{ َعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ } أي : ذو العلو والجلال والعظمة ، والتدبير لسائر الخلق ، الذي تعرج إليه الملائكة بما دبرها{[1225]} على تدبيره ، وتعرج إليه الروح ، وهذا اسم جنس يشمل الأرواح كلها ، برها وفاجرها ، وهذا عند الوفاة ، فأما الأبرار فتعرج أرواحهم إلى الله ، فيؤذن لها من سماء إلى سماء ، حتى تنتهي إلى السماء التي فيها الله عز وجل ، فتحيي ربها وتسلم عليه ، وتحظى بقربه ، وتبتهج بالدنو منه ، ويحصل لها منه الثناء والإكرام والبر والإعظام .
وأما أرواح الفجار فتعرج ، فإذا وصلت إلى السماء استأذنت فلم يؤذن لها ، وأعيدت إلى الأرض .
ثم ذكر المسافة التي تعرج إلى الله فيها الملائكة والأرواح{[1226]} وأنها تعرج في يوم بما يسر لها من الأسباب ، وأعانها عليه من اللطافة والخفة وسرعة السير ، مع أن تلك المسافة على السير المعتاد مقدار خمسين ألف سنة ، من ابتداء العروج إلى وصولها ما حد لها ، وما تنتهي إليه من الملأ الأعلى ، فهذا الملك العظيم ، والعالم الكبير ، علويه وسفليه ، جميعه قد تولى خلقه وتدبيره العلي الأعلى ، فعلم أحوالهم الظاهرة والباطنة ، وعلم مستقرهم ومستودعهم ، وأوصلهم من رحمته وبره ورزقه{[1227]} ، ما عمهم وشملهم وأجرى عليهم حكمه القدري ، وحكمه الشرعي وحكمه الجزائي .
فبؤسا لأقوام جهلوا عظمته ، ولم يقدروه حق قدره ، فاستعجلوا بالعذاب على وجه التعجيز والامتحان ، وسبحان الحليم الذي أمهلهم وما أهملهم ، وآذوه فصبر عليهم وعافاهم ورزقهم .
هذا أحد الاحتمالات في تفسير هذه الآية [ الكريمة ] فيكون هذا العروج والصعود في الدنيا ، لأن السياق الأول يدل على هذا .
ويحتمل أن هذا في يوم القيامة ، وأن الله تبارك وتعالى يظهر لعباده في يوم القيامة من عظمته وجلاله وكبريائه ، ما هو أكبر دليل على معرفته ، مما يشاهدونه من عروج الأملاك والأرواح صاعدة ونازلة ، بالتدابير الإلهية ، والشئون في الخليقة{[1228]}
في ذلك اليوم الذي مقداره خمسون ألف سنة من طوله وشدته ، لكن الله تعالى يخففه على المؤمن .
وبعد هذا الافتتاح الذي يقرر كلمة الفصل في موضوع العذاب ، ووقوعه ، ومستحقيه ، ومصدره ، وعلو هذا المصدر ورفعته ، مما يجعل قضاءه أمرا علويا نافذا لا مرد له ولا دافع . . بعد هذا أخذ في وصف ذلك اليوم الذي سيقع فيه هذا العذاب ، والذي يستعجلون به وهو منهم قريب . ولكن تقدير الله غير تقدير البشر ، ومقاييسه غير مقاييسهم :
( تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، فاصبر صبرا جميلا ، إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا ) . .
والأرجح أن اليوم المشار إليه هنا هو يوم القيامة ، لأن السياق يكاد يعين هذا المعنى . وفي هذا اليوم تصعد الملائكة والروح إلى الله . والروح : الأرجح أنه جبريل عليه السلام ، كما سمي بهذا الاسم في مواضع أخرى . وإنما أفرد بالذكر بعد الملائكة لما له من شأن خاص . وعروج الملائكة والروح في هذا اليوم يفرد كذلك بالذكر ، إيحاء بأهميته في هذا اليوم وخصوصيته ، وهم يعرجون في شؤون هذا اليوم ومهامه . ولا ندري نحن - ولم نكلف أن ندري - طبيعة هذه المهام ، ولا كيف يصعد الملائكة ، ولا إلى أين يصعدون . فهذه كلها تفصيلات في شأن الغيب لا تزيد شيئا من حكمة النص ، وليس لنا إليها من سبيل ، وليس لنا عليها من دليل . فحسبنا أن نشعر من خلال هذا المشهد بأهمية ذلك اليوم ، الذي ينشغل فيه الملائكة والروح بتحركات تتعلق بمهام ذلك اليوم العظيم .
وأما ( كان مقداره خمسين ألف سنة ) . . فقد تكون كناية عن طول هذا اليوم كما هو مألوف في التعبير العربي . وقد تعني حقيقة معينة ، ويكون مقدار هذا اليوم خمسين ألف سنة من سني أهل الأرض فعلا وهو يوم واحد ! وتصور هذه الحقيقة قريب جدا الآن . فإن يومنا الأرضي هو مقياس مستمد من دورة الأرض حول نفسها في أربع وعشرين ساعة . وهناك نجوم دورتها حول نفسها تستغرق ما يعادل يومنا هذا آلاف المرات . . ولا يعني هذا أنه المقصود بالخمسين ألف سنة هنا . ولكننا نذكر هذه الحقيقة لتقرب إلى الذهن تصور اختلاف المقاييس بين يوم ويوم !
وقوله : تَعْرُجُ المَلائِكَةُ وَالرّوحُ إلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ يقول تعالى ذكره : تصعد الملائكة والروح ، وهو جبريل عليه السلام إليه ، يعني إلى الله جلّ وعزّ والهاء في قوله : إلَيْهِ عائدة على اسم الله في يَوْمٍ كانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ يقول : كان مقدار صعودهم ذلك في يوم لغيرهم من الخلق خمسين ألف سنة ، وذلك أنها تصعد من منتهى أمره من أسفل الأرض السابعة إلى منتهى أمره من فوق السموات السبع . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام بن سلم ، عن عمرو بن معروف ، عن ليث ، عن مجاهد في يَوْمٍ كانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ قال : منتهى أمره من أسفل الأرضين إلى منتهى أمره من فوق السموات مقدار خمسين ألف سنة ويوم كان مقداره ألف سنة ، يعني بذلك نزل الأمر من السماء إلى الأرض ، ومن الأرض إلى السماء في يوم واحد ، فذلك مقداره ألف سنة ، لأن ما بين السماء إلى الأرض ، مسيرة خمس مئة عام .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : تعرج الملائكة والروح إليه في يوم يفرغ فيه من القضاء بين خلقه ، كان قدر ذلك اليوم الذي فرغ فيه من القضاء بينهم قدر خمسين ألف سنة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن سماك بن حرب ، عن عكرِمة فِي يَوْم كانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ قال : في يوم واحد يفرغ في ذلك اليوم من القضاء كقدر خمسين ألف سنة .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن سماك ، عن عكرِمة فِي يَوْم كانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ قال : يوم القيامة .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن سماك ، عن عكرِمة في هذه الاَية خَمْسينَ ألْفَ سَنَةٍ قال : يوم القيامة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة تَعْرُجُ المَلائِكَةُ وَالرّوحُ إلَيْه فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ : ذاكم يوم القيامة .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال معمر : وبلغني أيضا ، عن عكرِمة ، في قوله : مقدَارُهُ خَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ لا يدري أحدٌ كم مضى ، ولا كم بقي إلا الله .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : تَعْرُجُ المَلائِكَةُ وَالرّوحُ إلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ فهذا يوم القيامة ، جعله الله على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ يعني يوم القيامة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فِي يَوْمٍ كانَ مقْدَارُهُ خَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ قال : هذا يوم القيامة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عمرو بن الحارث أن درّاجا حدّثه عن أبي الهيثم عن سعيد ، أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ ما أطول هذا فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «وَالّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، إنّهُ لَيُخَفّفُ عَلى المُؤْمِنِ حتى يَكُونَ أخَفّ عَلَيْهِ مِنَ الصّلاةِ المَكْتُوبَةِ يُصَلّيها فِي الدّنْيا » .
وقد رُوي عن ابن عباس في ذلك غير القول الذي ذكرنا عنه ، وذلك ما :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أيوب ، عن ابن أبي مليكة ، أن رجلاً سأل ابن عباس عن يوم كان مقداره ألف سنة ، فقال : ما يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ؟ قال : إنما سألتك لتخبرني ، قال : هما يومان ذكرهما الله في القرآن ، الله أعلم بهما ، فكره أن يقول في كتاب الله ما لا يعلم .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا أيوب ، عن ابن أبي مليكة ، قال : سأل رجل ابن عباس عن يوم مقداره ألف سنة ، قال : فاتهمه ، فقيل له فيه ، فقال : ما يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ؟ فقال : إنما سألتك لتخبرني ، فقال : هما يومان ذكرهما الله جلّ وعزّ ، الله أعلم بهما ، وأكره أن أقول في كتاب الله بما لا أعلم .
وقرأت عامة قرّاء الأمصار قوله : تَعْرُجُ المَلائِكَةُ والرّوحُ بالتاء خلا الكسائي ، فإنه كان يقرأ ذلك بالياء بخبر كان يرويه عن ابن مسعود أنه قرأ ذلك كذلك .
والصواب من قراءة ذلك عندنا ما عليه قرّاء الأمصار ، وهو بالتاء لإجماع الحجة من القرّاء عليه .
وقوله : { تعرج الملائكة } معناه : تصعد على أصل اللفظة في اللغة . { والروح } عند جمهور العلماء : هو جبريل عليه السلام خصصه بالذكر تشريفاً .
وقال مجاهد : { الروح } ملائكة حفظة للملائكة الحافظين لبني آدم لا تراهم الملائكة كما لا نرى نحن الملائكة . وقال بعض المفسرين : هو اسم الجنس في أرواح الحيوان . واختلف المتأولون في قوله تعالى : { في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة } . فقال منذر بن سعيد وجماعة من الحذاق : المعنى { تعرج الملائكة والروح إليه في يوم } من أيامكم هذه مقدار المسافة أن لو عرجها آدمي خمسون ألف سنة ، وقاله ابن إسحاق فمن جعل { الروح } جبريل أو نوعاً من الملائكة قال : المسافة هي من قعر الأرض السابعة إلى العرش ، قاله مجاهد . ومن جعل { الروح } جنس الحيوان قال المسافة من وجه هذه الأرض إلى منتهى العرش علواً ، قاله وهب بن منبه . وقال قوم المعنى : { تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره } في نفسه { خمسين ألف سنة } من أيامكم ، ثم اختلفوا في تعيين ذلك اليوم ، فقال عكرمة والحكم : أراد مدة الدنيا فإنها خمسون ألف سنة ، لا يدري أحد ما مضى منها ولا ما بقي ، فالمعنى { تعرج الملائكة والروح إليه } في مدة الدنيا ، وبقاء هذه البنية ويتمكن على هذا في { الروح } أن يكون جنس أرواح الحيوان ، وقال ابن عباس وغيره : بل اليوم المشار إليه يوم القيامة ثم اختلفوا ، فقال بعضهم قدره في الطول قدر خمسين ألف سنة ، وهذا هو ظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم : «ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل له صفائح من نار يوم القيامة ، تكوى بها جبهته وظهره وجنباه في يوم كان مقداره ألف سنة »{[11315]} . وقال ابن عباس وأبو سعيد الخدري : بل قدره في هوله وشدته ورزاياه للكفار قدر { خمسين ألف سنة } . وهذا كما تقول في اليوم العصيب ، إنه كسنة ونحو هذا قال أبو سعيد ، قيل يا رسول الله ما أطول يوماً مقداره خمسون ألف سنة ، فقال : «والذي نفسي بيده ليخف على المؤمن حتى يكون عليه أخف من صلاة مكتوبة »{[11316]} ، وقال عكرمة : المعنى كان مقدار ما ينقضي فيه من القضايا والحساب قدر ما ينقضي بالعدل في { خمسين ألف سنة } من أيام الدنيا . وقد ورد في يوم القيامة أنه كألف سنة وهذا يشبه أن يكون في طوائف دون طوائف . والعامل في قوله { في يوم } على قول من قال إنه يوم القيامة قوله { دافع } وعلى سائر الأقوال { تعرج } ، وقرأ جمهور القراء : «تعرج » بالتاء من فوق ، وقرأ الكسائي وحده : «يعرج » بالياء لأن التأنيث بالياء غير حقيقي ، وبالياء من تحت قرأ ابن مسعود لأنه كان يذكر الملائكة وهي قراءة الأعمش ، ثم أمر تعالى نبيه بالصبر الجميل ، وهو الذي لا يلحقه عيب من فشل ولا تشكك ولا قلة رضى ولا غير ذلك .