{ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } وهو آدم عليه السلام . أنشأ الله منه هذا العنصر الآدمي ؛ الذي قد ملأ الأرض ولم يزل في زيادة ونمو ، الذي قد تفاوت في أخلاقه وخلقه ، وأوصافه تفاوتا لا يمكن ضبطه ، ولا يدرك وصفه ، وجعل الله لهم مستقرا ، أي منتهى ينتهون إليه ، وغاية يساقون إليها ، وهي دار القرار ، التي لا مستقر وراءها ، ولا نهاية فوقها ، فهذه الدار ، هي التي خلق الخلق لسكناها ، وأوجدوا في الدنيا ليسعوا في أسبابها ، التي تنشأ عليها وتعمر بها ، وأودعهم الله في أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم ، ثم في دار الدنيا ، ثم في البرزخ ، كل ذلك ، على وجه الوديعة ، التي لا تستقر ولا تثبت ، بل ينتقل منها حتى يوصل إلى الدار التي هي المستقر ، وأما هذه الدار ، فإنها مستودع وممر { قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ } عن الله آياته ، ويفهمون عنه حججه ، وبيناته .
{ وَهُوَ الّذِيَ أَنشَأَكُم مّن نّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصّلْنَا الاَيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وإلهكم أيها العادلون بالله غيره الّذي أنْشأكُمْ يعني : الذي ابتدأ خلقكم من غير شيء فأوجدكم بعد أن لم تكونوا شيئاً مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ يعني : من آدم عليه السلام كما :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السّديّ : مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ قال : آدم عليه السلام .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَهُوَ الّذِي أنْشأكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ من آدم عليه السلام .
وأما قوله : مُسْتَقَرّ ومُسْتَوْدَعٌ فإن أهل التأويل في تأويله مختلفون فقال بعضهم : معنى ذلك : وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة ، فمنكم مستقرّ في الرحم ومنكم مستودع في القبر ، حتى يبعثه الله لنشر القيامة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن إبراهيم ، عن عبد الله : يَعْلَمُ مُسْتَقَرّها ومُسْتَوْدَعَها قال : مستقرّها في الأرحام ، ومستودعها حيث تموت .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن إسماعيل ، عن إبراهيم ، عن عبد الله أنه قال : المستودع حيث تموت ، والمستقرّ : ما في الرحم .
حدثت عن عبيد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن السّديّ ، عن مرّة ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : المستقرّ الرحم ، والمستودع : المكان الذي تموت فيه .
حدثني محمد بن عبيد المحاربي ، قال : حدثنا محمد بن فضيل وعليّ بن هاشم ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن إبراهيم : يَعْلَمُ مُسْتَقَرّها ومُسْتَوْدَعَها قال : مستقرّها في الأرحام ، ومستودعها في الأرض حيث تموت فيها .
حدثنا أبو كريب وأبو السائب ، قالا : حدثنا بن إدريس ، عن ليث ، عن مِقْسِم ، قال : مستقرّها في الصلب حيث تأوي إليه ، ومستودعها حيث تموت .
وقال آخرون : المستودع : ما كان في أصلاب الاَباء ، والمستقرّ : ما كان في بطون النساء وبطون الأرض أو على ظهورها . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا بن علية ، قال : حدثنا كلثوم بن جبر ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : فَمُسْتَقَرّ ومُسْتَوْدَعٌ قال : مستودَعون ما كانوا في أصلاب الرجال ، فإذا قرّوا في أرحام النساء أو على ظهر الأرض أو في بطنها ، فقد استقرّوا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا بن عطية ، عن كلثوم بن جبر ، عن سعيد بن جبير : مُسْتَقَرّ ومُسْتَوْدَعٌ قال : المستودعون : ما كانوا في أصلاب الرجال ، فإذا قرّوا في أرحام النساء أو على ظهر الأرض فقد استقروا .
حدثنا محمد بن المثنى ، ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن المغيرة بن النعمان ، عن سعيد بن جبير ، قال : قال بن عباس : يَعْلَمُ مُسْتَقَرّها ومُسْتَوْدَعَها قال : المستودع في الصلب والمستقرّ : ما كان على وجه الأرض أو في الأرض .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : فمستقرّ في الأرض على ظهورها ومستوع عند الله . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن سمان ، عن سفيان ، عن المغيرة ، عن أبي الخير تميم بن حَذْلَم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : «المستقرّ » : الأرض ، و «المستودع » عند الرحمن .
حدثنا بن وكيع ، قال : حدثنا عبيد الله ، عن إسرائيل ، بن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : «المستقرّ » الأرض ، و «المستودع » : عند ربك .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن إبراهيم ، قال : عبد الله : مستقرّها في الدنيا ، ومستودعها في الاَخرة يعني : فَمُسْتَقَرّ وَمُسْتَوْدَع .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا بن المبارك ، عن شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، قال : «المستودع » : في الصلب ، و «المستقرّ » : في الاَخرة وعلى وجه الأرض .
وقال آخرون : معنى ذلك : فمستقرّ في الرحم ومستودع في الصلب . ذكر من قال ذلك :
حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن أبي الحرث ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، في قول الله : فَمُسْتَقَرّ وَمُسْتَوْدَع قال : مستقرّ في الرحم ، ومستودع في صلب لم يخلق وسيخلق .
حدثنا بن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن يحيى الجابر ، عن عكرمة : فَمُسْتَقَرّ وَمُسْتَوْدَع قال : المستقر : الذي قد استقرّ في الرحم ، والمستودع : الذي قد استودع في الصلب .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن أبي الخير تميم ، عن سعيد بن جبير ، قال بن عباس : سَلْ فقلت : فَمُسْتَقَرّ وَمُسْتَوْدَع ؟ قال : المستقرّ : في الرحم ، والمستودع : ما استودع في الصلب .
حدثنا أبو كريب وأبو السائب ، قالا : حدثنا ابن إدريس ، عن قابوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله : فَمُسْتَقَرّ وَمُسْتَوْدَع قال : المستقرّ : الرحم ، والمستودع : ما كان عند ربّ العالمين مما هو خالقه ولم يخلق .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قوله : يَعْلَمُ مُسْتَقَرّها وَمُسْتَوْدَعَها قال : المستقرّ : ما كان في الرحم مما هو حيّ ومما قد مات والمستودع : ما في الصلب .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، قال : قال لي بن عباس ، وذلك قبل أن يخرج وجهي : أتزوجت يا بن جبير ؟ قال : قلت : لا ، وما أريد ذاك يومي هذا . قال : فقال : أما إنه مع ذلك سيخرج ما كان في صلبك من المستودعين .
حدثنا بن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، قال : قال لي ابن عباس : تزوّجتَ ؟ قلت : لا . قال : فضرب ظهري وقال : ما كان من مستودع في ظهرك سيخرج .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : فَمُسْتَقَرّ وَمُسْتَوْدَع قال : المستقرّ في الأرحام ، والمستودع في الصلب لم يخلق وهو خالقه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : فَمُسْتَقَرّ وَمُسْتَوْدَع قال : المستقرّ في الرحم ، والمستودع : ما استودع في أصلاب الرجال والدواب .
حدثنا بن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : المستقرّ : ما استقرّ في الرحم والمستودع : ما استودع في الصلب .
حدثنا بن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن أبي الخير تميم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، بنحوه .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا عبيدة بن حميد ، عن عمار الدهني ، عن رجل ، عن كريب ، قال : دعاني بن عباس ، فقال : اكتب : «بسم الله الرحمن الرحيم . من عبد الله بن عباس إلى فلان حبر تيماء سلام عليك ، فإني أحمد إليك الله ، الذي لا إله إلا هو ، أما بعد » قال : فقلت : تبدؤه تقول : السلام عليك ؟ فقال : إن الله هو السلام . ثم قال : اكتب «سلام عليك ، أما بعد فحدّثني عن مستقرّ ومستودع » . قال : ثم بعثني بالكتاب إلى اليهودي ، فأعطيته إياه فلما نظر إليه قال : مرحباً بكتاب خليلي من المسلمين فذهب بي إلى بيته ، ففتح أسفاطاً له كبيرة ، فجعل يطرح تلك الأشياء لا يلتفت إليها . قال : قلت : ما شأنك ؟ قال : هذه أشياء كتبها اليهود حتى أخرج سفر موسى عليه السلام ، قال : فنظر إليه مرتّين ، فقال : المستقرّ : الرحم . قال : ثم قرأ : ونُقِرّ فِي الأرْحَام ما نَشاءُ ، وقرأ : وَلَكُمْ فِي الأرْضِ مُسْتَقَرّ ومَتَاعٌ قال : مستقرّة فوق الأرض ، ومستقره في الرحم ، ومستقرّة تحت الأرض ، حتى يصير إلى الجنة أو إلى النار .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا قبيصة ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء : فَمُسْتَقَرّ وَمُسْتَوْدَعٌ قال : المستقرّ : ما استقرّ في أرحام النساء ، والمستودع : ما استودع في أصلاب الرجال .
حدثنا بن وكيع ، قال : حدثنا عبد الله ، عن سفيان ، عن بن جريج ، عن عطاء ، قال : المستقرّ : الرحم ، والمستودع : في أصلاب الرجال .
حدثنا بن وكيع ، قال : حدثنا روح بن عبادة ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، وعن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : المستقرّ : الرحم ، والمستودع : في الأصلاب .
حدثني محمد بن عروة ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : ثني عيسى ، عن بن أبي نجيح ، عن مجاهد : فَمُسْتَقَرّ : ما استقرّ في أرحام النساء وَمُسْتَوْدَع ما كان في أصلاب الرجال .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن بن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بنحوه .
حدثنا بن حميد وابن وكيع قالا : حدثنا جرير ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : المستقرّ : ما استقرّ في الرحم ، والمستودع : ما استودع في الصلب .
حدثنا بن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن يمان ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : المستقرّ : الرحم ، والمستودع : الصلب .
حدثنا بن وكيع ، قال : حدثنا معاذ بن معاذ ، عن ابن عون ، قال : أتينا إبراهيم عند المساء ، فأخبرونا أنه قد مات فقلنا : هل سأله أحد عن شيء ؟ قالوا : عبد الرحمن بن الأسود عن المستقرّ والمستودع فقال : المستقر في الرحم ، والمستودع : في الصلب .
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا ابن عون ، قال : أتيتنا إبراهيم ، وقد مات ، قال : فحدثني بعضهم أن عبد الرحمن بن الأسود سأله قبل أن يموت عن المستقرّ والمستودع ، فقال المستقرّ : في الرحم ، والمستودع : في الصلب .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا بن علية ، عن ابن عون ، قال : أتينا منزل إبراهيم ، فسألنا عنه ، فقالوا : قد توفي ، وسأله عبد الرحمن بن الأسود ، فذكره نحوه .
حدثني به يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا بن علية ، عن ابن عون ، أنه بلغه أن عبد الرحمن بن الأسود سأل إبراهيم ، عن ذلك ، فذكر نحوه .
حدثنا عبيد الله بن محمد الفريابي ، قال : حدثنا ضمرة بن ربيعة ، عن العلاء بن هارون ، قال : انتهيت إلى منزل إبراهيم حين قبض ، فقلت لهم : هل سأله أحد عن شيء ، قالوا : سأله عبد الرحمن بن الأسود عن مستقرّ ومستودع ، فقال : أما المستقرّ : فما استقرّ في أرحام النساء ، والمستودع : ما في أصلاب الرجال .
حدثنا أبو كريب وأبو السائب ، قالا : حدثنا بن إدريس ، عن ليث ، عن مجاهد في فَمُسْتَقَرّ وَمُسْتَوْدَع قال : المستقرّ : الرحم ، والمستودع : الصلب .
حدثني يونس ، قال : ثني سفيان ، عن رجل حدثه عن سعيد بن جبير ، قال : قال لي بن عباس : ألا تنكح ؟ ثم قال : أنا إني أقول لك هذا وإني لأعلم أن الله مخرج من صلبك ما كان فيه مستودعاً .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : المستقر في الرحم ، والمستودع : في الصلب .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن ابن عباس : فَمُسْتَقَرّ وَمُسْتَوْدَعٌ قال : مستقر في الرحم ، ومستودع : في الصلب .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : فَمُسْتَقَرّ وَمُسْتَوْدَع قال : مستقرّ : في الرحم ، ومستودع : في الصلب .
حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : حدثنا عبيد بن سليمان ، عن الضحاك : فَمُسْتَقَرّ وَمُسْتَوْدَع أما «مستقر » : فما استقرّ في الرحم ، وأما «مستودع » في الصلب .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فَمُسْتَقَرّ وَمُسْتَوْدَع قال : مستقرّ في الأرحام ، ومستودع : في الأصلاب .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا حماد ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير وأبي حمزة ، عن إبراهيم ، قالا : «مستقر ومستودع » ، المستقرّ : في الرحم ، والمستودع : في الصلب .
وقال آخرون : المستقر : في القبر ، والمستودع : في الدنيا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كان الحسن يقول : مستقرّ : في القبر ، ومستودع : في الدنيا . وأوشك أن يلحق بصاحبه .
وأولى التأويلات في ذلك بالصواب ، أن يقال : إن الله جلّ ثناؤه عمّ بقوله : فَمُسْتَقَرّ وَمُسْتَوْدَع كلّ خلقه الذي أنشأ من نفس واحدة مستقرّاً ومستودعاً ، ولم يخصص من ذلك معنى دون معنى . ولا شك أن من بني آدم مستقراً في الرحم ومستودعاً في الصلب ، ومنهم من هو مستقرّ على ظهر الأرض أو بطنها ومستودع في أصلاب الرجال ، ومنهم مستقرّ في القبر مستودع على ظهر الأرض ، فكلّ مستقرّ أو مستودع بمعنى من هذه المعاني فداخل في عموم قوله : فَمُسْتَقَرّ وَمُسْتَوْدَعٌ ومراد به : إلا أن يأتي خبر يجب التسليم له بأنه معنى به معنى دون معنى وخاصّ دون عامّ .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : فَمُسْتَقَرّ وَمُسْتَوْدَع فقرأت ذلك عامة قراء أهل المدينة والكوفة : فَمُسْتَقَرّ وَمُسْتَوْدَع بمعنى : فمنهم من استقره الله في مقرّه فهو مستقرّ ، ومنهم من استودعه الله فيما استودعه فيه . وقرأ ذلك بعض أهل المدينة وبعض أهل البصرة : «فمُسْتَقِرٌ » بكسر القاف بمعنى : فمنهم من استقر فهو مستودع فيه في مقرّه فهو مستقِرّ به .
وأولى القراءتين بالصواب عندي وإن كان لكليهما عندي وجه صحيح : فمُسْتَقَرّ بمعنى : استقرّه الله في مستقرّه ، ليأتلف المعنى فيه وفي «المستودع » في أن كلّ واحد منهما لم يسمّ فاعله ، وفي إضافة الخبر بذلك إلى الله في أنه المستقرّ هذا والمستودع هذا وذلك أن الجميع مجمعون على قراءة قوله : وَمُسْتَوْدَعٌ بفتح الدال على وجه ما لم يسمّ فاعله ، فإجراء الأوّل ، أعني قوله : «فمستقرّ » عليه أشبه من عدوله عنه .
وأما قوله : قَدْ فَصّلْنَا الاَياتِ لقَوْمٍ يَفْقَهُونَ يقول تعالى : قد بينا الحجج وميزنا الأدلة والأعلام وأحكمناها لقوم يفقهون مواقع الحجج ومواضع العبر ويفهمون الاَيات والذكر ، فإنهم إذا اعتبروا بما نبهتهم عليه من إنشائي من نفس واحدة ما عاينوا من البشر وخلقي ما خلقت منها من عجائب الألوان والصور ، علموا أن ذلك من فعل من ليس له مثل ولا شرك فيشركوه في عبادتهم إياه . كما :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : قَدْ فَصّلْنا الاَياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ يقول : قد بينا الاَيات لقوم يفقهون .
هذا تذكير بخلق الإنسان وكيف نشأ هذا العدد العظيم من نفْس واحدة كما هو معلوم لهم ، فالّذي أنشأ النّاس وخلقهم هو الحقيق بعبادتهم دون غيره ممّا أشركوا به ، والنّظر في خلقة الإنسان من الاستدلال بأعظم الآيات . قال تعالى : { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } [ الذاريات : 21 ] .
والقصر الحاصل من تعريف المسند إليه والمسند تعريض بالمشركين ، إذ أشركوا في عبادتهم مع خالقهم غيرَ من خلقهم على نحو ما قررتُه في الآية قبل هذه .
والإنشاء : الإحداث والإيجاد . والضّمير المنصوب مراد به البشر كلّهم . والنّفس الواحدة هي آدم عليه السّلام .
وقوله : { فمستقرّ } الفاء للتّفريع عن { أنشأكم } ، وهو تفريع المشتَمَل عليه المقارن على المشتمِل .
وقرأه الجمهور { مستقَر } بفتح القاف وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو ، وروح عن يعقوب « بكسر القاف » . فعلى قراءة فتح القاف يكون مصدراً ميمياً ، و { مستَودَع } كذلك ، ورفعهما على أنّه مبتدأ حُذف خبره ، تقديره : لكم أو منكم ، أو على أنّه خبر لمبتدأ محذوف تقديره : فأنتم مُستقرّ ومستودَع . والوصف بالمصدر للمبالغة في الحاصل به ، أي فتفرّع عن إنشائكم استقرار واستيداع ، أي لكم .
وعلى قراءة كسر القاف يكون المستقرّ اسم فاعل . والمستودَع اسم مفعول من استودعَه بمعنى أودعه ، أي فمستقِرّ منكم أقررناه فهو مستقرّ ، ومستودَع منكم ودّعناه فهو مستودَع . والاستقرار هو القرار ، فالسّين والتّاء فيه للتّأكيد مثل استجاب . يقال : استقرّ في المكان بمعنى قرّ . وتقدّم عند قوله تعالى : { لكلّ نبأ مستقرّ } في هذه السورة [ 67 ] .
والاستيداع : طلب التّرك ، وأصله مشتقّ من الوَدْع ، وهو التّرك على أن يُسترجع المستوْدَعُ . يقال : استودعه مالاً إذا جعله عنده وديعة ، فالاستيداع مؤذن بوضع موقّت ، والاستقرار مؤذن بوضع دائم أو طويل .
وقد اختلف المفسّرون في المراد بالاستقرار والاستيداع في هذه الآية مع اتّفاقهم على أنّهما متقابلان . فعَن ابن مسعود : المستقَرّ الكون فوق الأرض ، والمستودَع الكون في القبْر . وعلى هذا الوجه يكون الكلام تنبيهاً لهم بأنّ حياة النّاس في الدّنيا يعقبها الوضع في القبور وأنّ ذلك الوضع استيداع موقّت إلى البعث الّذي هو الحياة الأولى ردّاً على الّذين أنكروا البعث .
وعن ابن عبّاس : المستقرّ في الرّحم والمستودَع في صلب الرجل ، ونقل هذا عن ابن مسعود أيضاً ، وقاله مجاهد والضحْاك وعطاء وإبراهيم النخعي ، وفسّر به الزجّاج . قال الفخر : وممّا يدلّ على قوّة هذا القول أنّ النّطفة الواحدة لا تبقى في صلب الأب زماناً طويلاً والجنين يبقى في رَحم الأمّ زماناً طويلاً . وعن غير هؤلاء تفسيرات أخرى لا يثلج لها الصّدر أعرضنا عن التّطويل بها . وقال الطّبري إنّ الله لم يخصّص معنى دون غيره ، ولا شكّ أنّ من بني آدم مستقرّاً في الرّحم ومستودَعاً في الصلب ، ومنهم من هو مستقرّ على ظهر الأرض أو بطنها ومستودَع في أصلاب الرّجال ، ومنهم مستقرّ في القبر مستودَع على ظهر الأرض ، فكلّ مستقِرّ أو مستودع بمعنى من هذه المعاني داخل في عموم قوله : فمستقَرّ ومستودع } اه .
وقال ابن عطيّة : الّذي يقتضيه النّظر أنّ ابن آدم هو مستودَع في ظهر أبيه وليس بمستقرّ فيه لأنّه ينتقل لا محالة ثمّ ينتقل إلى الرّحم ثمّ ينتقل إلى الدّنيا ثمّ ينتقل إلى القبر ثمّ ينتقل إلى الحشر ثمّ ينتقل إلى الجنّة أو النّار . وهو في كلّ رتبة بين هذين الظرفين مستقِرّ بالإضافة إلى الّتي قبلها ومستودَع بالإضافة إلى الّتي بعدها اه .
والأظهر أن لا يقيّد الاستيداع بالقبور بل هو استيداع من وقت الإنشاء ، لأنّ المقصود التّذكير بالحياة الثّانية ، ولأنّ الأظهر أنّ الواو ليست للتّقسيم بل الأحسن أن تكون للجمع ، أي أنشأكم فشأنكم استقرار واستيداع فأنتم في حال استقراركم في الأرض ودائع فيها ومرجعكم إلى خالقكم كما ترجع الوديعة إلى مودِعها . وإيثار التّعبير بهذين المصدرين ما كان إلاّ لإرادة توفير هذه الجملة .
وعلى قراءة كسر القاف هو اسم فاعل . { ومستودع } اسم مفعول ، والمعنى هو هو .
وقوله : { قد فصّلنا الآيات لقوم يفقهون } تقرير لنظيره المتقدّم مقصود به التّذكير والإعذار .
وعدل عن ( يعلمون ) إلى { يفقهون } لأنّ دلالة إنشائهم على هذه الأطوار من الاستقرار والاستيداع وما فيهما من الحكمة دلالة دقيقة تحتاج إلى تدبّر ، فإنّ المخاطبين كانوا معرضين عنها فعبّر عن علمها بأنّه فِقه ، بخلاف دلالة النّجوم على حكمة الاهتداء بها فهي دلالة متكرّرة ، وتعريضاً بأنّ المشركين لا يعلمون ولا يفقهون ، فإنّ العلم هو المعرفة الموافقة للحقيقة ، والفقه هو إدراك الأشياء الدّقيقة . فحصل تفصيل الآيات للمؤمنين وانتفى الانتفاع به للمشركين ، ولذلك قال بعدَ هذا { إنّ في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون } [ الأنعام : 99 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة}: خلقكم من نفس واحدة، يعني آدم وحده، {فمستقر} في أرحام النساء،
{ومستودع} في أصلاب الرجال مما لم يخلقه وهو خالقه.
{قد فصلنا الآيات}: قد بينا الآيات، {لقوم يفقهون} عن الله عز وجل.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وإلهكم أيها العادلون بالله غيره "الّذي أنْشأكُمْ "يعني: الذي ابتدأ خلقكم من غير شيء فأوجدكم بعد أن لم تكونوا شيئاً "مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَة" يعني: من آدم عليه السلام...
وأما قوله: "مُسْتَقَرّ ومُسْتَوْدَعٌ" فإن أهل التأويل في تأويله مختلفون؛ فقال بعضهم: معنى ذلك: وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة، فمنكم مستقرّ في الرحم ومنكم مستودع في القبر، حتى يبعثه الله لنشر القيامة... وقال آخرون: المستودع: ما كان في أصلاب الآباء، والمستقرّ: ما كان في بطون النساء وبطون الأرض أو على ظهورها...عن سعيد بن جبير، في قوله: "فَمُسْتَقَرّ ومُسْتَوْدَعٌ" قال: مستودَعون ما كانوا في أصلاب الرجال، فإذا قرّوا في أرحام النساء أو على ظهر الأرض أو في بطنها، فقد استقرّوا...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فمستقرّ في الأرض على ظهورها ومستوع عند الله... عن ابن عباس: «المستقرّ»: الأرض، و «المستودع» عند الرحمن.
وقال آخرون: معنى ذلك: فمستقرّ في الرحم ومستودع في الصلب... وقال آخرون: المستقر: في القبر، والمستودع: في الدنيا...
وأولى التأويلات في ذلك بالصواب، أن يقال: إن الله جلّ ثناؤه عمّ بقوله: "فَمُسْتَقَرّ وَمُسْتَوْدَع" كلّ خلقه الذي أنشأ من نفس واحدة مستقرّاً ومستودعاً، ولم يخصص من ذلك معنى دون معنى. ولا شك أن من بني آدم مستقراً في الرحم ومستودعاً في الصلب، ومنهم من هو مستقرّ على ظهر الأرض أو بطنها ومستودع في أصلاب الرجال، ومنهم مستقرّ في القبر مستودع على ظهر الأرض، فكلّ مستقرّ أو مستودع بمعنى من هذه المعاني فداخل في عموم قوله: "فَمُسْتَقَرّ وَمُسْتَوْدَعٌ" ومراد به: إلا أن يأتي خبر يجب التسليم له بأنه معنى به معنى دون معنى وخاصّ دون عامّ...
"قَدْ فَصّلْنَا الآيات لقَوْمٍ يَفْقَهُونَ": قد بيّنا الحجج وميزنا الأدلة والأعلام وأحكمناها لقوم يفقهون مواقع الحجج ومواضع العبر ويفهمون الآيات والذكر، فإنهم إذا اعتبروا بما نبهتهم عليه من إنشائي من نفس واحدة ما عاينوا من البشر وخلقي ما خلقت منها من عجائب الألوان والصور، علموا أن ذلك من فعل من ليس له مثل ولا شريك فيشركوه في عبادتهم إياه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة} فيه دلالة أنه {يبدئ ويعيد} [البروج: 13] من غير شيء لأنه أخبر أنه خلق البشر كله من نفس واحدة. والخلائق كلهم لو اجتمعوا ما قدروا على ذلك، ولم تكن الخلائق بأجمعهم في تلك النفس الواحدة. دل أنه قادر على الابتداء والإعادة لا من شيء؛ إذ لم يكن لتلك النفس التي خلق الخلائق منها تقدمة شيء...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... فإن قلت: لم قيل {يَعْلَمُونَ} مع ذكر النجوم و {يَفْقَهُونَ} مع ذكر إنشاء بني آدم؟ قلت: كان إنشاء الإنس من نفس واحدة وتصريفهم بين أحوال مختلفة ألطف وأدق صنعة وتدبيراً، فكان ذكر الفقه الذي هو استعمال فطنة وتدقيق نظر مطابقاً له.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
اضطرب المتأولون في معنى هذا الاستقرار والاستيداع... والذي يقتضيه النظر أن ابن آدم هو مستودع في ظهر أبيه وليس بمستقر فيه استقراراً مطلقاً، لأنه ينتقل لا محالة ثم ينتقل إلى الرحم ثم ينتقل إلى القبر ثم ينتقل إلى المحشر ثم ينتقل إلى الجنة أو النار فيستقر في أحدهما استقراراً مطلقاً، وليس فيها مستودع لأنه لا نقلة له بعد، وهو في كل رتبة متوسطة بين هذين الظرفين «مستقر» بالإضافة إلى التي قبلها و «مستودع» بالإضافة إلى التي بعدها، لأن لفظ الوديعة يقتضي فيها نقلة ولا بد.
هذا نوع رابع من دلائل وجود الإله وكمال قدرته وعلمه، وهو الاستدلال بأحوال الإنسان؛ فنقول لا شبهة في أن النفس الواحدة هي آدم عليه السلام وهي نفس واحدة. وحواء مخلوقة من ضلع من أضلاعه. فصار كل الناس من نفس واحدة وهي آدم...
{قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون} والمراد من هذا التفصيل أنه بين هذه الدلائل على وجه الفصل للبعض عن البعض. ألا ترى أنه تعالى تمسك أولا بتكوين النبات والشجر من الحب والنوى، ثم ذكر بعده التمسك بالدلائل الفلكية من ثلاثة وجوه، ثم ذكر بعده التمسك بأحوال تكوين الإنسان فقد ميز تعالى بعض هذه الدلائل عن بعض، وفصل بعضها عن بعض لقوم يفقهون.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ذكر سبحانه بعض هذا الملكوت الأرضي والسماوي، أتبعه -كما مضى في أول السورة- الخلق المفرد الجامع لجميع الملكوت، وهو الإنسان، دالاً على كمال القدرة على كل ما يريد، مبطلاً بمفاوتة أول الإبداع وآخر الآجال ما اعتقدوا في النور والظلمة والشمس والقمر وغيرهما، لأن واحداً منها لا اختيار له في شيء يصدر عنه، بل هو مسخر ومقهور كما هو محسوس ومشهور، فقال: {وهو} أي لا غيره {الذي أنشأكم} أي وأنتم في غاية التفاوت في الطول والقد واللون والشكل وغير ذلك من الأعراض التي دبرها سبحانه على ما اقتضته حكمته {من نفس واحدة} ثم اقتطع منها زوجها ثم فرّعكم منهما.
ولما كان أغلب الناس في الحياة الدنيا يعمل عمل من لا يحول ولا يزول، لا يكون على شرف الزوال ما دامت فيه بقية من حياة، قال: {فمستقر} أي فسبب عن ذلك أنه منكم مستقر على الأرض -هذا على قراءة ابن كثير وابن عمر، وبكسر القاف اسم فاعل، والمعنى في قراءة الباقين بفتحه اسم مكان.
{ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين} [البقرة: 26].
ولما كان من في البرزخ قد كشف عنهم الغطاء فهم موقنون بالساعة غير عاملين على ضد ذلك، وكذا من في الصلب والرحم، عبر بما يدل على عدم الاستقرار فقال: {ومستودع} أي في الأصلاب أو الأرحام أو في بطن الأرض، فدلت المفاوتة من كل منهما- مع أن الكل من نفس واحدة -على القادر المختار، لا يقدر غيره أن يعكس شيئاً من ذلك، وكل ذلك مضمون الآيتين في أول السورة، وقدم الإصباح والليل ومتعلقهما لتقدمهما في الخلق، ثم تلاه بخلق الإنسان على حسب ما مرّ أول السورة، وذكر هنا أنه جعل ذلك الطين نفساً واحدة فرّع الإنس كلهم منها مع تفاوتهم فيما هناك وفي غيره.
ولما ذكر هذا المفرد الجامع، وفصّله على هذه الوجوه المعجبة، كان محلاً لتوقع التنبيه عليه فقال: {قد فصلنا} أي بعظمتنا {الآيات} أي أكثرنا بيانها في هذا المفرد الجامع في أطوار الخلقة وأدوار الصنعة، تارة بأن يكون من التراب بشر، وأخرى بأن يخرج الأنثى من الذكر، وتارة بأن يفرّع من الذكر والأنثى ما لا يحيط به العد ولا يجمعه الخبر من النطفة إلى الولادة إلى الكبر.
ولما كان إنشاء الناس من نفس واحدة وتصريفهم على تلك الوجوه المختلفة جداً ألطف وأدق صنعة، فكان ذلك محتاجاً إلى تدبر واستعمال فطنة وتدقيق نظر، قال: {لقوم يفقهون} أي لهم أهلية الفقه والفطنة.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع} بعد أن ذكرنا الله تعالى ببعض آياته الكونية في الأرض وفي السماء ذكرنا في هذه الآية ببعض آياته في أنفسنا.
الإنشاء: إيجاد الشيء وتربيته أو إحداثه بالتدريج. وقد استعمل في التنزيل في خلق الإنسان بجملته وخلق أعضائه ومشاعره، وإيجاد الأقوام والقرون من أممه بعضها في أثر بعض، وفي البعث، وفي خلق الشجر والجنات، وفي إحداث السحاب. قال في حقيقة الأساس: وأنشأ حديثا وشعرا وعمارة. اه. والنفس: ما يحيا به الإنسان وذاته فيطلق على الروح وعلى المرء المركب من روح وبدن. والمستقَر (بفتح القاف): حيث يكون القرار والإقامة قال تعالى: {ولكم في الأرض مستقَر} [البقرة: 36] كما قال: {جعل الأرض قرارا} [النمل: 61] قال الراغب: قر في مكانه يقر قرارا إذا ثبت ثبوتا جامدا، وأصله من القر وهو البرد وهو يقتضي السكون، والحر يقتضي الحركة. اه.
والمستودع: موضع الوديعة، وهي ما يتركه المرء عند غيره مؤقتا ليأخذه بعد، فهي فعلية من ودع الشيء إذا تركه بمعنى مفعولة. ويكون كل من المستقر والمستودع مصدرا ميميا بمعنى الاستقرار والاستيداع، ويكون الثاني اسم مفعول بمعنى الوديعة، ولا يكون الأول كذلك لأن فعله لازم إلا ما جاء على طريقة الحذف كقولهم ظرف مستقر، أي مستقر فيه.
والمعنى أنه تعالى هو الذي أنشأكم من نفس واحدة، وهي إما الروح التي هي الخلق الآخر في قوله تعالى بعد ذكر أطوار خلق الجسد {ثم أنشأناه خلقا آخر} [المؤمنون: 14] وإما الذات المركبة من الروح والجسد، والمراد بها الإنسان الأول الذي تسلسل منه سائر الناس بالتوالد بين الأزواج، وهو عندنا وعند أهل الكتاب آدم عليه السلام وتقدم مثل هذا في أول سورة النساء مع بحث طويل في تفسيره وسيجيئ شبهه في سورة الأعراف. وفي إنشاء جميع البشر من نفس واحدة آيات بينات على قدرة الله وعلمه وحكمته ووحدانيته، وفي التذكير به إرشاد إلى ما يجب من شكر نعمته، ومن وجوب التعارف والتآلف والتعاون بين البشر، وعدم جعل تفرقهم إلى شعوب وقبائل، مدعاة للتعادي والتقاتل، وقد فصلنا القول في هذا المعنى في أول تفسير آية سورة النساء... قرأ ابن كثير وأبو عمرو المستقر بكسر القاف والباقون بفتحها. واختلف في المراد بالمستقر والمستودع...
وأقول ليس في الكتاب العزيز ما نستعين به على تفسير هذه العبارة كدأبنا في تفسير القرآن بالقرآن إلا قوله تعالى في سورة الحج: {يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم} [الحج: 5]. وقوله تعالى في سورة هود: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين} [هود: 6] قال ابن عباس: مستقرها حيث تأوي ومستودعها حيث تموت. وقال مستقرها في الأرحام ومستودعها حيث تموت. فهذا يرجح أن المراد بالمستقَر (بفتح القاف): الرحم، والمستودع القبر. وأما المستقِر (بكسر القاف) فالظاهر أنه من يطول عمره في الدنيا كأنه قال: فمنكم مستقر في الدنيا يعمر عمرا طويلا ومنكم مستودع لا استقرار له فيها بل تخترمه المنية طفلا أو يافعا، ويمكن تفسير قراءة الفتح بهذا أي فمنها ذو استقرار وذو استيداع. وآخر ما خطر لي بعد تلخيص أقوال المفسرين أن المستقر الروح- وهو يذكر ويؤنث- والمستودع البدن. والجملة مما يتسع المجال فيه للتفسير والتقدير، والإيجاز ومقصود به.
{قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون} أي قد جعلنا الآيات المبينة لسنننا في خلق البشر مفصلة. كل فصل ونوع منها يدل على قدرة الخالق وإرادته، وعمله وحكمته، وفضله ورحمته، فصلناها كذلك لقوم يفقهون ما يتلى عليهم أي يفهمون المراد منه ومرماه، ويفطنون لدقائقه وخفاياه، فالفقه- وإن فسر بالعلم وبالفهم- أخص منهما. قال الراغب: الفقه هو التوصل إلى علم غائب بعلم شاهد فهو أخص من العلم. وقال ابن الأثير في النهاية إن اشتقاقه من الفتح والشق، وأحسن منه قول الحكيم الترمذي أن فقه وفقأ واحد فإن الإبدال بين الهمزة والهاء كثير. وفقأ البثرة شقها وسبر غورها، فالفقء مستعمل في الحسيات والفقه في المعنويات، والجامع بينهما النظر في أعماق الشيء وباطنه. فمن لا يفهم إلا ظواهر الكلام ولا يفطن إلا لمظاهر الأشياء لا يقال أنه فقه ذلك، وإنما سمي علم الشرع فقها لما فيه من الاستنباط.
ولما كان استخراج الحكم والعبر من خلق البشر يتوقف على غوص في أعماق الآيات، وفطنة في استخراج دقائق الحكم والبينات، عبر عنها بالفقه، وأما العلم بمواقع النجوم والاهتداء بها في ظلمات البر والبحر فهو من الأمور الظاهرة التي لا تتوقف على دقة النظر، ولا غوص الفكر، وكذلك أكثر مظاهر علم الفلك، فلذلك اكتفى في الآية السابقة لهذه بالتعبير بالعلم الشامل لما لا يشترط فيه دقة الاستنباط كظواهره ولغيره كدقائقه...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} وهو آدم عليه السلام. أنشأ الله منه هذا العنصر الآدمي؛ الذي قد ملأ الأرض ولم يزل في زيادة ونمو، الذي قد تفاوت في أخلاقه وخلقه، وأوصافه تفاوتا لا يمكن ضبطه، ولا يدرك وصفه، وجعل الله لهم مستقرا، أي منتهى ينتهون إليه، وغاية يساقون إليها، وهي دار القرار، التي لا مستقر وراءها، ولا نهاية فوقها، فهذه الدار، هي التي خلق الخلق لسكناها، وأوجدوا في الدنيا ليسعوا في أسبابها، التي تنشأ عليها وتعمر بها، وأودعهم الله في أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم، ثم في دار الدنيا، ثم في البرزخ، كل ذلك، على وجه الوديعة، التي لا تستقر ولا تثبت، بل ينتقل منها حتى يوصل إلى الدار التي هي المستقر، وأما هذه الدار، فإنها مستودع وممر {قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} عن الله آياته، ويفهمون عنه حججه، وبيناته.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذا تذكير بخلق الإنسان وكيف نشأ هذا العدد العظيم من نفْس واحدة كما هو معلوم لهم، فالّذي أنشأ النّاس وخلقهم هو الحقيق بعبادتهم دون غيره ممّا أشركوا به، والنّظر في خلقة الإنسان من الاستدلال بأعظم الآيات. قال تعالى: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} [الذاريات: 21].
والقصر الحاصل من تعريف المسند إليه والمسند تعريض بالمشركين، إذ أشركوا في عبادتهم مع خالقهم غيرَ من خلقهم على نحو ما قررتُه في الآية قبل هذه...
والاستيداع: طلب التّرك، وأصله مشتقّ من الوَدْع، وهو التّرك على أن يُسترجع المستوْدَعُ. يقال: استودعه مالاً إذا جعله عنده وديعة، فالاستيداع مؤذن بوضع موقّت، والاستقرار مؤذن بوضع دائم أو طويل...
والأظهر أن لا يقيّد الاستيداع بالقبور، بل هو استيداع من وقت الإنشاء، لأنّ المقصود التّذكير بالحياة الثّانية، ولأنّ الأظهر أنّ الواو ليست للتّقسيم بل الأحسن أن تكون للجمع، أي أنشأكم فشأنكم استقرار واستيداع، فأنتم في حال استقراركم في الأرض ودائع فيها ومرجعكم إلى خالقكم كما ترجع الوديعة إلى مودِعها. وإيثار التّعبير بهذين المصدرين ما كان إلاّ لإرادة توفير هذه الجملة.
وعلى قراءة كسر القاف هو اسم فاعل. {ومستودع} اسم مفعول، والمعنى هو هو.
وقوله: {قد فصّلنا الآيات لقوم يفقهون} تقرير لنظيره المتقدّم مقصود به التّذكير والإعذار.
وعدل عن (يعلمون) إلى {يفقهون} لأنّ دلالة إنشائهم على هذه الأطوار من الاستقرار والاستيداع وما فيهما من الحكمة دلالة دقيقة تحتاج إلى تدبّر، فإنّ المخاطبين كانوا معرضين عنها فعبّر عن علمها بأنّه فِقه، بخلاف دلالة النّجوم على حكمة الاهتداء بها فهي دلالة متكرّرة، وتعريضاً بأنّ المشركين لا يعلمون ولا يفقهون، فإنّ العلم هو المعرفة الموافقة للحقيقة، والفقه هو إدراك الأشياء الدّقيقة. فحصل تفصيل الآيات للمؤمنين وانتفى الانتفاع به للمشركين، ولذلك قال بعدَ هذا {إنّ في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون} [الأنعام: 99].
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
... جدير بالملاحظة أنّ هذه الآية تعبر عن خلق الإِنسان بالإِنشاء، والكلمة لغوياً تعني الإِيجاد والإِبداع مع التربية، أي أنّ الله قد خلقكم وتعهد بتربيتكم، ومن الواضح أنّ الخالق الذي يخلق شيئاً ثمّ يهمله لا يكون قد أبدى قدرة فائقة، ولكنّه إِذا استمر في العناية بمخلوقاته وحمايتها، ولم يغفل عن تربيتها لحظة واحدة، عندئذ يكون قد أظهر حقّاً عظمته وسعة رحمته... وفي ختام الآية يعود فيقول: (قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون). عند الرجوع إِلى كتب اللغة يتبيّن لنا أنّ «الفقه» ليس كل معرفة أو فهم، بل هو التوصل إِلى علم غائب بعلم حاضر، وبناء على ذلك فالهدف من التمعن في خلق الإِنسان واختلاف أشكاله وألوانه، هو أن يتوصل المرء المدقق من معرفة الخلق إِلى معرفة الخالق.