{ وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ } قال المفسرون : المراد بذلك : الجوع الذي أصابهم سبع سنين ، وأن الله ابتلاهم بذلك ، ليرجعوا إليه بالذل والاستسلام ، فلم ينجع فيهم ، ولا نجح منهم أحد ، { فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ } أي : خضعوا وذلوا { وَمَا يَتَضَرَّعُونَ } إليه ويفتقرون ، بل مر عليهم ذلك ثم زال ، كأنه لم يصبهم ، لم يزالوا في غيهم وكفرهم ، ولكن وراءهم العذاب الذي لا يرد ، وهو قوله :
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُواْ لِرَبّهِمْ وَمَا يَتَضَرّعُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ولقد أخذنا هؤلاء المشركين بعذابنا ، وأنزلنا بهم بأسنا ، وسخطنا وضيّقنا عليهم معايشهم ، وأجدبنا بلادهم ، وقتلنا سراتهم بالسيف . فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبّهِمْ يقول : فما خضعوا لربهم فينقادوا لأمره ونهيه ويُنيبوا إلى طاعته . وَما يَتَضَرّعُونَ يقول : وما يتذللون له .
وذُكر أن هذه الاَية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخذ الله قريشا بسني الجدب ، دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا أبو تميلة ، عن الحسن ، عن يزيد ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس ، قال : جاء أبو سفيان إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا محمد ، أَنْشُدُكَ الله والرحم ، فقد أكلنا العِلْهِز يعني الوبر والدم . فأنزل الله : وَلَقَدْ أخَذْناهُمْ بالعَذَابِ ، فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبّهِمْ وَما يَتَضَرّعُونَ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا عبد المؤمن ، عن عِلباء بن أحمر ، عن عِكرمة ، عن ابن عباس : أن ابن أُثالٍ الحنفيّ لما أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو أسير ، فخلّى سبيله ، فلحق بمكة ، فحال بين أهل مكة وبين المِيرة من اليمامة ، حتى أكلت قريش العِلْهِزَ ، فجاء أبو سفيان إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : أليس تزعم بأنك بُعثت رحمة للعالمين ؟ فقال : «بَلى » فقال : قد قتلت الاَباء بالسيف والأبناء بالجوع فأنزل الله : وَلَقَدْ أخَذْناهُمْ بالعَذَابِ . . . الاَية .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا الحكم بن بشير ، قال : أخبرنا عمرو ، قال : قال الحسن : إذا أصاب الناس من قبل الشيطان بلاء فإنما هي نقمة ، فلا تستقبلوا نقمة الله بالحَمِيّة ولكن استقبلوها بالاستغفار ، وتضرّعوا إلى الله . وقرأ هذه الاَية : وَلَقَدْ أخَذْناهُمْ بالعَذَابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبّهِمْ وَما يَتَضَرّعونَ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قوله : وَلَقَد أخَذْناهُمْ بالعَذَابِ قال : الجوع والجدب . فَمَا اسْتَكانُوا لرَبّهِمْ فصبروا . وما اسْتَكانُوا لرَبّهِم وَما يَتَضَرّعُونَ .
استدلال على مضمون قوله { ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون } [ المؤمنون : 75 ] بسابق إصرارهم على الشرك والإعراض عن الالتجاء إلى الله وعدم الاتعاظ بأن ما حل بهم من العذاب هو جزاء شركهم .
والجملة المتقدمة خطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم وهو يعلم صدقه فلم يكن بحاجة إلى الاستظهار عليه . ولكنه لما كان متعلقاً بالمشركين وكان بحيث يبلغ أسماعهم وهم لا يؤمنون بأنه كلام من لا شك في صدقه ، كان المقام محفوفاً بما يقتضي الاستدلال عليهم بشواهد أحوالهم فيما مضى ؛ ولذلك وقع قبله { فذرْهم في غمرتهم حتى حين } [ المؤمنون : 54 ] ، ووقع بعده { قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون } [ المؤمنون : 84 ] .
والتعريف في قوله { بالعذاب } للعهد ، أي بالعذاب المذكور آنفاً في قوله : { حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب } [ المؤمنون : 64 ] الخ . ومصبّ الحال هو ما عطف على جملتها من قوله { فما استكانوا لربهم } ، فلا تتوهمنّ أن إعادة ذكر العذاب هنا تدل على أنه عذاب آخر غير المذكور آنفاً مستنداً إلى أن إعادة ذكر الأول لا طائل تحتها . وهذه الآية في معنى قوله في سورة الدخان ( 13 15 ) { أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين ثم تولوا عنه } إلى قوله { إنا كاشفوا العذاب قليلاً إنكم عائدون } والمعنى فلم يكن حظهم حين أخذناهم بالعذاب إلا العويل والجؤار دون التوبة والاستغفار .
وقيل : هذا عذاب آخر سابق للعذاب المذكور آنفاً فيتركب هذا على التفاسير المتقدمة أنه عذاب الجوع الأول أو عذاب الجوع الثاني بالنسبة لعذاب يوم بدر .
والاستكانة : مصدر بمعنى الخضوع مشتقة من السكون لأن الذي يخضع يقطع الحركة أمام من خضع له ، فهو افتعال من السكون للدلالة على تمكن السكون وقوته . وألفه ألف الافتعال مثل الاضطراب ، والتاء زائدة كزيادتها في استعاذة .
وقيل الألف للإشباع ، أي زيدت في الاشتقاق فلازمت الكلمة . وليس ذلك من الإشباع الذي يستعمله المستعملون شذوذاً كقول طرفة :
أي ينبع . وأشار في « الكشاف » إلى الاستشهاد على الإشباع في نحوه إلى قول ابن هرمة :
وأنت من الغوائل حين ترمي *** ومن ذم الرجال بمنتزاح
ويبعد أن يكون { استكانوا } استفعالاً من الكون من جهتين : جهة مادته فإن معنى الكون فيه غير وجيه وجهة صيغته لأن حمل السين والتاء فيه على معنى الطلب غير واضح .
والتعبير بالمضارع في { يتضرعون } لدلالته على تجدد انتفاء تضرعهم . والتضرع : الدعاء بتذلل ، وتقدم في قوله : { لعلهم يتضرعون } في سورة الأنعام ( 42 ) . والقول في جملة { حتى إذا فتحنا عليهم باباً } كالقول في { حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب } [ المؤمنون : 64 ] .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.