ثم لما أخبر بعدم استقامتهم ، التي أوجبت اختلافهم وافتراقهم ، أمر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ، ومن معه ، من المؤمنين ، أن يستقيموا كما أمروا ، فيسلكوا ما شرعه الله من الشرائع ، ويعتقدوا ما أخبر الله به من العقائد الصحيحة ، ولا يزيغوا عن ذلك يمنة ولا يسرة ، ويدوموا على ذلك ، ولا يطغوا بأن يتجاوزوا ما حده الله لهم من الاستقامة .
وقوله : { إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ْ } أي : لا يخفى عليه من أعمالكم شيء ، وسيجازيكم عليها ، ففيه ترغيب لسلوك الاستقامة ، وترهيب من ضدها ، ولهذا حذرهم عن الميل إلى من تعدى الاستقامة فقال : { وَلَا تَرْكَنُوا ْ }
القول في تأويل قوله تعالى : { فَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : { فاستقم } أنت ، يا محمد ، على أمر ربك والدين الذي ابتعثك به والدعاء إليه ، كما أمرك ربك . { وَمَنْ تَابَ مَعَكَ } ، يقول : ومن رجع معك إلى طاعة الله والعمل بما أمره به ربه من بعد كفره . { وَلا تَطْغَوْا } ، يقول : ولا تعدوا أمره إلى ما نهاكم عنه . { إنّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } ، يقول : إن ربكم ، أيها الناس ، بما تعملون من الأعمال كلها طاعتها ومعصيتها بصير ذو علم بها ، لا يخفى عليه منها شيء ، وهو لجميعها مبصر ، يقول تعالى ذكره : فاتقوا الله أيها الناس أن يطلع عليكم ربكم وأنتم عاملون بخلاف أمره ، فإنه ذو علم بما تعلمون ، وهو لكم بالمرصاد .
وكان ابن عيينة يقول في معنى قوله : { فاسْتَقِمْ كمَا أُمِرْتَ }ما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن الزبير ، عن سفيان في قوله : { فاسْتَقِمْ كمَا أُمِرْتَ } ، قال : استقم على القرآن .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { وَلا تَطْغَوْا } ، قال : الطغيان : خلاف الله وركوب معصيته ذلك الطغيان .
أمر النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاستقامة وهو عليها إنما هو أمر بالدوام والثبوت ، وهذا كما تأمر إنساناً بالمشي والأكل ونحوه وهو ملتبس به . والخطاب بهذه الآية للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين تابوا من الكفر ، ولسائر أمته بالمعنى ، وروي أن بعض العلماء رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال له : يا رسول الله بلغنا عنك أنك قلت : شيبتني هود وأخواتها{[6524]} فما الذي شيبك من هود ؟ قال له : قوله تعالى : { فاستقم كما أمرت } .
قال القاضي أبو محمد : والتأويل المشهور في قوله عليه السلام : شيبتني هود وأخواتها - أنها إشارة إلى ما فيها مما حل بالأمم السابقة ، فكان حذره على هذه الأمة مثل ذلك شيبه عليه السلام .
وقوله : { أمرت } مخاطبة تعظيم ، وقوله : { ومن } معطوف على الضمير في قوله : { فاستقم } ، وحسن ذلك دون أن يؤكد لطول الكلام بقوله : { كما أمرت } . و { لا تطغوا } معناه : ولا تتجاوزوا حدود الله تعالى ، و «الطغيان » : تجاوز الحد ومنه قوله : { طغى الماء }{[6525]} وقوله في فرعون : { إنه طغى }{[6526]} ، وقيل في هذه معناه : ولا تطغينكم النعم ، وهذا كالأول .
{ فاستقم كما أمرت ومن تاب معك }
ترتب عن التسلية التي تضمّنها قوله : { ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه } [ هود : 110 ] وعن التثبيت المفاد بقوله : { فلا تك في مرية ممّا يَعبد هؤلاء } [ هود : 109 ] الحضّ على الدّوام على التمسك بالإسلام على وجه قويم . وعبّر عن ذلك بالاستقامة لإفادة الدّوام على العمل بتعاليم الإسلام ، دواماً جماعهُ الاستقامة عليه والحذر من تغييره .
ولمّا كان الاختلاف في كتاب موسى عليه السّلام إنّما جاء من أهل الكتاب عطف على أمر النّبيء صلى الله عليه وسلم بالاستقامة على كتابه أمرُ المؤمنين بتلك الاستقامة أيضاً ، لأنّ الاعوجاج من دواعي الاختلاف في الكتاب بنهوض فرق من الأمة إلى تبديله لمجاراة أهوائهم ، ولأنّ مخالفة الأمّة عمداً إلى أحكام كتابها إن هو إلاّ ضرب من ضروب الاختلاف فيه ، لأنّه اختلافها على أحكامه . وفي الحديث : " فإنّما أهلكَ الذين من قبلكم كثرةُ مسائلهم واختلافُهم على أنبيائهم " ، فلا جرم أن كانت الاستقامة حائلاً دون ذلك ، إذ الاستقامة هي العمل بكمال الشريعة بحيث لا ينحرف عنها قِيد شبر . ومتعلقها العمل بالشريعة بعد الإيمان لأنّ الإيمان أصل فلا تتعلّق به الاستقامة . وقد أشار إلى صحّة هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبِي عَمْرَةَ الثقفي لمّا قال له : « يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك . قال : قل آمنت بالله ثم استَقِمْ » فجعل الاستقامة شيئاً بعد الإيمان .
ووُجّه الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم تنويهاً بشأنه ليبني عليه قوله : { كما أمرتَ } فيشير إلى أنّه المتلقّي للأوامر الشرعيّة ابتداء . وهذا تنويه له بمقام رسالته ، ثم أُعلم بخطاب أمّته بذلك بقوله : { ومن تاب معك } . وكاف التّشبيه في قوله : { كما أمرت } في موضع الحال من الاستقامة المأخوذة من ( استقم ) . ومعنى تشبيه الاستقامة المأمور بها بما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم لكون الاستقامة مماثلة لسائر ما أمر به ، وهو تشبيه المجمل بالمفصّل في تفصيله بأن يكون طبقه . ويؤول هذا المعنى إلى أن تكون الكاف في معنى ( على ) كما يقال : كن كما أنت . أي لا تتغيّر ، ولتشبه أحوالك المستقبلة حالتك هذه .
{ ومن تاب } عطف على الضمير المتّصل في { أمرت } . ومصحّح العطف موجود وهو الفصل بالجار والمجرور .
{ ومن تاب } هم المؤمنون ، لأنّ الإيمان توبة من الشّرك ، و { معك } حال من { تاب } وليس متعلّقاً ب { تاب } لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن من المشركين .
وقد جمع قوله : { فاستقم كما أمرت } أصول الصّلاح الديني وفروعه لقوله : { كما أمرتَ } .
قال ابن عبّاس : ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية هي أشدّ ولا أشق من هذه الآية عليه .
ولذلك قال لأصحابه حين قالوا له : لقد أسرع إليك الشيب « شيبتني هود وأخواتها » . وسئل عمّا في هود فقال : قوله { فاستقم كما أمرت } .
{ ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير }
الخطاب في قوله : { ولا تطغوا } موجه إلى المؤمنين الذين صدق عليهم { ومن تاب معك } .
والطغيان أصله التّعاظم والجراءة وقلة الاكتراث ، وتقدّم في قوله تعالى : { ويمدُّهم في طغيانهم يعمهون } في سورة [ البقرة : 15 ] . والمراد هنا الجراءة على مخالفة ما أمروا به ، قال تعالى : { كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحلّ عليكم غضبي } [ طه : 81 ] . فنهى الله المسلمين عن مخالفة أحكام كتابه كما نهى بني إسرائيل .
وقد شمل الطغيان أصول المفاسد ، فكانت الآية جامعة لإقامة المصالح ودَرْء المفاسد ، فكان النهي عنه جامعاً لأحوال مصادر الفساد من نفس المفسد وبقي ما يخشى عليه من عدوى فساد خليطه فهو المنهى عنه بقوله بعد هذا : { ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسّكم النار } [ هود : 113 ] .
وعن الحسن البصري : جعل الله الدّين بين لاءَيْن { ولا تطغوا } { ولا تركنوا } [ هود : 113 ] .
وجملة { إنّه بما تعملون بصير } استئناف لتحذير من أخفى الطغيان بأن الله مطلع على كل عمل يعمله المسلمون ، ولذلك اختير وصف { بصير } من بين بقية الأسماء الحسنى لدلالة مادته على العلم البين ودلالة صيغته على قوته .