمره في الكتاب الذي أنزله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم من المخالف . والابتلاء : هو الاختبار ، وقد ثبت ذلك بشواهده فيما مضى قبل . وقوله فِيما آتاكُمْ يعني : فيما أنزل عليكم من الكتب . كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : وَلَكِنْ لِيَبْلُوكُمْ فِيما آتاكُمْ قال عبد الله بن كثير : لا أعلمه إلا قال : ليبلوكم فيما آتاكم من الكتب .
فإن قال قائل : وكيف قال : ليبلوكم فيما آتاكم ، ومن المخاطب بذلك ، وقد ذكرت أن المعنى : لكلّ جعلنا منكم شرعة ومنهاجا لكلّ نبيّ مع الأنبياء الذين مضوا قبله وأممهم الذين قبل نبينا صلى الله عليه وسلم ، والمخاطب النبيّ وحده ؟ قيل : إن الخطاب وإن كان لنبينا صلى الله عليه وسلم ، فإنه قد أريد به الخبر عن الأنبياء قبله وأممهم ، ولكن العرب من شأنها إذا خاطبت إنسانا وضمت إليه غائبا فأرادت الخبر عنه أن تغلّب المخاطب فيخرج الخبر عنهما على وجه الخطاب ، فلذلك قال تعالى ذكره : لِكُلَ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجا .
القول في تأويل قوله تعالى : فاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إلى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَميعا فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ .
يقول تعالى ذكره : فبادروا أيها الناس إلى الصلحات من الأعمال والقرب إلى ربكم بإدمان العمل بما في كتابكم الذي أنزله إلى نبيكم ، فإنه إنما أنزله امتحانا لكم وابتلاء ، ليتبين المحسن منكم من المسيء ، فيجازي جميعكم على عمله جزاءه عند مصيركم إليه ، فإن مصيركم إليه جميعا ، فيخبر كلّ فريق منكم بما كان يخالف فيه الفرق الأخرى ، فيفصل بينهم بفصل القضاء ، ويبين المحقّ بمجازاته إياه بجناته من المسيء بعقابه إياه بالنار ، فيتبين حينئذٍ كلّ حزب عيانا ، المحقّ منهم من المبطل .
فإن قال قائل : أو لم ينبئنا ربنا في الدنيا قبل مرجعنا إليه ما نحن فيه مختلفون ؟ قيل : إنه بين ذلك في الدنيا بالرسل والأدلة والحجج ، دون الثواب والعقاب عيانا ، فمصدّق بذلك ومكذّب . وأما عند المرجع إليه ، فإنه ينبئهم بذلك بالمجازاة التي لا يشكون معها في معرفة المحقّ والمبطل ، ولا يقدرون على إدخال اللبس معها على أنفسهم ، فكذلك خبره تعالى ذكره أنه يبنئنا عند المرجع إليه بما كنا فيه نختلف في الدنيا . وإنما معنى ذلك : إلى الله مرجعكم جميعا ، فتعرفون المحقّ حينئذٍ من المبطل منكم . كما :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا زيد بن حباب ، عن أبي سنان ، قال : سمعت الضحاك يقول : فاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إلى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعا قال : أمة محمد صلى الله عليه وسلم البرّ والفاجر .
وأخبر تعالى بعد بنزول هذا القرآن ، وقوله : { بالحق } يحتمل أن يريد مضمناً الحقائق من الأمور فكأنه نزل بها ، ويحتمل أن يريد أنه أنزله بأن حق ذلك لا أنه وجب على الله ولكن حق في نفسه وأنزله الله تعالى صلاحاً لعباده ، وقوله : { من الكتاب } يريد من الكتب المنزلة . فهو اسم جنس ، واختلفت عبارة المفسرين في معنى «مهيمن » . فقال ابن عباس : { مهيمناً } شاهداً . وقال أيضاً مؤتمناً .
وقال ابن زيد : معناه مصدقاً ، وقال الحسن بن أبي الحسن أميناً ، وحكى الزجاج رقيباً ولفظة المهيمن أخص من هذه الألفاظ ، لأن المهيمن على الشيء هو المعنيّ بأمره الشاهد على حقائقه الحافظ لحاصله ، فلا يدخل فيه ما ليس منه ، والله تبارك وتعالى هو المهيمن على مخلوقاته وعباده ، والوصي مهيمن على محجوريه وأموالهم ، والرئيس مهيمن على رعيته وأحوالهم ، والقرآن جعله الله مهيمناً على الكتب يشهد بما فيها من الحقائق وعلى ما نسبه المحرفون إليها فيصحح الحقائق ويبطل التحريف ، وهذا هو شاهد ومصدق ومؤتمن وأمين ، و «مهيمن » بناء اسم فاعل ، قال أبو عبيدة : ولم يجىء في كلام العرب على هذا البناء إلا أربعة أحرف . وهي مسيطر ومبيطر ومهيمن ومجيمر . وذكر أبو القاسم الزجّاج- في شرحه لصدر أدب الكتاب- ومبيقر . يقال بيقر الرجل إذا سار من الحجاز إلى الشام ومن أفق إلى أفق ، وبيقر أيضاً لعب البيقرا وهي لعب يلعب بها الصبيان ، وقال مجاهد قوله تعالى : { ومهيمناً عليه } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم هو مؤتمن على القرآن .
قال القاضي أبو محمد : وغلط الطبري رحمه الله في هذه الألفاظ على مجاهد فإنه فسر تأويله على قراءة الناس «مهيمِناً » بكسر الميم الثانية فبعد التأويل ، ومجاهد رحمه الله إنما يقرأ هو وابن محيصن «ومهيمَناً » عليه بفتح الميم الثانية فهو بناء اسم المفعول . وهو حال من الكتاب معطوفة على قوله : { مصدقاً } وعلى هذا يتجه أن المؤتمن عليه هو محمد صلى الله عليه وسلم و { عليه } في موضع رفع على تقدير أنها مفعول لم يسم فاعله . هذا على قراءة مجاهد وكذلك مشى مكي رحمه الله ، وتوغل في طريق الطبري في هذا الموضع ، قال أبو العباس محمد بن يزيد المبرد رحمه الله : «مهيمن » أصله «مويمن » بني من أمين ، وأبدلت همزته هاء كما قالوا أرقت الماء وهرقته ، قال الزجاج : وهذا حسن على طريق العربية ، وهو موافق لما جاء في التفسير من أن معنى «مهيمن » مؤتمن ، وحكى ابن قتيبة هذا الذي قال المبرد في بعض كتبه ، فحكى النقاش أن ذلك بلغ ثعلباً فقال : إن ما قال ابن قتيبة رديء ، وقال هذا باطل ، والوثوب على القرآن شديد ، وهو ما سمع الحديث من قوي ولا ضعيف وإنما جمع الكتب ، انتهى كلام ثعلب .
قال القاضي أبو محمد : ويقال من مهيمن هيمن الرجل على الشيء إذا حفظه وحاطه وصار قائماً عليه أميناً ، ويحتمل أن يكون { مصدقاً ومهيمناً } حالين من الكاف في { إليك } . ولا يخص ذلك قراءة مجاهد وحده كما زعم مكي . قال بعض العلماء هذه ناسخة لقوله : { أو أعرض عنهم } [ المائدة : 42 ] وقد تقدم ذكر ذلك . وقال الجمهور : إنه ليس بنسخ ، وإن المعنى فإن اخترت ان تحكم { فاحكم بينهم بما أنزل الله } ثم حذر تعالى نبيه من اتباع أهوائهم أي شهواتهم وإرادتهم التي هي هوى وسول للنفس ، والنفس أمّارة بالسوء فهواها ُمْرٍد لا محالة ، وحسن هنا دخول عن في قوله : { عما جاءك من الحق } لما كان الكلام بمعنى : لا تنصرف أو لا تزحزح بحسب أهوائهم عما جاءك .
واختلف المتأولون في معنى قوله عز وجل { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً } فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقتادة وجمهور المتكلمين : المعنى «لكل أمة منكم جعلنا شرعة ومنهاجاً » أي لليهود شرعت ومنهاج وللنصارى كذلك وللمسلمين كذلك . .
قال القاضي أبو محمد : وهذا عندهم في الأحكام ، وأما في المعتقد فالدين واحد لجميع العالم توحيد وإيمان بالبعث وتصديق للرسل ، وقد ذكر الله تعالى في كتابه عدداً من الأنبياء شرائعهم مختلفة ، ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده }{[4571]} فهذا عند العلماء في المعتقدات فقط ، وأما أحكام الشرائع فهذه الآية هي القاضية فيها { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً } .
والتاويل الأول عليه الناس . ويحتمل أن يكون المراد بقوله : { لكل جعلنا منكم } الأمم كما قدمنا . ويحتمل أن يكون المراد الأنبياء لا سيما وقد تقدم ذكرهم وذكر ما أنزل عليهم ، وتجيء الآية مع هذا الاحتمال في الأنبياء تنبيهاً لمحمد صلى الله عليه وسلم أي فاحفظ شرعتك ومنهاجك لئلا يستزلك اليهود وغيرهم في شيء منه ، والمتأولون على أن الشرعة والمنهاج في هذه الآية لفظان بمعنى واحد ، وذلك أن الشرعة والشريعة هي الطريق إلى الماء وغيره مما يورد كثيراً فمن ذلك قول الشاعر :
وفي الشرائع من جلان مقتنص *** بالي الثياب خفيّ الصوت مندوب{[4572]}
أراد في الطريق إلى المياه ، ومنه الشارع وهي سكك المدن ، ومنه قول الناس وفيها يشرع الباب ، والمنهاج أيضاً الطريق ، ومنه قول الشاعر :
ومن يك في شك فهذا نهج *** ماء رواه وطريق نهج{[4573]}
أراد واضحاً والمنهاج بناء مبالغة في ذلك ، وقال ابن عباس وغيره : { شرعة ومنهاجاً } معناه سبيلاً وسنة .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : ويحتمل لفظ الآية أن يريد بالشرعة الأحكام ، وبالمنهاج المعتقد أي وهو واحد في جميعكم ، وفي هذا الاحتمال بعد ، والقراء على «شِرعة » بكسر الشين وقرأ إبراهيم النخعي ويحيى بن وثاب «شَرعة » بفتح الشين ، ثم أخبر تعالى بأنه لو شاء لجعل العالم أمة واحدة ولكنه لم يشأ لأنه أراد اختبارهم وابتلاءهم فيما آتاهم من الكتب والشرائع ، كذا قال ابن جريج وغيره ، فليس لهم إلا أن يجدّوا في امتثال الأوامر وهو استباق الخيرات ، فلذلك أمرهم بأحسن الأشياء عاقبة لهم ، ثم حثهم تعالى بالموعظة والتذكير بالمعاد في قوله { إلى الله مرجعكم جميعاً } والمعنى فالبدار البدار ، وقوله تعالى : { فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون } معناه يظهر الثواب والعقاب فتخبرون به إخبار إيقاع ، وإلا فقد نبأ الله في الدنيا بالحق فيما اختلفت الأمم فيه .
قال القاضي أبو محمد : وهذه الآية بارعة الفصاحة جمعت المعاني الكثيرة في الألفاظ اليسيرة ، وكل كتاب الله كذلك ، إلا أنا بقصور أفهامنا َيبين في بعض لنا أكثر مما َيبين في بعض .